◄لخص المحققون الإسلاميون مراتب التوحيد في أربع مراتب: التوحيد الذاتي. ب- التوحيد الصفاتي. ج- التوحيد الإفعالي. د- التوحيد العبادي.
لكن مراتب التوحيد – في الحقيقة – لا تنحصر في هذه الأقسام الأربعة، بل ثمة مراتب أخرى له قد ورد ذكرها في الكتاب العزيز. والمقصود من "التوحيد الذاتي" هو أنّ الله لا شريك ولا نظير ولا شبيه ولا مثيل له.
وبتعبير أوضح، إنّ "التوحيد الذاتي" هو أنّ الذات الإلهية لا تقبل التعدّد.
ولا يمكن أن يتصوّر الذهن مصداقاً وفرداً آخر لله في عالم الخارج، فالذات الإلهية تكون بحيث لا تقبل التعدّد والتكثّر.
يتركز اهتمام القرآن – في الأغلب – على: مسألة "التوحيد الإفعالي" و"التوحيد العبادي" وقلّما يهتم القرآن – في الظاهر – بالتوحيد "الذاتي" والتوحيد في "الصفات" وقلّما يتناولهما بالبحث والبيان. بيد أنّ الناظر في المفاهيم والمعارف التي يتناولها القرآن الكريم لو أجاد النظر في الآيات القرآنية لوجد أنّ القرآن تعرض للمسألتين الأخيرتين أيضاً، ولكن في مستويات أرفع يحتاج فهمها واستيعابها واستنتاجها إلى مزيد فحص وإمعان.
لقد قسّم الفلاسفة الإسلاميون الوحدة إلى أربعة أنواع: أ- الوحدة الشخصية (العددية). ب- الوحدة الصنفية. ج- الوحدة النوعية. د- الوحدة الجنسية. ولتوضيح ذلك نقول: هناك "وحدة شخصية" و"واحد بالشخص" كما أنّ هناك "وحدة صنفية" و"واحداً بالصنف" ثمّ "وحدة نوعية" و"واحداً بالنوع" كما أنّ هناك "وحدة جنسية" و"واحداً بالجنس".
وعمدة الفرق بين الصورتين أنّ الأمرين اللّذين يقعان تحت الصنف أو النوع الواحد مثلاً يسميان "واحداً بالنوع أو بالصنف أو بالشخص أو بالجنس". فزيد وعمرو بما أنّهما داخلان تحت "نوع واحد" وهو "الإنسانية" فهما واحدان بالنوع كما أنّ مفهوم الإنسانية له "وحدة نوعية". والإنسان والفرس بما أنّهما داخلان تحت جنس واحد فهما "واحدان بالجنس" أعني الحيوانية، كما أنّ ذلك المفهوم "أي مفهوم الحيوانية" له وحدة جنسية.
وقس عليه الوحدة الصنفية مثلاً، فالطالبان بما أنّهما داخلان تحت عنوان طلبة العلم فهما واحدان بالصنف ويكون لمفهوم الطالبية "وحدة صنفية".
على هذا الأساس لا يمكن ولا يجوز أن نصف الله تعالى بالوحدة العددية بأنّ نقول الله واحد ليس باثنين. إذ أنّ هذا التعبير إنّما يجوز استعماله فيما يمكن تصور فرد "ثان" للشيء الموصوف بالوحدانية، في الخارج، أو في عالم الذهن، وإن لم يكن للمفهوم المعين سوى مصداق واحد.
ولكن إذا كانت كيفية وجود الشيء بحيث لا يمكن تصور فرد آخر مثيل له أبداً، كما بالنسبة إلى الله سبحانه، ففي هذه الصورة لا تتحقق الوحدة العددية مطلقاً، ولا يصح إطلاقها واستعمالها في مثل هذا المورد بتاتاً.
إنّ الدلائل العقلية، التي سنذكر طائفة منها – في هذا المقام – لتذكرنا وتهدينا إلى النقطة الهامة، وهي: أنّ الذات الإلهية" حقيقة خارجية" لا تقبل التعدّد والكثرة بأي شكل من أشكال وحتى لو أمكننا افتراض "ثانٍ" له فإنّه سيكون نفسه لا غيره. هذا مضافاً إلى أنّ الوحدة العددية إنما تصح إذا اندرج الفرد الواحد المعين تحت ماهية كلية كالفرد أو الفردين من أفراد الإنسان التي تندرج تحت عنوان الإنسان.
وهذا التصور باطل في شأن "الله"، إذ لا تندرج ذاته سبحانه أبداً تحت أيّة ماهية كلية. وبتعبير فلسفي: إنّ الله منزه عن الماهية وأن يندرج تحت مفهوم ذاتي.
فعلى هذا تكون الآيات التي وردت في القرآن الكريم بشكل "لا إله إلا الله" وما شابهها ناظرة إلى وحدانية الذات الإلهية، ونفي المثيل والنظير له تعالى. وقد أخطأ من حمل هذه الآيات على "التوحيد العبادي" ونفي معبودات غير الله، لأنّ "إله" كما قلنا ليس بمعنى المعبود، بل هو ولفظة الله سواسية في اللفظ والمعنى.
انّ أوضح آية دلالة على توحيد الذات ونفي الشريك والنظير لله سبحاه هو قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران/ 18).
وإليك آية أخرى في هذا الصدد: (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى/ 11).
وهل الكاف في الآية زائدة فيكون هدف الآية نفي المثل له، أو غير زائدة فيكون معناها نفي مثل المثل له، ويستلزم ذلك نفي المثل بالدلالة الالتزامية إذ من الطبيعي أنّه إذا لم يكن لمثل الشيء مثل فلن يكون لذاته مثل أصلاً.
وتوضيح ذلك: قال التفتازاني: إنّ الآية بصدد نفي شيء بنفي لازمه، لأنّ نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم كما يقال: ليس لأخي زيد أخ فأخو زيد ملزوم والأخ لازمه، لأنّه لابدّ لأخي زيد من أخ هو زيد، فنفيت هذا اللازم والمراد نفي ملزومه، أي ليس لزيد أخ، إذ لو كان له أخ لكان لذلك الأخ أخ هو زيد. فكذا نفيت أن يكون لمثل الله مثل، والمراد نفي مثله تعالى إذ لو كان له مثل لكان هو مثل مثله إذ التقدير انّه موجود.
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (سورة الإخلاص).
تذكر الآية الأُولى – بجلاء تام – شهادة الله والملائكة والعلماء على وحدانية الله، وعلينا هنا أن نعرف كيف تكون شهادة الله على هذا الموضوع.
يمكن أن تحمل هذه الشهادة على الشهادة القولية كما نشهد نحن على وحدانيته بقولنا: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ). وقد شهد الله على وحدانيته بالشهادة اللفظية عن طريق القرآن وهو الوحي والكلام الإلهي ضمن الآيات التي تعرضت لبيان هذه الوحدانية وإثباتها، وجملة (قَائِمًا بِالْقِسْطِ) (آل عمران/ 18)، إشارة إلى القسط الإلهي في القول والعمل، ومن المعلوم أنّ قبول الشهادة فرع (عدالة الشاهد) وصدقه فلما كان الشاهد عادلاً كانت شهادته صادقة وصحيحة.
يمكن أن تكون هذه الشهادة (المذكورة في الآية) شهادة عملية، لأنّ الله بخلقه الكون الذي يسوده نظام واحد، وتترابط أجزاؤه، وكأنها موجود واحد، وكائن فارد أثبت عملياً وحدانية الذات المدبرة لهذا الكون ووحدانية الإرادة المنظمة، الحاكمة على هذا العالم، والحق أنّ (الرأي الأوّل) أفضل وأقوم لإنسجام هذا الرأي مع شهادة الفريقين الآخرين، أعني: شهادة الملائكة وأولي العلم التي يناسب أن تكون شهادتهما (قولية)، وحفظ سياق الآية يقتضي تفسير الشهادات الثلاث بمعنى واحد، وورد نظير ذلك في آيات أُخرى أيضاً، ولا يمكن لأحد حملها على الشهادة العملية فقط. وذلك مثل: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) (النساء/ 166).
المصدر: مجلة الرياحين/ العدد 68 لسنة 1432هـ
ارسال التعليق