من المسلّم به أنّ باني الحضارة هو الإنسان وأنّ المنتفع بآثارها والمتضرر بسلبياتها هو الإنسان. فالإنسان محور الحركة في هذه الحياة ومنه تبدأ الحضارات وإليه تنتهي. وكان الإسلام ولا يزال على حقّ إذا اهتم ببناء الإنسان قبل بناء الديار والأوطان واهتم بفتح العقول والقلوب قبل فتح البلدان، وركّز الإسلام على أن يصوغ أتباعه صياغة جديدة فلما انتقلوا من البداوة إلى الحضارة عرفوا كيف يتعاملون مع مظاهر التحضر بدين يحميهم من الزلل وخلق يصونهم من الفساد والخلل. ذلك أنّ المؤمن يعتقد دائماً بأنّ كلّ ما سخره الله للإنسان من سُبل الحياة والعيش هو نعمة تستوجب الشكر للمنعم جلّ في علاه (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) (النحل/ 53)، وليس من قبيل الاعتراف بالنعمة أن نستعملها فيما يغضب الله أو أن نجعل من تحولنا الحضاري مجالاً للتمرد على المنعم جلّ في علاه. كما يحدث في عالمنا المعاصر بشكل عام إذ أصبحنا نستخدم مستجدات العصر الحديث في التمرد على الله أحياناً، وفيما يضرنا ولا ينفعنا أحياناً وفي كلّ الأحوال قلّ فينا الشاكرون وكثر الشاكون والصائحون وكأنّ الله لم يسخر لنا شيئاً في سماء ولا أرض، ولم يسبغ علينا نعمة تستوجب الشكر (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان/ 20)، فهل عميت البصائر أم زاغت الأبصار فأصبحنا لا نرى لله في حياتنا نعمة ولا نرى في معطيات الحضارة وأدواتها العصرية لله فضلاً؟ إنّ مشكلة هذا الجيل كلّه أنّه صار مفصولاً عن ماضيه، فكيف يشعر بنعمة الله في حاضره؟ ولو أنّهم سألوا الآباء والأُمّهات والأجداد لعرفوا كيف كانت الحياة صعبة، وكيف كان الكبار والصغار يقطعون المسافات الطويلة مشياً على الأقدام إذ لا يجدون ما يحملهم من وسائل الركوب ثمّ اسألوا عن خشونة طعامهم وشرابهم وثيابهم، وكيف كانوا يفترشون الأرض ويلتحقون السماء عند نومهم فلا ينام على الأسرة إلّا قلة من الأغنياء. واليوم سخر الله لك أيها الإنسان طفرة حضارية يسرت لك الانتقال براً وبحراً وجواً (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ) (يس/ 72-73)، طوى الله لك الزمان والمكان فتلك نعمة عظيمة ينبغي عليك شكرها وإلا تشكرها فقد كفرت بها (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل/ 40).
مَن المتهم في فساد أخلاقنا العصرية.. الإنسان أم الأدوات الحضارية؟
المتهم فعلاً في قضية الحضارة العصرية هو سلوك الإنسان وسوء استخدامه لكلّ نعمة حضارية. والفرق بين مَن يستخدم الحضارة فيما ينفع الناس ومَن يستخدمها فيما يضر ولا ينفع كالفرق بين مَن يطيع الله بالنعمة ومَن يحارب ربّه بالنعم. ويبدو الفرق أكثر وضوحاً بين طائرات تدمر البيوت والمدن وتفزع الآمنين وطائرات تحمل الناس في أمن وسلام. والفرق نفسه واضح بين أقمار صناعية تستخدم في مجال النشاط البشري المثمر وأقمار لا يستخدمها الإنسان إلّا في التجسس على البلاد وبث الشر والفساد. وما أكثر شهود العصر على هذه القضية من العلماء والفلاسفة الذين شهدوا على شعوبهم بكثرة التجاوزات في استعمال أدوات الحضارة إذ يقول قائلهم "لقد منحتنا العلوم القوة الجديرة بالآلهة ولكنا نستعملها بغريزة الوحوش وعقلية الأطفال" والإسلام يقول لأتباعه ومحبيه: أدوات الحضارة بين أيديكم نعمة سخرها الله لكم فاستخدموها بعقلية الإنسان وخلق المسلم ولا تجعلوا من نعمة الله نقمة عليكم كما يقول مولاكم: (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (البقرة/ 211)، فالمؤمن بحكم إيمانه لا يستقبل النعم مختالاً فخوراً فيطغى، بل يستقبلها ولسان حاله ومقاله يردد (قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) (النمل/ 40)، ومن المؤسف أنّنا تجاهلنا هذه القاعدة الإيمانية ونحن نواجه الطفرة المذهلة في أجهزة الاتصالات حتى صارت الهواتف على اختلاف أشكالها وأنواعها في متناول الصغير والكبير والغني والفقير، وليست هذه هي المشكلة وإنما المشكلة في استعمالها، ففينا مَن يستعملها في نشاط مثمر وعمل رائع، وأكثرنا يستعملها فيما يضر ولا ينفع، وفيما يستهلك أعمارنا وأموالنا ويعطل أعمالنا، وفي أبنائنا وبناتنا مَن يستعمل هذه الهواتف كما يستخدم (النت) استخدام الجائعين المنحرفين إلى الشهوات.. ونؤكد من جديد بأنّ المشكلة ليست في هذه الطفرة الحضارية في عالم الاتصالات أو شبكات المعلومات وإنما المشكلة التي نحاسب عليها في كيفية الاستعمال فمن استبرأ لدينه وعرضه فأحسن استعمالها فقد نجح في الاختبار وكان من الشاكرين، ومن استعملها بأسلوب شيطاني ماكر فقد استنفد رصيده ليس عند شركات المحمول ولكن ينفد رصيده من الحسنات عند الله ويزداد رصيده من السيئات لأنّه بدّل نعمة الله كفراً (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ) (إبراهيم/ 28-29).
س: كيف انتقل الإسلام بالإنسان من طور البداوة إلى طور الحضارة؟
من الصعب أن نفهم المعنى الحقيقي للحضارة إذا لم نفهم المعنى الصحيح للبداوة، ومن المضحكات المبكيات أن نمارس في حياتنا أخلاق البادية وسلوكها ثمّ ندعي أنّنا متحضرون.. ونرى الحياة بعيون غيرنا ونعيشها بعقول الآخرين ثمّ نزعمُ أنّنا في مجتمع حضاري.. قالوا إنّ الإسلام قيد على حركتنا ونشاطنا الحضاري فعزلوه عن حياتنا وحاصروه أكثر من ستين عاماً وما صنعوا حضارة ولا أقاموا عمراناً بل توقف نشاطنا الزراعي والصناعي وقلت الصادرات وكثر الاستيراد حتى عجزنا عن صنع طعامنا بأيدينا.. وقد آن الأوان لأن نفيق من كبرياء النفس وغيبوبة العقل فندرك الذي أدركه أهل العلم والخبرة والمنصفون في العالم وهم يرددون على مسامع الشعوب بأنّ الإسلام هو الحركة العالمية الوحيدة في تأريخ البشر التي انتقلت بالإنسان من طور البداوة إلى مرحلة الحضارة الإنسانية لأنّه اهتم بداية ببناء الإنسان قبل بناء الديار والأوطان بل صاغه صياغة جديدة فطهره من مخلفات الجاهلية وعالجه من سرطان القرون وأعده إعداداً جيداً لبناء حضارة تنهض بالإنسان من ركود العقل وغلظة القلب وتخلف البداوة. وكان هذا هو الهدف الأسمى لبعثة النبيّ الخاتم (ص) كما يقول سبحانه: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الجمعة/ 2-3)، ونجح (ص) في أن يقدم للعالم حينذاك أرقى النماذج البشرية خلقاً وسلوكاً وعلماً وفهماً لطبيعة الحياة والكون، بل جعل من رعاة الإبل قادة ورواداً أقاموا حضارة علمية إنسانية تحميها عقيدة الإسلام وأخلاقه من الخلل الذي يصيب الحضارات، فلما تغيرت أخلاق الأُمّة وغرتهم الحياة الدنيا تراجعت الحضارة الإسلامية بفساد الأخلاق كما تراجعت من قبلهم حضارات وبادت وهلكت بفساد العقائد وسوء الخلق ولا يزال القرآن الكريم ينذر ويحذر من أي اتجاه حضاري يُعرض بأصحابه عن الله فتكونُ خساراته أكثر من مكاسبه، وعواقبه أسوأ من منافعه، يقول سبحانه: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ) (الروم/ 9-10).
ويضرب الله لنا المثل بقوم تحققت لهم أسباب الأمن والاستقرار النفسي والمادي فلما كفروا بأنعم الله بدّل أمنهم خوفاً واستقرارهم فزعاً وأذاقهم (لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل/ 112).
س: الحضارة العصرية خساراتها أكثر من مكاسبها.. فكيف ترون ذلك في واقعنا المعاصر؟
الواقع العالمي يشهد بأنّنا نخلط خلطاً غريباً بين الحضارة الإنسانية ومظاهر الحضارة المادية، فالحضارة الإنسانية دائماً في خدمة الإنسان على اختلاف المذاهب والعقائد والأوطان، وتستجيب لآمال الإنسان والأُمّة في كلّ زمان ومكان، فهي حضارة سلام وليست حضارة حرب وعدوان.. وفي ظل العصبيات والعنصرية من الصعب إن لم يكن مستحيلاً أن يبني الناس حضارة بهذا المفهوم لأنّها تحتاج إلى منهج سماوي تعتمد عليه ورسالة تهتدي بها من عصبيات النظم وعنصرية البشر لتَخْرُجَ بالناس من ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. وقد رسم القرآن الكريم لنا مقومات الحضارة الإنسانية وملامحها البارزة في قوله تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة/ 15-16).
الكاتب أستاذ بجامعة الأزهر ووكيل كلية اللغة العربية الأسبق
المصدر: كتاب القرآن وقضايا العصر ج1 وج2
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق