الواقع الإجتماعي من خلال القرآن الكريم:
يمكننا متابعة الواقع الإجتماعي لرسالة إبراهيم في القرآن الكريم من خلال الوقفات الآتية:
1- كانت الإمامة أكبر الإبتلاءات لإبراهيم (ع)؛ وهي تكليف لا تشريف: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا...) (البقرة/ 124).
2- أساس الإمامة وسبيل الوصول إليها ليس النّسب، وإنَّما العدل: (.. قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة/ 124).
3- توحيد التّوجُّه والهدف مُهمٌّ جدّاً في البناء الجماعي والإيماني: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا...) (البقرة/ 125).
ومُجاهد: أنّه لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يتمنّى العَود إليه، قال الله تعالى: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) (إبراهيم/ 37)، وقيل مثابة؛ أي يحجُّون إليه، فيُثابون عليه.
4- دعوة إبراهيم (ع) كانت خالصة في طلب الأمن ورزق الناس من الطيِّبات؛ فهي دعوة واقعية تلبِّي الإحتياجات المُجتمعية للمُسلم وغيره: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (البقرة/ 126).
5- أهمية المكان في الدعوة كانت بادية في رفع القواعد من البيت، وذلك من قِبَل إبراهيم وإسماعيل (ع): (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ...) (البقرة/ 127).
6- كان هدف إبراهيم وإسماعيل بناء الذُّرية المكوِّنة للأُمَّة المٍُسلمة: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ...) (البقرة/ 128).
7- إستمرار الرِّسالات ضرورة من ضرورات الوجود البشري: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ...) (البقرة/ 129).
8- السُّفهاء وأهل الجهل هم الرَّاغبون عن مِلَّة إمام الحُنفاء إبراهيم (ع): (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ...) (البقرة/ 130).
9- الأنبياء والمُرسَلُون أعلى الناس عقلاً وحكمة، وتجلَّى ذلك في مُحاججة إبراهيم (ع) للنُمرود.
10- كان إنتماء إبراهيم (ع) إسلامياً خالصاً، ولم يكن يهوديّاً ولا نصرانيّاً، فهذه مناهج اعتراها التَّحريف والتبديل، فكانت الحاجة ماسّة للرُّجوع إلى عهد التوحيد الخالص، فكانت دعوة إمام المُرسلين سيِّدنا محمد (ص)، وفي ذلك قوله تعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا...) (آل عمران/ 67).
11- لم تمنع العلاقة الإجتماعية بين إبراهيم وأبيه – والتي حافظ عليها إبراهيم (ع) غاية المُحافظة حتى النهاية – لم تمنعه من الجدِّ بدعوة الله – تعالى – وعدم المُجاملة على ثوابت الدِّين: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الأنعام/ 74)، أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: (آزر الصَّنم، وأبو إبراهيم اسمه يازر، وأُمُّه اسمها سارة، وسريّته أمُّ إسماعيل اسمها هاجر).
12- كانت ظاهرة الوصول إلى اليقين عن طريق آيات الكون واضحة وبادية في حوار إبراهيم (ع) مع الكواكب: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (الأنعام/ 76-78).
13- ربُّما يُضظرُّ الدُّعاة إلى الله تعالى – وعلى رأسهم الرُّسُل – للهجرة والإنتقال إلى مكان يُؤسِّسون فيه قواعد الإيمان، فيكون الوطن الجديد الذي يحمي الدعوة: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم/ 37).
14- الثابت على الحقِّ يُمثِّل أُمَّة، فلا عبرة بكثرة الهالكين: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل/ 120).
15- إعتزال الباطل مفتاح الخير؛ وهو شخصي إنْ لم يكن مُجتمعيّاً: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا) (مريم/ 49).
16- لم يكن شاغلُ الرُّسُل الإجتماعي داعياً لتفريطهم بلبنة البناء الإجتماعي؛ وهو الأسرة: (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) (مريم/ 55).
17- المُواجهة بين الحقِّ والباطل لابُدّ منها، وذلك بعد أن يعجز الباطل عن إقامة الحُجَّة على الحقِّ، ظهر ذلك جليّاً في سورة الأنبياء: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ) (الأنبياء/ 51-72).
18- قال الإمام مُحمّد بن الحسن الشّيباني صاحب أبي حنيفة رحمها الله تعالى: ولا (بأس أنْ يحمل الرجل وحده على المُشركين، وإنّ كان غالب رأيه أنّه يُقتل، إذا كان في غالب رأيه أنّه يُنكِّي فيهم بقتلٍ أو جَرحٍ أو هزيمة، وإنْ كان غالب رأيه أنّه لا يُنكِّي فيهم أصلاً لا بقتلٍ ولا بجرحٍ ولا بهزيمة ويُقتل هو، فإنّه في هذه الحالة لا يُباح له أن يحمل وحده على العدوِّ).
19- أذان الحجّ مُؤتمرٌ جامع إلى اليوم، ولأهل الصّدق آذان تسمعهم: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحج/ 27).
20- توجُّه الأُمّة إلى الله – تعالى – في أنّ مُطعمها ومُشفيها ومُحييها ومُميتها هو الله عاصم لها من الإرتماء في أحضان الأراذل: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لأبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) (الشعراء/ 78-87).
- فقه السِّياسة ومعالم الدَّعوة في رسالة إبراهيم (ع):
بَعدَ أن توقَّفنا عند كتاب الله تعالى – وهو يُؤرِّخ لدعوة إبراهيم (ع) بمراحلها كافّة – فإنّنا نُحدِّد – هنا – معالم فقه السِّياسة لهذه الدَّعوة المُباركة، وكما يأتي:
1- لا يمكن أنْ تنطلق مسيرة من دون إمام، أو قائد، أو مُرشد.
2- العدل أساس المُلك، والظُّلم بداية الإنكفاء، أمّا النَّسب، فلا موقع له في دعوة إبراهيم (ع).
3- لم يكن توجُّه الناس واضحاً من حيثُ المكان في دعوة نُوح (ع)، بينما كان واضحاً جليّاً في دعوة إبراهيم (ع) بالتوجُّه إلى المثابة؛ وهو البيت العتيق.
4- كُلُّ منهج لا يحلُّ المُشكلة الإجتماعية للناس، ولا يتبنّى أهل الحاجات، فهو منهج فلسفي وخيالي، لذلك كان المنهج الإبراهيمي واقعياً في طرح مُشكلة يطلب لها الحلَّ، وهو إفتقار الوادي غير ذي الزّرع إلى الرّزق والمعاش، وهذا الإفتقار يُولِّد الحاجة وفقد الأمان، فأكثر ما ينشأ الإجرام، وتُعشِّش السَّرقات في العوالم المُحتاجة واليائسة، لذلك التجأ إبراهيم (ع) إلى الله – تعالى – في حلِّ هذه المُشكلة، وكان الحلُّ.
5- كان هدف إبراهيم (ع) بناء الأُمَّة المُسلمة عن طريق الذُّرية المُسلمة، وهذا يُمثِّل إنتقالة كبيرة في سلسلة الرِّسالات.
6- كانت الرِّسالة الإبراهيمة تكامُليَّة بكُلِّ ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، فهي تدعو إلى إستمرار سلسلة الرِّسالات في الدُّهور المُتعاقبة، باعتبار أنّ البلاغ مسؤوليَّة الجميع، وقد خصَّ الدُّعاء ببعث الرسول الكريم مُحمّد (ص) بوصفه مُتميِّزاً بختم الرِّسالة.
7- الأسرة هي أساس البناء الرَّصين لإعداد الأُمّة، وقد ظهر واضحاً الإشكال الكبير الذي وَلَّده إنتقال ابن نُوح (ع) إلى مُعسكر الخصوم، ممّا جعل إبراهيم (ع) يُركِّز تركيزاً كبيراً على تكوين الأسرة المُسلمة، وقد ظهر ذلك جليّاً في دعوته لأبيه بالحُسنى، ودُعائه لله – تعالى – بالذُّريَّة المُسلمة.
- المُقارنة مع فقه السِّياسة الإسلاميَّة:
عندما نُدقِّقُ في الفقه السِّياسي لإبراهيم (ع)، ونُقارنه بالفقه السِّياسي الإسلامي، نجد كثيراً من المُشتركات من حيثُ البداية والخاتمة، ويمكننا عندما نُقارن بينهما تحديد النقاط الآتية:
1- كانت الإمامة في الفقه السِّياسي الإسلامي مُرتبطة بوجود دولة، ودُستور، ونُظَم ومُؤسَّسات، بينما كانت الإمامة في الفقه السِّياسي لإبراهيم (ع) حركة تربويّة إيمانيّة.
2- جَمَعَ الفقه السِّياسي الإسلامي بين العدل المُؤهِّل للإمامة وبين العُصبة التي تحميه (الأئمَّة من قُريش)، كما أنّ الدعوة الإسلاميّة قد وظَّفت النِّظام القبلي الذي ينصُّ على شرعيّة الحماية، وذلك لصالح حماية الدُّعاء، وعلى رأسهم الرَّسول الكريم، بينما كان النِّظام القبلي في رسالة إبراهيم (ع) خصماً عنيداً للرِّسالة، مُمثِّلاً بأبيه، نتج عنه – في النّهاية – هجرة إبراهيم (ع) من العراق، وهكذا يجمع الإسلام بين ما يتصوُّره الكثيرون مُتناقضاً.
3- لقد كان في توحيد التّوجُّه والقبلة في رسالة إبراهيم (ع) بداية طيِّبة ومُباركة، غير أنّ الإسلام أضاف إليها نظاماً عباديّاً دقيقاً يُحقِّق الهدف والمقصد معاً.
4- إذا كان الفقه السِّياسي لإبراهيم (ع) دَفْعَهُ إلى تحقيق الأمن الإجتماعي والكفالة المُجتمعيَّة عن طريق الدّعاء، فإنّ الفقه السِّياسي الإسلامي جعل الإستجابة للحاجة المُجتمعيَّة أساساً يتعبَّد المُسلم به، وهو عَمَلٌ رُبَّما يتجاوز في الأمر ثواب الصّائم القائم.
5- كانت الهجرة عملاً عملاقاً لإبراهيم (ع) في تكوين الذُّريَّة والأُمَّة المُسلمة، إلاَّ أنَّ الهجرة المُحمَّدية كانت ترمي إلى هدف أعمق وأكبر؛ وهو العودة إلى مكان الهجرة، وضمُّه إلى الدَّولة الإسلاميِّة، بينما لم يكن ذلك حاصلاً في هجرة إبراهيم (ع)، وقد تمثَّل ذلك في الصِّراع الذي حصل آنذاك على أرض العراق.
6- اعتزل إبراهيم (ع) المجتمع المُشرك، بينما كان النبي الكريم يُصلِّي في الكعبة في العهد المكِّي، وفيها ثلاثمائة وستُّون صنماً، وفرق بين الإعتزال وبين مُهاجمة الباطل بالحُجَّة المُفضية إلى إعتزاله معنوياً وحسِّياً، وقد ظهر الفارق واضحاً، فمع أنّ ما تُمثِّله الصَّنميّة من خطرٍ على الرِّسالتين، إلاَّ أنّ الرسالة الأولى سلكت طريق التّهديم باليد، بينما سلكت الرِّسالة الخاتمة طريق التُدرُّج بالمنهج المرحلي.
كان مفهوم التّجمُّع في رسالة إبراهيم (ع) مبنيّاً على الحقِّ المحض، بينما كان الفقه الإسلامي السِّياسي يرمي إلى التعامل مع الآخرين على وفق سياسة المراحل والدّرجات، فمنهم مَن يتمُّ التعامل معه على أساس الحقِّ المحض، وهم النُّخب؛ ومنهم مَنْ يبحث معه عن المُشتركات، وهذا غير مُستغرَب على رسالة جاءت لتحقيق أمل المُجتمع، وتأسيس دولة، ونُظُم متكاملة، بينما كانت رسالة إبراهيم (ع) رسالة مرحلة اقتضتها مُستحقَّات التّأسيس والبناء.
المصدر: كتاب الفقه السياسي الإسلامي
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق