• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

بين الفلسفة والدين

بين الفلسفة والدين

  لابدّ لنا من ساعة تفكير، نفيء في خلالها إلى ظلال العقل نستمدُّ منه المعرفة والعون، لاجتياز المراحل العسيرة، وعبور الدروب الضيقة، وخاصةً عندما تتكاثف المواضيع الصعبة، وتبرز إلى المجال حاملةً معها التعقيد والرموز والمعميات.

موضوع الفلسفة والدين الذي نعالجه الآن، مازال منذ مطلع القرن الثالث للهجرة حتى يومنا هذا، الشغل الشاغل للعديد من الباحثين والدارسين العرب والأجانب. ومن الواضح: أنّ الباحث فيه لابدّ له أن يواجه سبيلاً عسيراً محفوفاً بالعثرات، وربما أدّى إلى نفق مظلم يحجب في عمقه الآمال والأهداف والجهود... فالتفريق بين الفلاسفة ورجال الدين والفقهاء وعلماء الكلام، ليس من السهولة بالقدر الذي نتصوره. أما أسلوب معالجته، فيحتاج إلى المزيد من الوعي والعناية والدرس والتنقيب. هذه مقدمة موجزة، أو مدخل إلى البحث الذي نحن في صدده. فكلمة فلسفة تفسّر الحكمة أو معرفة الأشياء بمبادئها وأسسها وأصولها – بعدها وقربها – عللها الأولى... وهي كلمة أغريقية مركبة في الأصل من "فيليا" أي المحبة، ومن "صوفيا" أي الحكمة، فيكون معناها "محبة الحكمة". وبمعنى آخر هي: الوصول إلى أعماق الحقائق للموجودات، ثمّ القول والعمل بما يوافق العلم والعقل وادراك باطن الأشياء، وما وراء الأصول، وهي ضد التصديق والاستسلام والإيمان دون بيّنة أو برهان. وقد قسموها إلى أربعة أقسام: الأوّل: الرياضيات، ويتفرع منها العدد، والهندسة، وعلم الكلام، والجبر، والهندسة. الثاني: المنطقيات، ويتفرع منها الشعر، والخطابة، والمناظرة، والبرهان. الثالث: الطبيعيات، وهي المبادئ الجسمانية، وعلم الإجرام، والعوالم، والكون والفساد، والطبيعة وما فيها من معادن ونبات وحيوان. الرابع: الماورئيات، وهي المبدعات، والروحانيات، والغيض، والانبثاق، والجواهر البسيطة العقلية، وعلم النفس، والأرواح السارية في الأجسام الفلكية والطبيعية، وعلم السياسة وما يتفرع منها كالسياسة النبوية والملكية، والعامية الخاصة والذاتية. فعلى ضوء ما ذكرناه يمكن القول: إنّ الفلسفة العربية التي شقت طريقها إلى الأفكار في عهدٍ مبكرٍ من ظهور الإسلام.. هذه الفلسفة كان مقدراً لها أن تمر بمراحل متقلبة ومعقدة، بل كان مفروضاً عليها أن تخضع إلى أعاصير الأزمنة الهوجاء، ورياح الأجواء العاتية... وها هي التي اليوم لا تزال تتعرض إلى هبات قاسية من التعليقات والإجتهادات والدراسات التي أقل ما يقال عنها أنها تختلف باختلاف معلومات الباحثين والدارسين واجتهاداتهم في حقول التفسير والتأويل، وفهم معاني الرموز والمغمضات. وعندما نقول: إنّ بعض هذه الدراسات والبحوث أهمل أصحابها العديد من الجوانب، واكتفوا ببعض الشروح والإضافات المتباينة والمنقولة، فنكون قد أصبنا كبد الحقيقة، لأنّ هذه البحوث كانت بمجملها بعيدة عن الواقع، ومتخلفة عن الجوهر، وذات فروع عديدة. وبالجملة: فإن أهم ما كان يدور على مسرح الفلسفة في تلك العصور ينحصر بين فرقاء ثلاثة: فريق: يرى أنّ الفلسفة يجب أن تكون بمنجاة من قيود الدين، أو بلغة أصح اعتبار الدين خاضعاً ومستمداً منها في كافة الأحوال. وفريق ثان: يعمل لإبعاد الفلسفة كلياً عن الدين، لأنها على حد زعمه تدخل عليه الفساد، وتضعه تحت سهام الشرور والمحن. أما الفريق الثالث: فكان يخطط ويعمل للتوفيق بين النظريتين أي بين الدين والفلسفة، وهذا هو الأهم والأكثر بروزاً على المسرح. وليس غريباً أن يستمر الصراع بين تلك العناصر التي تجند ممثلوها، وبرزوا إلى الميادين يحملون سلاح الجدل والكلام للذود عن العقائد والأفكار التي يدين بها كل منهم. لقد كان الصراع بين الفلاسفة من جهة، والمتكلمين ورجال الدين المتفقهين من جهة أخرى قائماً وموجوداً منذ عهد ابن سينا، ثمّ استمر هذا الصراع حتى عهد ابن رشد، وختمه نصير الدين الطوسي الذي يعتبر آخر فيلسوف إسلامي ظهر على مسرح الفلسفة العربية. بعد هذا... يقضي الواجب العلمي علينا أن نعرف كلمة فيلسوف.. فنقول: الفيلسوف هو الذي نهل من ينبوع الحكمة، وآمن بالعقل، واعتبر الدين قضية ثانوية كان ينظر إليها من زاويته الخاصة. والفيلسوف هو الذي هضم كافة العلوم السائدة في عصره، وصار بالإمكان اطلاق كلمة موسوعي أو أكاديمي عليه. فالفيلسوف أيضاً حتى يحوز على هذا اللقب. عليه أن يكون متفوقاً في الأدب، والشعر، وعلم اللغة وكتابة القصة، والرسم، والموسيقى، والسياسة، والفلك، والرياضيات، والطب، والكيمياء، والتاريخ، والجغرافيا... هذا بالإضافة إلى لغات أجنبية أخرى.. ومعنى كل هذا يجب أن يكون دائرة معارف قائمة بذاتها، وجامعة لكافة أبواب المعرفة، وهذا النوع من العباقرة قليل، وقد لا يجود الدهر به إلا نادراً. أجل.. لقد كان الصراع بين رجال الدين والفلاسفة قائماً منذ القديم، واستمر كما ذكرنا حتى جاء الغزالي فاتخذ الموضوع اتجاهاً آخر، لأن مباحث الغزالي في هذا الصدد اعتبرها البعض فلسفية، وأنكرها بعض الدارسين بقولهم أنها أطروحات كلامية استهدفت التغطية على الفلسفة مع فكرة تحويلها إلى ما يسمى فلسفة دينية بحتة. فعلم الكلام قد يكون اندمج في ذلك العصر بالفلسفة من طرف واحد أو بلغة أصح ربما يكون قد توجه في إتجاهها، لأن مباحث المتكلمين ظلت بالرغم من تشبعها بالروح الفلسفية تأخذ منهجاً عن الفلسفة بوجه العموم، ويبدو أنّ الفلسفة لم تستطع استيعاب علم الكلام تماماً بالرغم من ادخال المنطق في مناهج المتكلمين. وعلى كل حال فيمكن القول: إنّ علم الكلام لم يخرج عن كونه مجموعة أبحاث وتفسيرات وشروح تدور حول قضايا الدين. فمعنى الكلام عندهم هو كلام الله ذهاباً مع الإيمان بأن ما ورد في الكتب السماوية إنما هو لكلام الله، والمسلمون على العموم يعتقدون أنّ الكتب السماوية منزلة من عند الله. إذن فقد يكون لأصحاب علم الكلام نظريات فلسفية مقررة ومعتمدة. ولكن الحقيقة تأبى إلا البروز على الساحة والإفصاح عن علم الكلام باعتباره لا يخرج عن كونه شرحاً وتفسيراً للآيات والسور القرآنية التي كانت تتلى في المساجد والنوادي ولكن هذا العلم تطور، وظل سائراً في سبيله حتى أصبح علماً واضح المعالم يتجادل به الناس عبر الكتب، كما أن بعض الفرق الإسلامية اعتمدته أساساً للتعبير عن عقائدها ومبادئها، ويجب أن لا ننسى بأنّ التيار الإسلامي الديني المضاد للفلسفة كان يعتبر الفلاسفة مجرد ممثلين للكفر والإلحاد دون تفريق بين القدماء أو المحدثين – الأوائل أو الأواخر – وقد قسمهم إلى ثلاثة: أول: الدهريون، وهم الذين جحدوا الله وأنكروا وجوده. ثانٍ: الطبيعيون، وهم الذين آمنوا بالله، غير أنهم أنكروا القيامة والبعث واليوم الآخر وخلود النفس. ثالث: الإلهيون، وهم الذين آمنوا بالله واليوم الآخر، ولكنهم أتوا بعقائد جديدة وبدع مستوردة فيها الكفر والإلحاد. ولا يمكن الدخول في جدل أو مناقشة مع الدهريين والطبيعيين لأنّهم زنادقة لا جدوى من مناقشتهم، والدخول في حديث معهم [وهذا على حد قولهم]. أما الإلهيون فبعض علومهم صحيحة كالرياضيات والسياسة والمنطق والأخلاق والتربية. لقد هاجم "الغزالي" في كتابه "التهافت" الفلاسفة وكفرهم لأنهم على حد قوله يقولون: إنّ الله يعلم الكليات، ولا يعلم الجزئيات. كما أنّه انتقد اعتقاداتهم القائلة بقدم العالم، وبفيض العقول، وقد غاب عنه ما في هذه المبادئ من الدقة والعمق. ومن الواضح أنّه كان يعبر عن آراء "الأشعرية" وعلى الأخص عندما كان يتطرق لمبدأ "العقلية"، ولمبدأ ابن سينا الذي يبني الممكنات التي لا قدرة لها على الوجود بذاتها... وقد ردَّ عليه "ابن رشد" في كتابه "تهافت التهافت" بقوله: إنّ الفلاسفة يرون أنّ الله يعلم بعلم غير مجانس لعلمنا. فعلمنا معلول للمعلوم به، فهو محدث بحدوثه، ومتغير بتغيره، بينما علم الله علة للمعلوم، ومن شبه العلمين أحدهما بالآخر أو جعل العلمين المتقابلين بخواص واحدة، فيكون قد هبط إلى درك الجهالة. أجل.. لقد هاجم الغزالي الفلاسفة، وقسمتهم إلى فئات، ونقض آراء فلاسفة الإغريق وفلاسفة العرب الذين أخذوا عنهم أمثال: الفارابي، وابن سينا. وقد راجع مجموع المسائل التي بحثوا فيها إلى عشرين مسألة: أهمها قدم العالم، وحشر الأجسام، ونظرية السببية. وقد علمنا أن ابن رشد ردَّ عليه، وسخف أقواله، وأحبط مساعيه. إنّ هجوم الغزالي لم يكن موضوعياً لأنّه لم يجد ثغرةً ينفذ منها إلى حرم الفلسفة سوى الدين، وكأن به أراد أن يحصل على ثقة الأكثرية من رجال الدين المسلمين، ومن الخليفة والوزراء "الأشعريين" الذين كانوا يسيطرون على مقاليد الحكم والسياسة، ويخوضون أعنف معركة مع الفلاسفة في ذلك العصر. من جهة ثانية... ومن الواضح أنّ الغزالي كان يسعى إلى التجديد بالبنية الدينية، غير أن محاولة لم يكتب لها النجاح أمام التيارات والعلوم التي كانت تنتشر في مدارس الفلاسفة فيتناقلها الطلاب، ويحملونها إلى كل مكان. وهناك رأي يمكن استخلاص حقيقته بسهولة بعد درس كتب الغزالي الكلامية ومقارنتها بكتبه المضنونة: إنّه عندما بدأ بنقد الفلاسفة والباطنية أصبح غيره عندما كتب فلسفته الخاصة، ثمّ غيره وهو يرفض كل شيء ليتقمص صوفياً منقطعاً "معتزلاً"... وإذا كان يبدو أنّه ضد الباطنية وجدلياً معارضاً، فهو في كتابه الذي ردَّ فيه على الفلاسفة سوفسطائياً تبدو عليه روح المناقضة في كل منحى سلكه معهم، وقد يكون عن غير إدراك ذهب إلى حد تقريب الفلسفة من قواعد الدين. مما يدعونا إلى القول: إنّ "الباقلاني" و"البغدادي" وهما من أقطاب "الأشعرية" وفرسان علم الكلام قد سبقاه إلى مثل هذه الأساليب عندما وجها إلى الفيلسوف "الكرماني" نقداً اعتبراه فيه بأنّه من المعطلة – وذلك على حد قولهما أنّه ينفي الصفات عن الباري عزّ وجلّ. ولكن الكرماني أجاب على النقد بقوله: إنّ التعطيل الصريح إنما يكون بتوجه حرف النفي "لا" نحو الهوية قصداً، كأنّ يقال مثلاً "لا هو" وهو "لا إله".. وليس هذا ما يقول به، إذ النفي عنده هو نفي الصفات وتوجيه فعل النفي "لا" نحو الصفات دون الهوية... ويضيف الكرماني: فإنّ قال قائل... فمن الموصوف بصفات الذات، ومن الموصوف بصفات العقل... قلنا له: إنّ الذي لا جوهر له... هو القادر الذي قدر لا من شيء، والحي الذي أحيا لا من شيء بذاته، ولو لم يكن كذلك لكان يحتاج إلى علم به، وإلى قدرة، وإلى حياة، وإلى جوهر. وإنما الموصوف بصفت الفعل فهو النفس لأنها أخرجت جميع ما كان من حد القوة إلى حد الفعل. إذن فهي عالمة بعلم، وقادرة بقدرته، ومؤيدة بإرادة، وإن علمها وقدرتها وإرادتها هي القوة التي استفادة منها العقل. وبمعنى آخر فإن كل ما هو دون العقل ذو علم. وأما الباري فلا يجوز أن يقال له: فوق، أو تحت، أو دون، أو غير ذلك. ويذهب الكرماني إلى توضيح أفكاره الفلسفية فيقول: إنّ بين الموجودات تضاداً وتنافراً ومحاولة من جانب بعضهما لمحو البعض الآخر، فهذه الموجودات كائنة برغم هذا التنافر، وهذا التضاد، كما لا يفقد منها في وجود الضد، وإنما هي تحت الوجود محفوظة. وهذه النظرية مطابقة لنظرية الفارابي التي يقول فيها: حفظ الفيلسوف الكرماني لينفي "الأيسيَّة" و"الليسيَّة" والصفات عن الباري نفياً مطلقاً، كما أفرد أقوالاً طويلة لمذهبه في الدعوة إلى التوحيد، ووصف الأصلين – الإبداع والانبعاث – وقابل بين عالم الإبداع وعالم العقول، وبين العالم الجرماني أو عالم الأفلاك والكواكب، وبين العالم الجسماني من دون فلك القمر، وبين عالم الدين أو عالم النبوءات، ثمّ رسم المخططات والدوائر الجغرافية والفلكية والأرضية والجسدية، وطبق المثلات على الممثولات بأسلوب ساحر جذاب. لقد قلنا: إنّ الغزالي هاجم الفلاسفة لإرضاء الذين كان يعيش في ظلهم وهم "الأشاعرة" فذهب إلى أنّ الدين يجب أن يبقى فوق الفلسفة يستخدمها حسب أهدافه ومراميه، أو بلغة أصح... إنّ الدين هو الفلسفة بمعناها الصحيح. لقد ظهر لنا: إنّ ابن سينا في محاولاته الكلامية مزج بين الفلسفة وعلم الكلام مزجاً منطقياً بحتاً ادَّى بالتالي إلى اختفاء تلك المحاولات فيمن اتى بعده لغلبة روح الانتصار في علم الكلام الذي بناه الغزالي على أسس من جوهر الإسلام. أما المعركة بين "فخر الدين الرازي" و"نصير الدين الطوسي" فهي معركة بين الدين والفلسفة، وقد استعرت وشب اوارها في كتاب "الإشارات والتنبيهات" عندما تصدى الرازي لشرحه، وفتح النار على ابن سينا دون هوادة، وكانت خطته تقضي بالاجهاز على الفلسفة، وهذا ما حمل "نصير الدين الطوسي" على المبادرة لهدم أقوال الرازي، وقد توفق في ذلك لأنّه كان وثيق الصلة بدائرة ابن سينا الفلسفية، وعارفاً بمداخلها، ومخارجها، وما يحوط بها... وفوق ذلك كان همه أضعاف التيار الديني المعاكس للفلسفة الذي يتزعمه "فخر الدين الرازي" وإظهار ضعفه وعجزه عن استيعاب مرامي الفلاسفة وأهدافهم. ولابدّ هنا من القول: بأنّ الفلسفة في تلك الفترة تعاني من الاضمحلال والانهيار. فظهر الطوسي وتمكن من بعث الحياة فيها متخذاً لنفسه طريقاً واضحاً، وقد تجلى ذلك بشرحه وهضمه للسينوية التي فهمها ثمّ شرحها شرحاً موضوعياً جاء متفقاً والأصل، بينما لم يفهمها الرازي إلا من جانب رؤيته للدين، لهذا جاء شرحه للإشارات غير ذي أهمية بنظر الباحثين. لقد حاول الفارابي أن يجمع بين رأي أفلاطون وأرسطو. كما عمل ابن سينا إلى التوفيق بين نظريتي الفيض المتوسطة بين القول بقدم العالم وحدوثه، كتاب ابن رشد "فصل المقال" يعد أقدم ما كتب في الجمع بين الدين والفلسفة. لأنّ الحقيقة الدينية لا تختلف في نظر هذا الفيلسوف عن الحقيقة الفلسفية، بل الفلسفة بنظره صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة، وبشر "اخوان الصفاء" وعملوا لأجل التوفيق بين الدين والفلسفة بحسب مبادئهم التي تلزمهم بالاستهداء بالعقل الذي هو مصدر الوحي والالهام بالنسبة لهم، كما استهدى العلماء بالكتب السماوية التي أوحى بها الله للأنبياء. بعد هذا يمكن القول: بأنّ الدين هو الإيمان المطلق دون دليل أو برهان، والفلسفة هي عدم الإيمان بشيء إلا بعد التأكد والتثبت من الحقيقة والواقع. فالعالم يؤمن طوعاً وتسليماً بينما الفيلسوف لا يؤمن إلا على ضوء العقل. ومن هنا كانت النقمة عليه. وقد رأينا كيف حكم على سقراط بالموت بسبب دعوته، وما تعرض له غاليلي، وديكارت، وأسبينوزا، والحلاج، والسهروردي وغيرهم من الفلاسفة العرب والإسلاميين لأنهم تكلموا بما هو غريب وجديد وخارج عن نطاق مفهوم الطبقة الدنيا من الأُمّة التي انصاعت إلى رأي العلماء ورجال الدين بعد أن ادخلوا في عقلها بأنّ الفلاسفة هم طبقة من الكفار جاؤوا ليشوهوا معالم الدين، ويقيموا مكانه الكفر والإلحاد، فصار من واجب السلطان إرضاؤهم.. وهذا الإرضاء لا يكون إلا بالضغط على العباقرة والفلاسفة. والحقيقة: فإذا كان بعض الأمراء قد نكل بالفلاسفة، وأمر باحراق كتبهم، فمرد ذلك إلى ضعف سلطانه، ورغبته في إرضاء العامة الذين هم عماد النظام والحكم، وهؤلاء اعتنقوا الدين وانصرفوا إليه انصرافاً كلياً دون أن يكون لهم من عقولهم ما يجعلهم يميزون بين الغث والسمين، وبين الخطأ والصواب. كما رأيت كتاباً في واجهة إحدى المكتبات عنوانه: "الفيلسوف الغزالي" فاستغربت اقدام العديد من الباحثين على الخلط بين الفلاسفة، والفقهاء، وعلماء الكلام ورجال الدين كما قلنا... وسبب ذلك إننا لم نقرأ مؤلفات الفلاسفة قراءة موزونة، كما إننا لم ندققها أو نقابلها... وهكذا كان موقفنا من مؤلفات علماء الكلام والفقهاء وعلماء الدين الإسلاميين. فعندما نقول: إنّ الغزالي فيلسوف، وفخر الدين الرازي فيلسوف، فجيب أن تعلم إلى أيّة مدرسة فلسفية ينتسبان إلى الفيثاغورية، أو الأفلاطونية، أو الأرسطوية (المشائية)، أو "الرواقية"، أو الأفلاطونية المحدثة. إنّ البحث العلمي في عصرنا الحاضر يحتاج إلى تخصص في البناء والجوهر، وإلى تجريده من العلوم الأخرى التي لصقت فيه.. وبالنسبة للفلسفة. فنحن بحاجة إلى المزيد من الدراسات التي تكشف حقيقتها وتظهر التلاحم بينها، وبين الدين، وعلم الكلام، وخاصة في عصر الفلاسفة الإسلامية المتأخرين... وكم يكون واجباً علينا: التطلع إلى قراءة المزيد من كتب الفلسفة، وتصنيفها وعزلها بعضها عن البعض الآخر. وكم يكون مفيداً القول أيضاً: بأنّ البحث في الفلسفة بعد ابن رشد أصبح ضرورة حضارية لا تزال جامعاتنا، العربية وعلماؤنا قاصرين عنها حتى اليوم. بأنّ الفلسفة غير الدين، وأنّه لمن الصعوبة بمكان وضع الغزالي في صف ابن سينا، أو فخر الدين الرازي في صف نصير الدين الطوسي، أو الباقلاني بصف الكرماني، ولا ريب أنّ التقارب بينهم بعيداً، واللقاء يبدو مستحيلاً.   المصدر: مجلة الباحث/ العدد 39 لسنة 1980م

ارسال التعليق

Top