◄اليوم الحاسم:
يتوجّه القرآن الكريم إلى الناس، جميعاً طالباً منهم أن يتّقوا اللهَ ويطيعوه في أوامره ونواهيه، وأن يتحرّكوا في خطّ طاعته ويبتعدوا عن معصيته، لأنّ مصيرهم في يوم القيامة ينطلق من سلوكهم في الدنيا، فمن كان سلوكه منفتحاً على الله، فإنّه سيلتقي برضوان الله ورحمته في يوم القيامة ليدخل جنّة الله ويعيش في جنب الله، ومَن كانت حياته مع الشيطان في فكره الشيطانيّ وعاطفته الشيطانية وعلاقاته الشيطانية، فإنّ من الطبيعي أن يلتقي بالشيطان في يوم القيامة، وأن يكون مصيرهما واحداً، لأنّ أصحاب الإنسان في الدنيا هم أصحابه في الآخرة، وقادته في الدنيا هم قادته في الآخرة.. ولذلك، لابدّ للإنسان أن يتقي ربّه في كلامه، فلا يتكلّم إلّا بما فيه رضىً لله، وأن يتقي ربّه في أعماله فلا يقومنّ بعمل إلّا إذا عرف أنّ هذا العمل يرضاه الله، ولابدّ له أن يتقي اللهَ في علاقاته، فلا يُنشىء أيّة علاقة مع أيّ إنسان إلّا إذا تيقّن أنّ هذه العلاقة يرضى الله عنها.. ولذا، عليه أن يدرس موقعه من ربِّه في موقعه من حياته، وبأن يكون الله تعالى هو النور الذي يُشرق في عقله وقلبه ومشاعره ليرى من خلاله كلَّ شيء، وليكتشف به الطريق المستقيم.
ومن هنا، فإنّ الله سبحانه يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) (الحج/ 1-2).
يوم القيامة يمثّل اليوم الحاسم، وليست أيام الدنيا هي الحاسمة، ربما تمرّ علينا أيامٌ في الدنيا فيها الكثير من الجهد والتعب والعناء والألم، ولكنّ هذه الأيام مهما بلغت صعوباتها، فإنّها أيامٌ تذهب وتزول وقد نلاقي الخير من خلال صعوباتها.. فنحن عندما نعيش الواقع الصعب من خلال إيماننا بربنا والتزامنا بشريعته ومولاتنا لأوليائه ومعاداتنا لأعدائه، فإننا ننتظر من وراء ذلك الجهد والصبر الدرجة الرفيعة والنعيمَ الخالدَ عند الله، ولذلك، فإنّنا عندما نواجه يوم القيامة على أساسٍ من الصبر على طاعة الله والصبر عن معصية الله، والصبر على بلائه، فإنّ الملائكة تتلقّانا كما حدّث الله سبحانه: (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرّعد/ 23-24)، فالملائكة يسلّمون علينا بسبب صبرنا على الآلام التي نتحملها في طريق الله وفي طريق طاعته، سواءً كانت آلاماً نفسيّة أو جسديّة أو اجتماعية أو سياسيّة أو ما إلى ذلك. فالأيام الصعبة في الدنيا قد تُنتج لك أياماً حلوة سهلة ليّنة في الآخرة.
يوم الدنيا يحدد يوم الآخرة:
ويأتي الإنسان إلى الآخرة حيث يلاقي اليوم الصعب، والله تعالى يحدّثنا عن ذلك (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)، والزلزلة كنايةٌ عن يوم القيامة، فالإنسان يعيش زلزالاً في ذلك اليوم، لأنّه اليوم الحاسم الذي يتحدّد فيه مصيره، إمّا إلى جنّة خالدة وإمّا إلى نار خالدة، وليس هناك مستقبلٌ آخر.. فإذا فقدت طموحاتك وأحلامك في مستقبل الدنيا، فإنك تأمل في مستقبل الآخرة، ولكنّك إذا فقدت طموحاتك وآمالك وأمنياتك في مستقبل الآخرة، فأيُّ مستقبل آخر بعده؟ هو اليوم الآخر، ليس هناك يوم آخر غيره. إذاً، إنّ يومك في الدنيا، هو الذي يحدّد يومك في الآخرة، فإذا كان يومك يوم طاعة، فيومك في الآخرة يوم راحة، وإن كان يومك يوم معصية، فيومك في الآخرة، يوم تعب، وقد حدثنا الله تعالى عن ذلك فقال: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا) (طه/ 124-125)، فمن يُعرض عن ذكر الله وشريعته فإنّه يتخبّط ولا يهتدي طريقه. لذلك يجب على الإنسان أن ينظر إلى اليوم الذي يتحدّد فيه مصيره، حيث يُؤمَر بهذا إلى النار وبذاك إلى الجنّة، وكلٌّ مشغولٌ في ذلك اليوم العظيم بنفسه، كما يعبّر الإمام زين العابدين (ع) عن ذلك في دعائه: "وَمَالي لا أبكي، ولا أدري إلى ما يكون إليه مصيري وأرى نفسي تخادعني وأيّامي تخاتلني وقد خفقت فوق رأسي أجنحة الموت، فمالي لا أبكي، أبكي لخروج نفسي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لسؤال منكرٍ ونكيرٍ إيّاي، أبكي لخروجي من قبري عرياناً ذليلاً حاملاً ثقلي على ظهري، أنظر مرّة عن يميني وأخرى عن شمالي، إذ الخلائق في شأنٍ غير شأني، لكلّ امرئٍ منهم يومئذ شأنٌ يُغنيه، وجوهٌ يومئذ مُسْفِرَة ضاحكةٌ مستبشرة ووجوهٌ عليها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قترةٌ وذِلَةٌ".
هذا هو الجوُّ الذي يهتز الإنسان فيه، وأيُّ زلزالٍ أعظم من زلزال يوم القيامة؟ إنّه زلزال النفس، ويحدّثنا الله عن الزلزال الذي عاشه المسلمون في وقعة الأحزاب (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا) (الأحزاب/ 10-11)، هذا هو زلزال الحيرة والخوف والقلق، وإذا كان هذا الزلزال يسيطر على الإنسان حال مواجهته للعدوّ، فكيف بزلزال يوم القيامة؟
الوقاية من الزلزال:
ومع هول هذا الزلزال، فإنّ الإنسان قادرٌ على أن يتفاداه يوم القيامة إذا ما اتّقى الله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)، وتقوى الله تعني ألّا يفقدك سبحانه حيث أمرك ولا يجدك حيث نهاك، وأن تكون في الموقع الذي يحب الله لك فيه أن تكون. إذا اتّقيت ربّك وراقبته وحسبت حسابه في كلِّ موقف وموقع وعلاقة، فإنّك بذلك تتفادى الزلزال النفسي يوم القيامة وتعيش الطمأنينة في مقابل القلق والإحساس بالضياع والتمزّق النفسي، والطمأنينة في مقابل القلق والإحساس بالضياع والتمزّق النفسي، والطمأنينة لا تكون إلّا بالله، وهذا ما تعيشه النفس المطمئنة التقية الورعة المنفتحة على الله، وصاحبها يقول: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ) (الحاقة/ 19-20)، عندما كنت في الدنيا كنت أحسب حساب الله (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ) (الحاقة/ 21-24).
هي سكينة التقوى في نفس الإنسان التي تجعله في الدنيا والآخرة مطمئناً.. وهذا رسولُ الله (ص) يعيش أسمى سكينةٍ داخلية، حيث قريش تعمل على قتله ليلة الهجرة، فيهرب بعد أن ينام عليٌّ (ع) في فراشه، فتلاحقه قريش لتقتله، فيدخل الغار، وبينه وبينهم أشبار، وهم يفكرون بالدخول إليه، وهو يمتلئ (ص) هدوءاً وثقة بالله سبحانه (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة/ 40).
وفي آية أخرى: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (الفتح/ 26)، ما دام المؤمن مع الله تغمره السكينة فإنّه لا يبالي، وهذا ما قاله رسول الله (ص): "إن لم يكن بك غَضَبٌ عليَّ فلا أبالي" اضطهده الناس أو لاحقوه وفعلوا ما يشاؤون، فطالما أنّ الله يراه وهو راضٍ عنه فلا مشكلة. وهذا ما عاشه الحسين (ع) يوم كربلاء حيث قال: "هَوّن ما نزل بين أنّه بعين الله".
فالذي تسكن الطمأنينة في قلبه لا يرى شيئاً إلّا ويرى اللهَ تعالى أمامه وخلفه، وباستمرار يتوجّه إلى ربِّه قائلاً: "يا عدتي في كربتي ويا صاحبي في شدّتي" فعندما يعيش الشدّة والضيق والضغط، لا يشعر بأنّه وحده مستفرَد، بل يُحسّ بأنّه سبحانه يرعى خطواته لأنّه يعتدُّ به ويلجأ إليه إذا كان في حال كربة، وإذا ضغطت عليه الشدائد فإنّه سبحانه يقوِّيه "ويا ولييّ في نعمتي" فعندما يحصل على النعمة، فإنّه يقدّم الشكر لخالقه، وإذا فقدها، فإنّه لا يشعر بالقلق لأنّها ستأتيه في يوم آخر، كون الله سبحانه وليّاً له في نعمته.
فالإيمان والتقوى يجعلان منك إنساناً تعيش كلَّ الأمل في قلبك، وتعيش كلَّ الثبات في موقفك.
ونعود إلى الآية الكريمة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ)، لا يوجد من هو أكثرُ حناناً من إنسان على إنسان، كما هو حنان المرضعة على رضيعها، ومع ذلك، فإنّها في ذلك اليوم ومن سكرة القلق والخوف والحيرة، تترك كلُّ أمٍ وليدَها (وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا)، من الخوف والرعب (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى)، ليس من شرب الخمر، بل من الزلزال النفسي القاسي الذي يعيشونه (وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ).
هذه هي المسألة التي يجب أن نفكّر بها عندما نضع رؤوسنا على الوسادة، ألا نقرأ في الدعاء: "وإذا انقضت أيّامُ حياتنا وتصرّمت مُدَدُ أعمالنا واستحضرتنا دعوتك التي لابدّ منها ومن إجابتها فصلِّ على محمّدٍ وآله واجعل ختام ما تحصي علينا كَتَبةُ أعمالنا توبةً مقبولةَ، لا توقفنا بعدها على ذنب اجترحناه ولا معصية اقترفناها، ولا تكشف عنا ستراً سترتَه على رؤوس الأشهاد يوم تبلو أخبار عبادك إنّك رحيم بمن دعاك، ومستجيبٌ لمن ناداك" كلُّ واحدٍ منا عندما ينام فليجعل توبته تحت رأسه، لأنّه يمكن أن يموت وهو نائم، فليتذكّر ذنوبه وسيئاته ويفتح قلبه لله "اللّهمّ إنِّي أتوب إليك في مقامي هذا من كبائر ذنوبي وصغائرها وبواطن سيئاتي وظواهرها وسوالف زلّاتي وحوادثها توبة مَن لا يحدّث نفسه بمعصية ولا يضمر أن يعود في خطيئة وقد قلتَ في محكم كتابك إنّك تقبل التوبةَ عن عبادك وتعفو عن السيئات وتحبّ التوّابين فاقبل توبتي كما وعدت واعفُ عن سيئاتي كما ضمنت وأوجب لي محبتك كما شرطت" فليستحضر الإنسانُ التوبة في نفسه حتى يكون في حال استعداد دائم بحيث إذا جاءه الموت يكون مستعدّاً، لذلك (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطفّفين/ 26).
المصدر: كتاب من عرفان القرآن
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق