ذكر في معنى ذلك عدة وجوه:
الأول: إذا بحث عن باطنها وقيس على ظاهرها، فقد وقف على معناها، أي انه المعنى المستلهم من الآية الموافق لظاهرها، ونسب هذا القول إلى الحسن بن علي (ع).
الثاني: أن القصص القرآني لها ظاهر هو الاخبار بهلاك الأولين، ولها باطن هو وعظ الآخرين وتحذيرهم أن يفعلوا كفعلهم فيحل بهم مثل ما حل بهم.
وهو قول أبي عبيدة ورجحه الزركشي والسيوطي.
الثالث: أن ما من آية إلا عمل بها قوم ولها قوم سيعملون بها، وقد نسب القول بذلك إلى ابن مسعود، إلا أنهم لم يبينوا هل أن المراد بالبطن هنا: المفهوم العام المنتزع من الآية والذي سينطبق على كل قوم انطبقت عليهم، فهو بذلك مشابه للرأي الثاني، أم أن المراد بالبطن هنا: المصداق، من حيث تحديد وتشخيص القوم الذين ستنطبق عليهم الآية.
الرابع: أن ظاهر الآية لفظها، وباطنها تأويلها، ونسبه الزركشي إلى بعض المتأخرين.
الخامس: أن ظهرها ما ظهر من معانيها لأهل العلم بالظاهر، وبطنها ما تضمنته من الأسرار التي أطلع الله عليها أرباب الحقائق.
ونسب السيوطي هذا الرأي إلى ابن النقيب.
ونحن إذا بحثنا الآراء المذكورة وجدنا:
أولاً: أنها تتفق جميعاً، ووفقاً لما في الروايات، على وجود بطن للآيات القرآنية.
ثانياً: أن معاني البطن هنا، تشترك في المساحة مع بعض معاني التأويل.
ثالثاً: أن المعنى المراد بالبطن ( التأويل) غالباً هو:
أ- المعنى العام المنتزع من الآيات وظواهرها، والذي لايتناقص مع ظواهر الآيات، بل أنها تدل عليها، ولكن لايراد به معنى الألفاظ وما تدل عليه ابتداءً، وما يسمى بالتفسير اللفظي للآيات. بل هو المعنى الثانوي للكلام في مقابل المعنى الأولي المعبر عنه بالظهر.
وفي القرآن أمثلة على ذلك، إذ ضرب الله أمثلة عديدة، وكان المطلوب فهمها والاعتبار بها، ونعى على الكافرين وقوفهم عند ظاهرها حتى قال الكفار: ما بال العنكبوت والذباب يذكر في القرآن ؟ فنزل: (إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) (البقرة/26)، إذ أنهم أخذوا بظاهر الآية ولم ينظروا في المراد فقال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ...) (البقرة/26).
وكذلك آيات القرآن الحاثة على التدبر وفقه القرآن وذم الكفار الذين لايكادون يفقهون حديثاً، فانّه لايريد منهم أنّهم لايفهمون ظاهر الكلام، وقد نزل بلغتهم، وإنما أراد أنهم لا يفهمون مراد الله من الخطاب لذا حضهم على أن يتدبروا في آياته... وذلك هو الباطن الذي جهلوه ولم يصلوا إليه بعقولهم.
ب- تحديد المصداق الذي تنطبق الآية عليه، أو في تحديد المصداق الخارجي الذي تجري عليه الآية لاحقاً، وما سميت موارده بالجري والتطبيق، ويفهم ذلك من الرأي المنسوب إلى ابن مسعود.
وعلى العموم فإنّنا نجد جل العلماء المفسرين، سنة وشيعة يتقبلون وجود بطن للآيات، على اختلافهم في تحديد البطن ومساحته، بل ذهب الكثير منهم إلى أنّ فهم القرآن وفقهه لايتحصل بمجرد تفسير الظاهر، فقد ورد عن ابن مسعود: " من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن ". وقال ابن الأثير في شرحه: أي لينقر عنه ويفكر في معانيه وتفسيره وقراءته.
وعن أبي الدرداء قال: لايفقه الرجل كل الفقه حتى يجعل للقرآن وجوهاً.
كما إنّ الكثير من الآيات القرآنية لايفهم معناها الدقيق إلا بتأويلها، أي فهم المعنى الكامن وراء اللفظ، لا الجمود على ظاهره، ومنها بعض آيات الصفات، والعرش والكرسي... إلخ، وقد كان السبب في انجرار البعض إلى القول في التشبيه، حتى أنهم أجروا ما ورد في صفات الله تعالى من آيات وروايات على ما يتعارف في الأجسام، ذلك أنهم قالوا: " لابد من إجرائها على ظاهرها والقول من غير تعرض للتأويل ولاتوقف في الظاهر، فوقعوا في التشبيه الصرف، وذلك على خلاف ما اعتقده السلف... ".
وإذا رجعنا إلى ما روي عن النبي (ص) في التفسير نجد أن الكثير منه كان في تأويل الآيات، سواء على صعيد انتزاع بعض المفاهيم الكلية من بعض الشواهد في الآيات القرآنية، أو في تحديد مصادق الآيات القرآنية أو حقيقة المعنى المقصود في الآية وهي مما تؤول إليه، ومن أمثلة ذلك:
- أخرج سعيد بن منصور وأبو يعلى والحاكم – وصححه – والبهيقي في الدلائل: عن جابر بن عبد الله، قال:
(جاء يهودي إلى النبي (ص) فقال: يا محمد ! أخبرني عن النجوم التي رآها يوسف ساجدة له، وما أسماؤها ؟....
(والشمس والقمر...) يعني أباه وامه رآها في افق السماء ساجدة له. فلما قص رؤياه على أبيه، قال: اُرى أمراً مشتتاً يجمعه الله).
- وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص): " السائحون هم الصائمون ".
- وأخرج أبو الشيخ وغيره عن أنس، قال: قال رسول الله (ص) في قوله: (قل بفضل الله) قال: القرآن، (وبرحمته) (يونس/58)، " أن جعلكم أهله ".
- وأخرج أحمد والشيخان وغيرهم، عن ابن مسعود، قال: لما نزلت هذه الآية (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) (الأنعام/82)، شق ذلك على الناس، فقالوا: يارسول الله ! وأيّنا لايظلم نفسه؟
قال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان/13)؟ " إنما هو الشرك ".
- وأخرج الحاكم – وصححه – عن أنس: أن رسول الله سئل عن قول الله تعالى: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) (آل عمران/97). ما السبيل؟ قال: " الزاد والراحلة ".
- وأخرج أحمد وغيره، عن أبي هريرة عن النبي ( ص ) في قوله: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) (الإسراء/79). قال: " هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي " وفي لفظ: " وهي الشفاعة ".
وفي القرآن ما يستحيل حمله على ظاهره، كما قال الزركشي، فيحصل على المؤول، لا المعنى الظاهر الراجع فيه، كقوله تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) (الإسراء/24)، فانه يستحيل حمله على الظاهر، لإستحالة أن يكون آدمي له أجنحة، فيحمل على الخضوع وحسن الخلق.
وكقوله تعالى: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) (الإسراء/13)، يستحيل أن يشد في القيامة في عنق كل طائع وعاص وغيرهما طير من الطيور، فوجب حمله على الكتاب في الحساب لكل واحد منهم بعينه.
(والانتقال من المعنى الأولي الظاهر، إلى المعنى الباطن المكتسب بالتدير والتأمل، يعطي لفهم الآية القرآنية أبعاداً إضافية واسعة وعالية المرام، وهي لاتقع في عرض المعنى الظاهر بل في طوله، فإنّ إرادة الظاهرلاتنفي إرادة الباطن، كما إن إرادة الباطن لاتزاحم إرادة الظاهر.
فعند التدبر في قوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) (النساء/36 )، والآيات المشابهة لها، نرى انه تعالى ينهى عن عبادة الأصنام، وعندما نتوسع بعض التوسع نرى النهي عن عبادة غير الله.. ثم النهي عن عبادة الإنسان نفسه باتباع شهواتها. أما لو توسعنا أكثر فنرى النهي عن الغفلة عن الله والتوجه إلى غيره أياً ما كان ذلك الغير.
إن هذا التدرج من المعنى البدائي الظاهر إلى معان أخرى أوسع فأوسع جار في جميع الآيات، وهو المقصود بالبطن. إذ تكون ظواهر الآيات كأمثال للبواطن، تقرب المعارف إلى الأفهام. بحسب مستواها، وعلى قدر عقولها.
المصدر: كتاب التفسير بالمأثور وتطويره عند الشيعة الإمامية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق