• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

موقف القرآن الكريم من الإشاعات/ ج(1)

موقف القرآن الكريم من الإشاعات/ ج(1)

نتعرّض يومياً لسيل من الإشاعات الهدّامة التي تثير الخوف والرُّعب والشكّ والبلبلة والقلق والكراهية والحقد واليأس في نفوسنا، لذا يجب أن نتعلّم كيف نضع حدّاً لإنتشار مثل هذه الإشاعات، والسيطرة عليها في مهدها، ومقاومتها بشتّى السُّبُل، فـ"الوقاية خير من العلاج".
ورغم أهميّة الدراسات الحديثة والمعاصرة المهمّة بهذا الشأن، وما توصّلت إليه من نتائج وتوجيهات على غاية من الجدّية والعمق، فإنّ النص القرآني يظل متميزاً بالأصالة والسبق والفرادة والغوص في عمق الظاهرة، إلى الحدّ الذي يمكن القول فيه بعجز كل المدارس التحليلية المعنية عمّا قرره هذا الكلام الموحى من تشخيص دقيق وموقف مطلوب.
ولو تسنّى لنا أن نواكب موقف القرآن، من مثيري الأراجيف والإشاعات، ومن منطلق تأريخي، لوجدنا أنّ القرآن الكريم اهتمّ اهتماماً بالغاً بالمواجهة الإعلامية، للتعريف بالمواقف، وإيصال المعلومات الصادقة، وتحصين الرأي العام، وحمايته من التخريب والحرب النفسية، وتوجيهه الوجهة السليمة.
وبهذا الخصوص، لم ينزل القرآن الكريم بالتوجيهات للمسلمين جملة واحدة، وإنّما ربّاهم الله بالتجارب والإبتلاءات والإمتحانات، فقد علم الله أنّ هذه الخليقة البشرية لا تصاغ إلا بذاك النوع من التربية التجريبية الواقعية، التي تحفر في القلوب، وتنقش في الأعصاب، وتأخذ من النفوس، وتعطي في معترك الحياة ومصطرع الأحداث. فالقرآن ينزل متدرجاً ليكشف لهذه النفوس عن حقيقة ما يقع ودلالته، ويوجه تلك القلوب وهي منصهرة بنار الفتنة، ساخنة بحرارة الإبتلاء، قابلة للطرق، مطاوعة للصياغة.
كل ذلك تمّ وفق المنهج الربّاني، في عملية التغيير الإجتماعي، التي تتبع سنّة التدرُّج التكاملي. وعندما نستقرئ آيات القرآن التي تحدّثت عن المواجهة الإعلامية، وأسلوب التعامل مع الدعاية المضادة، نجد القرآن قد ركّز على أساليب أساسية عديدة، منطلقاً من أسس نفسيّة وموضوعيّة بالغة الأهميّة، لتكوين الدوافع وكسب الإستجابة والمواقف، وأهم هذه الأسس هي:

- أوّلاً: اليقظة والحذر والتبيّن
إنّ هذه المفردات الثلاثة (اليقظة والتبيّن والحذر) بكل ما تعنيه من توثب، وأخذ حيطة، وترقّب، وتصرّف بحكمة، والعمل بمقتضى ما يتلاءم مع كل حالة، هي من أهم أساليب مواجهة الحرب النفسية، ومتى ما توفّرت، في الوسط الإجتماعي، تكون نتيجة ما يبثّه الآخرون، من إشاعات وأراجيف هي الفشل المحتوم.. وفي حالة افتقار الوسط الإجتماعي لهذه المفردات، فسيكون ساحة مفتوحة للعدو، يعبث بها ما يشاء، عبر أساليبه النفسية المتنوّعة.
وبإختصار شديد: إنّ المطلوب من الأُمّة المسلمة أن تتسم باليقظة، والتبيّن، والحذر، وهذا هو ما يعبّر عنه بمصطلح اليوم بـ(الوعي)، وعليه يمكن وصف هذه الأُمّة أو تلك الجماعة بالأُمّة أو الجماعة الواعية، وبعكسه نصفها بالأُمّة غير الواعية.
وقد حاول الخطاب القرآني، ومنذ وقت مبكر، بث الوعي الرسالي، في صفوف الجماعة المؤمنة، والتي بدورها مارسته في جموع الأُمّة، وبذا ارتقت هذه الأُمّة الشاهدة مكانها المرموق: (وَكَذلِكَ جَعَلناكُم أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النّاسِ ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَيكُم شَهِيداً) (البقرة/ 143).
وتمثل بث الوعي بما يلي:
أ) التبيّن:
في إطار التوعية والتوجيه، وتثبيت أسس التعامل مع الخبر والإشاعة، أرسى القرآن الحكيم قاعدة أساسية في هذا الشأن بقوله: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا إن جاءَكُم فاسِقٌ بِنَبَأً فَتَبَيَّنُوا أن تُصِيبُوا قَوماً بِجَهَالَةٍ فَتُصبِحُوا على ما فَعَلتُم نادِمِين) (الحجرات/ 6).
والخطاب القرآني، هنا، في غاية الصراحة والصرامة – في آن معاً – مؤكداً ضرورة التثبت أو التبين من مصدر الإشاعة، وأوّل خطوة في مقاومة الإشاعة وأهم نقطة هي معرفة مصدر الإشاعة بدقة، حتى نتمكّن من تفنيدها عن علم وقوّة.
ومن المعالم التي لفت إليها القرآن الكريم في باب (التبيّن) هو تجنّب ترديد الإشاعات ونشرها بين الناس.
لقد حذّر الإسلام من خطر الإشاعة وترويجها، فقال تعالى: (إذ تَلَقَّونَهُ بِألسِنَتِكُم وتَقُولُونَ بِأفوَاهِكُم ما لَيسَ لَكُم بِهِ عِلمٌ وتَحسِبُونَهُ هَيِّناً وهوَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ * وَلَولا إذ سَمِعتُمُوهُ قُلتُم ما يَكُونَ لَنَا أن نَتَكَلَّم بِهذا سُبحانَكَ هذا بُهتَانٌ عَظِيم * يَعِظُكُمُ اللهُ أن تَعُودُوا لِمِثلِهِ أبَداً إن كُنتُم مُؤمِنِين) (النور/ 15-17).
فيجب التروّي والتدبّر وتفحّص الإشاعة، لأنّها وباء خطير قد يجلب الدمار للفرد والأسرة والمجتمع، فالأولى أن نعلم أولي الأمر أو القيادة بالإشاعة لأنّهم أقدر على فهمها والرد عليها فور سماعها، وبذلك نقضي على الشائعات في مهدها، وتقف مباشرة عند الشخص الذي يبلغ المسؤولين عنها لا تتعداه، حيث يأتيه التوضيح السليم من المسؤولين الذين أبلغهم بالشائعات.
ومن ذلك قوله تعالى: (وإذا جاءَهُم أمرٌ مِنَ الأمنِ أوِ الخَوفِ أذَاعُوا بِهِ وَلَو رَدُّوهُ إلى الرّسولِ وإلى أُولِي الأمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الذينَ يَستَنبِطُونَهُ مِنهُم) (النِّساء/ 83).

ب) عدم إفشاء أسرار المؤمنين:
اهتمّ القرآن الكريم بالمحافظة على أسرار المؤمنين وعدم إفشائها للعدو، فقال الله عزذوجل: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ والرَّسولَ وتَخُونُوا أماناتِكُم وأنتُم تَعلَمُون) (الأنفال/ 27).
ممّا روي في سبب نزول هذه الآية الكريمة، أنّها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر، وذلك أنّ النبي (ص) لمّا حاصر قريظة سألوه أن يصالحهم على ما صالح عليه بني النضير، على أن يسيروا إلى أرض الشام، فأبى أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا، ثمّ إنّهم بعثوا إلى رسول الله (ص): أن ابعث إلينا أبا لبابة (وكان أهله وولده فيهم)، لنستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله (ص) إليهم، فلمّا رأوه قام إليه الرجال، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرقّ لهم، وقالوا له: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه، أي إنّه الذبح فلا تفعلوا، فكان ذلك منه خيانة لله ورسوله.
وقيل: إنّ البعض كانوا يسمعون الشيء من النبي (ص)، فيشقونه ويلقونه إلى المشركين، فنهاهم الله عن ذلك.
ويمضي الخطاب في ملاحقة الموقف، مشخصاً بعض حالات الضعف البشري، إزاء الأموال والأولاد مؤكداً أنّها فتنة: (وَاعلَمُوا أنّما أموَالُكُم وأولادُكُم فِتنَةٌ) (الأنفال/ 28).
وقد قال ابن عباس: هذا خطاب لأبي لبابة، لأنّه كانت له أموال وأولاد عند بني قريظة.
فأمّا الفتنة، فالمراد بها الإبتلاء والإمتحان الذي يُظهر ما في النفس، من اتّباع الهوى وتجنّبه (وأنّ اللهَ عِندَهُ أجرٌ عَظِيم) خير من الأموال والأولاد.

ج) اليقظة والحذر:
في كتاب الله العديد من مواطن التحذير للمسلمين مما يحيط بهم من مكائد ومخططات. وقد لفت الخطاب القرآني الإنتباه إلى تلك المخاطر في الوقت المناسب، كلّما استدعت الضرورة.
أوّل التحذيرات التي أطلقها القرآن الكريم كانت خاصة باليهود والنصارى، باعتبارهما عدوين ظاهرين:
(لَتَجِدَنَّ أشَدَّ النّاسِ عَدَاوَةً للّذينَ آمَنُوا اليَهُودَ والذينَ أشرَكُوا) (المائدة/ 82).
(وَلَن تَرضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النّصارَى حتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم) (البقرة/ 120).
وعقب حادثة تاريخية مع اليهود الذين حكّموا الرسول (ص) في مسألة تخصهم، نزلت الآية الكريمة: (وَأنزَلنا إليكَ الكِتابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَينَ يَدَيهِ مِنَ الكِتابِ ومُهَيمِناً عَلَيهِ فَاحكُم بَينَهُم بِمَا أنزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِع أهوَاءَهُم عَمّا جاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلِّ جَعَلنا مِنكُم شِرعَةً ومِنهاجاً وَلَو شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُم أُمَّةً واحِدَةً ولكِن لِيَبلُوكُم في ما آتاكُم فَاستَبِقوا الخَيرَاتِ إلى الله مَرجِعُكُم جَميعاً فَيُنَبِّكُم بِما كُنتُم فِيهِ تَختَلِفون * وأنِ احْكُم بَينَهُم بِما أنزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِع أهوَاءَهُم واحذَرهُم أن يَفتِنُوكَ عَن بَعضِ ما أنزَلَ اللهُ إليكَ فإن تَوَلّوا فَاعلَم أنّما يُرِيدُ اللهُ أن يُصِيبَهُم بِبَعضِ ذُنُوبِهِم وإنّ كَثِيراً مِنَ النّاسِ لَفاسِقون) (المائدة/ 48-49).
والخطاب موجَّه إلى رسول الله (ص)، فيما كان فيه من أمر أهل الكتاب الذين يجيئون إليه متحاكمين، ولكنه ليس خاصاً بهذا السبب، بل هو عام إلى آخر الزمان، فالتحذير هنا أشد وأدق، وهو تصوير للأمر على حقيقته، فهي فتنة يجب أن تحذر.
وفي موضع آخر، يخاطب القرآن المسلمين محذراً إياهم من مغبّة عدم الطاعة لله ولرسوله: (وأطِيعُوا اللهَ وأطِيعُوا الرّسولَ واحذَرُوا فإن تَوَلَّيتُم فَاعلَمُوا أنّما على رَسُولِنا البَلاغُ المُبِين) (المائدة/ 92).
والطاعة هي امتثال الأمر، والإنتهاء عن المنهي عنه.
وقوله: (واحذروا) أمر منه تعالى بالحذر وهو امتناع القادر من الشيء لما فيه من الضرر.
والخوف هو توقع الضرر الذي لا يؤمنه كونه.
وقوله: (فإن تولّيتم) معناه الوعيد والتهديد.
وينتقل الخطاب القرآني إلى موضع آخر، لكي يحذر المؤمنين من عدو يقبع داخل بيوتهم، ولربّما لم يلتفتوا إلى خطره: (يا أيُّها الذينَ آمَنوا إنّ مِن أزوَاجِكُم وأولادِكُم عَدُوّاً لَكُم فاحذَرُوهُم) (التغابن/ 14).
قال ابن عباس: نزلت الآية في قوم أسلموا بمكّة، وأرادوا الهجرة فمنعوهم من ذلك.
وقال عطاء بن بشار: نزلت في قوم أرادوا البر فمنعهم هؤلاء.
وقال مجاهد: هي في قوم إذا أرادوا طاعة الله منعهم أزواجهم وأولادهم، فبيّن الله تعالى أنّ في هؤلاء مَنْ هو عدو لكم في الدين فاحذروهم فيه.
ويذهب الخطاب القرآني إلى أبعد مدياته في التحذير من العدو المستتر الذي يتغلغل في صفوف الجماعة المسلمة، وتتكفل سورة (المنافقون) بفضح هؤلاء وتعريتهم والتحذير منهم: (إذا جاءَكَ المُنافِقثونَ قالوا نَشهَدُ إنّكَ لَرَسولُ اللهِ واللهُ يَعلَمُ إنّك لَرَسُولُهُ واللهُ يَشهَدُ إنّ المَنافِقِينَ لَكاذِبُون * اتّخَذوا أيمانَهُم جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ إنّهُم ساءَ ما كانُوا يَعمَلُون * ذلكَ بأنّهُم آمَنُوا ثُمّ كَفَروا فَطُبِعَ على قُلُوبِهِم فَهُم لا يَفقَهُون * وإذا رَأيتَهُم تُعجِبُكَ أجسامُهُم وإن يَقولوا تَسمَع لِقَولِهِم كأنّهُم خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحسَبُونَ كُلَّ صَيحَةٍ عَلَيهِم هُمُ العَدُوُّ فَاحذَرهُم قاتَلَهُمُ اللهُ أنّى يُؤفَكون) (المنافقون/ 1-4).
وهذه السورة التي تحمل هذا الإسم الخاص (المنافقون) الدال على موضوعها ليست هي السورة الوحيدة التي فيها ذكر المنافق والمنافقين، ووصف أحوالهم ومكائدهم، فلا تكاد تخلو سورة مدنية من ذكر المنافقين تلميحاً أو تصريحاً، ولكن هذه السورة تكاد تكون مقصورة على الحديث عن المنافقين، وهي تتضمّن حملة عنيفة على أخلاق المنافقين، وأكاذيبهم، ودسائسهم، ومناوراتهم، وما في نفوسهم من البغض والكيد للمسلمين، ومن اللؤم والجبن، وانطماس البصائر والقلوب..
وهم بهذا وذاك يمثلون العدو الأوّل للرسول (ص) وللمسلمين: (هُمُ العَدُوُّ فاحذَرهُم).. هم العدو الحقيقي الكامن داخل المعسكر المختبئ في الصف، وهو أخطر من العدو الخارجي الصريح. (فاحذرهم).. ولكن الرسول (ص) لم يؤمر هنا بقتلهم، فأخذهم بخطة أخرى، فيها حكمة وسعة وثقة بالنجاة من كيدهم.
وكما أنّ الحذر مطلوب في وقت السلم، فإنّه مطلوب أيضاً في وقت الحرب. ولعل أهميته تصبح أكثر في الحالة الثانية. وهاهو ذا كتاب الله يرسم للمسلمين جانباً من الخطة التنفيذية للمعركة المناسبة لموقفهم حينذاك، ولوجودهم بين العداوات الكثيرة في الخارج، والمنافقين وحلفائهم اليهود في الداخل، وهو يحذرهم ابتداءً: (يا أيُّها الذينَ آمَنوا خُذُوا حِذرَكُم فانفِرُوا ثُباتٍ أوِ انفِرُوا) (النِّساء/ 71).
وهذا خطاب للمؤمنين الذين صدّقوا بالله، وبرسوله. أي أيقنوا بالله ورسوله، أمرهم الله أن يأخذوا حذرهم، وقيل في معناه قولان:
أحدهما: قال أبو جعفر (ع) وغيره: خذوا سلاحكم، فسُمِّي السلاح حذراً لأنّه يتقي به المحذور.
الثاني: احذروا عدوكم بأخذ السلاح، كما يقال للإنسان: خذ حذرك بمعنى احذر.
والمقصود لا تخرجوا للجهاد فرادى، ولكن اخرجوا مجموعات صغيرة، أو الجيش كلّه.. حسب طبيعة المعركة.. ذلك أنّ الآحاد قد يتصيدهم الأعداء المبثوثون في كل مكان. وبخاصة إذا كان هؤلاء الأعداء منبثين في قلب المعسكر الإسلامي، وهم كانوا كذلك، ممثلين في المنافقين، وفي اليهود، في قلب المدينة.

- ثانياً: الفضح
لعب المنافقون دوراً بارزاً في بثّ الإشاعات داخل الصف المسلم. وقد عايش الإسلام هذا النموذج، في عصره الأوّل، وعانى منه الكثير من الدس والتضليل واللف والدوران، ممّا كان يشارك في عملية إرباك الحياة الإسلامية، في حركة المجتمع الإسلامي، في الداخل والخارج.
إنّ قضية الكفر كقضية الإيمان تمثل موقفاً حاسماً في حياة الإنسان، باعتبارها تحديداً واضحاً للموقف إزاء ما يطرح من قضايا العقيدة والحياة. أمّا المنافقون، فهم الذين يعيشون ازدواجية الموقف بين ما يضمرونه، في داخل أنفسهم، وبين ما يظهرونه أمام الناس، مما يجعل من اكتشافهم ومعرفتهم عملية معقدة، لأنّها تحتاج إلى رصد دقيق لأقوالهم وأفعالهم، لمواجهة العوامل القلقة، التي تتحرّك في سلوكهم، لتحرِّك حياتهم العامّة والخاصّة.
وقد يكون هذا هو السبب الذي جعل القرآن الكريم يواجه هذا النموذج القلق بعدّة آيات تتوفّر على ملاحقة مظاهر النفاق، في كلماتهم التي يواجهون بها الناس، وشعاراتهم التي يطرحونها، ومواقفهم العملية التي يقفونها في حياة المجتمع، ليسهل على الناس كشف واقعهم، من أجل التخلص من ضررهم في الحاضر والمستقبل.
وهكذا صدع القرآن الكريم، منذ وقت مبكر، منبرياً لكشف زيف هؤلاء: (ومِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمّنّا بِاللهِ وبِاليَومِ الآخِرِ وَما هُم بِمُؤمِنِين * يُخادِعُونَ اللهَ والذينَ آمَنُوا وَمَا يَخدَعُونَ إلا أنفُسَهُم وَما يَشعُرُون * في قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَهُم اللهُ مَرَضاً ولَهُم عَذابٌ ألِيمٌ بَما كانوا يَكذِبُون * وإذا قِيلَ لَهُم لا تُفسِدوا في الأرضِ قالوا إنّما نَحنُ مُصلِحُون * أَلا إنّهم هُمُ المُفسِدونَ ولكِن لا يَشعُرُون * وإذا قِيلَ لَهُم آمِنُوا كَمَا آمَنَ النّاسُ قالوا أنُؤمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاء ألا إنّهُم هُمُ السُّفَهاء ولكِن لا يَعلَمُون * وإذا لَقُوا الذينَ آمَنُوا قالوا آمّنّا وإذا خَلَوا إلى شَيَاطِينِهِم قالوا إنّا مَعَكُم إنّما نَحنُ مُستَهزِؤونَ * اللهُ يَستَهزِئُ بِهِم ويَمُدُّهُم في طُغيانِهِم يَعمَهُون) (البقرة/ 8-15).
ففي هذه الآيات الكريمة، فضح لصورة هذه الفئة المتسترة، صورة النفس الملتوية المريضة المعقدة القلقة، على أن هذه الإطالة توحي، كذلك، بضخامة الدور الذي كانوا يحدثونه، كما توحي بضخامة الدور، الذي يمكن أن يقوم به المنافقون، في كل وقت، داخل الصف المسلم، ومدى الحاجة للكشف عن ألاعيبهم ودسهم اللئيم.

- ثالثاً: التفنيد والتحصين
لم يكتفِ الخطاب القرآني بأسلوب فضح الآخر، وتحديد سماته، وإنّما ينتقل إلى خطوة مهمة أخرى، وهي تفنيد الأساليب الدعائية وتعريتها، وفق ما يُسمّى اليوم بلغة العصر (الإعلام والإعلام المضاد).
ومن هنا ركّز القرآن، على كشف الزيف، وتعرية الإشاعة والدعاية المضادة، وبيان الكذب والتناقض فيها، لإسقاط فاعليتها، وتوجيه ردّ الفعل ضد مروّجيها. وهذا مما يساعد على مقاومة الإشاعة، ووأدها في مهدها، ولا ننسَ أنّ التوعية أمر أساسي، في مقاومة الإشاعة وتفنيدها بالإستناد إلى الحجج والبراهين المنطقية، والحقائق الواقعة التي تحصِّن الناس، ضد سموم الشائعات، التي يروِّجها الأعداء والمرجفون، وإشاعة الثقة في الناس وتنمية الوعي العام.
ودليلنا في ذلك أنّ رسول الله (ص) قد لجأ إلى هذا الأسلوب مراراً عديدة، عندما كان أعداء الإسلام يثيرون الفتن، وينشرون الشائعات، ومنها على سبيل المثال:
عندما مرّ شاس بن قيس اليهودي على قوم من الأوس والخزرج، وغاظه ما رأى من صلاح ذات بينهم على الإسلام، فأمر فتىً يهودياً مثله أن يجلس معهم ويذكِّرهم بيوم بعاث الذي اقتتل فيه الأوس والخزرج، قبل الإسلام، ومازال الفتى بهم حتى تثاوروا للحرب، وكاد يقع بينهم الصدام، فلمّا بلغ رسول الله (ص) جاءهم وخطب فيهم، قائلاً: "يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألّف بين قلوبكم".
ومن هذه الكلمة البليغة عرف القوم أنّها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، وانصرفوا مع رسول الله (ص)، سامعين مطيعين، وقد أطفأ الله عنهم كيد عدوهم.
وفي هذه الحادثة نزل قوله تعالى: (قُل يا أهلَ الكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَن آمَنَ تَبغُونَها عِوَجاً وأنتُم شُهَداءَ وَما اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعمَلون * يا أيُّها الذينَ آمَنوا إن تُطِيعوا فَرِيقاً مِنَ الذينَ أُوتُوا الكِتابَ يَرُدُّوكُم بَعدَ إيمانِكُم كافِرِينَ * وكَيفَ تَكفُرُونَ وأنتُم تُتلَى عَلَيكُم آياتُ اللهِ وفِيكُم رَسُولُهُ وَمن يَعتَصِم بِاللهِ فَقَد هُدِيَ إلى صِراطٍ مُستَقِيم) (آل عمران/ 99-101).

- رابعاً: التسقيط
وحينما لا تجدي أساليب المحاججة المنطقية مع مرضى القلوب، ينتقل الخطاب القرآني إلى خطوة أخرى، فيستخدم أسلوباً إعلامياً آخر ذا فاعلية نفسية، لهز الخصم من داخله، وإشعاره بتفاهة شخصيته ومواقفه، ليكوّن الهزيمة في أعماقه النفسية، ويسلب منه الروح المعنوية والقدرة على المواجهة، بتوجيه الخطاب إليه، كطرف هزيل، يوضع موضع الإستهزاء والسخرية.
نلاحظ ذلك واضحاً في خطابه للمكذبين، ولأعداء الدعوة عندما يقول لهم:
(وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ *لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ *لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ *وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ *إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ *قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ*قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ *قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ *وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ *فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ *وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ *لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) (التوبة/46-57).
 والسياق يتحدّث عن جماعة المنافقين الذين اندسوا في صفوف المسلمين باسم الإسلام.. فرأى هؤلاء أنّ حبّ السلامة وحبّ الكسب يقتضيان أن يحنوا رؤوسهم للإسلام، وأن يكيدوا له داخل الصفوف، بعد أن عز عليهم أن يكيدوا له خارج الصفوف.
ولقد كان أولئك المنافقون يدسّون أنفسهم في الصف لا عن إيمان واعتقاد، ولكن عن خوف وتقيّة، وعن طمع ورهب، ثمّ يحلفون أنّهم من المسلمين، أسلموا اقتناعاً، وآمنوا اعتقاداً.
فهذه السورة تفضحهم وتكشفهم على حقيقتهم، فهي الفاضحة التي تكشف رداء المداراة، وتمزِّق ثوب النفاق، وإنّها لصورة مزرية للجبن والخوف والملق والرِّياء، لا يرسمها إلا هذا الأسلوب القرآني العجيب، الذي يبرز حركات النفس شاخصة للحس، على طريقة التصوير الفنّي الموحي العميق.
وبهذه الصورة المعبِّرة الساخرة، يمضي السياق القرآني لإسقاط ظاهرة النفاق، في عيون الأُمّة، عبر توظيف رائع لمظاهر الخلل، في النفسية المهزومة والقلقة، لأقطاب النفاق.

- خامساً: الإهمال والتجاهل
ومن وسائل الحرب النفسية والمواجهة الإعلامية التي استخدمها القرآن، هو أسلوب الإهمال وعدم الإعتناء بالخصم، ليشعر بعدم قدرته على إثارة الطرف الإسلامي، وضعف موقعة وضآلة قدره، كجزء من الحرب النفسية، والإسقاط الإجتماعي التي يشنّها الإعلام الإسلامي ضدّه، عندما يكون الإهمال، وعدم الدخول في حرب كلامية هو الأسلوب الأفضل للموقف والقضية.
ويتجسّد هذا المبدأ في العديد من الآيات، كقوله تعالى:
(وَالذينَ هُم عَنِ اللَّغوِ مُعرِضون) (المؤمنون/ 3).
(وَإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلُونَ قالوا سَلاماً) (الفرقان/ 63).
(وَإذا سَمِعُوا اللَّغوَ أعرَضُوا عَنهُ وقالوا لَنا أعمالُنا ولَكُم أعمالُكُم سَلامٌ عَلَيكُم لا نَبتَغِي الجاهِلِين) (القصص/ 55).
ومن المبررات المنطقية لتجاهل الإشاعة التي يبثها الخصم، هو أن محارب الإشاعة قد يواجه موقفاً حرجاً ويقع في ورطة، فلو سكت عنها تزداد انتشاراً، ولو حاول تكذيبها – وهذه أكثر الطرق استخداماً إلا أنّها ليست الطريقة المثلى، لأنّ تكذيبها يتضمّن الإعلان عنها – فسيجعل مَنْ لم يسمع هذه الشائعة يسمعها عن طريقه هو، فوق أنّه بذلك يكررها ويرددها. وهناك أناس يصدقون الشائعات ولا يصدقون تكذيبها، ولذلك فإنّ الوسيلة المثلى لتكذيب الشائعة، أن يكون التكذيب بطريق غير مباشر، دون أن يعيد ذكر الشائعة، أو يكشف مصدرها، وقصد مروِّجها منها، وهذا يتطلّب مهارة ممّن يتصدّى لهذه المهمّة.

- سادساً: الإستمالة
ويستخدم القرآن أسلوباً نفسياً وجدانياً مؤثراً، في الطرف المتلقي، بتوجيه الخطاب الليّن والكلمة الجذّابة، والإستهواء المؤثر إليه.
ومن الآيات التي حثّت على استخدام هذا الأسلوب، في المواجهة الإعلامية، قوله تعالى:
(ادفَعْ بِالّتي هيَ أحسَنُ فإذا الذي بَينَكَ وبَينَهُ عَدَاوَةٌ كأنّهُ وَلِيُّ حَمِيم) (فصِّلت/ 34).
(ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ والمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وجادِلهُم بِالتِي هيَ أحسَنُ) (النحل/ 125).
ليشعر المتلقي باحترام الإعلام الموجه إلى شخصيته، وحسن نيّة الجهة التي تخاطبه، وحرصها على حفظ مصالحه وكرامته، لتكوين علاقة حسنة بينه وبين الطرف الذي يوجه إليه الخطاب الإعلامي، فيكسب ودّه وثقته، ويتقبّل أفكاره وخطابه.
وفي هذا الإتجاه، تأتي دعوة القرآن لهم إلى أن يتركوا باطلهم، ويعملوا عقولهم، ويفكِّروا فيما يدعون إليه، من الحق والهدى قال تعالى: (أفََلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ وَلَو كانَ مِن عِندِ غَيرِ اللهِ لَوَجَدوا فِيهِ اختِلافاً كَثِيراً) (النِّساء/ 82).
(قُل إنّما أعِظُكُم بِواحِدَة أن تَقُومُوا للهِ مَثنَى وفُرادى ثُمّ تَتَفَكّروا ما بِصاحِبِكُم مِن جِنّةٍ إنْ هوَ إلا نَذِيرٌ لَكُم بَينَ يَدَي عَذَابٍ شَدِيد) (سبأ/ 46).

يتبع...

المصدر: كتاب سيكولوجية الإشاعة.. رؤية قرآنية.. إشارات موحية في الحرب النفسية وأجندة المواجهة

ارسال التعليق

Top