أ. د. محمد أديب الصالح
◄-المنهج الراشد إلى قصة نوح (ع):
من عجائب تقدير الله وحكمته في نصرة دينه القويم، الطريق التي اختارها لمن حُمِّلوا أمانة الإسلام وشرف الإيمان به والدعوة إليه.. أنّ الصراع الدامي الذي كانت تخوضه الفئة القليلة المؤمنة في مكة لم يكن نثاراتٍ من الحوادث التي تقع هنا وهناك. دونما رابط يربط بينها أو فكر يوجه أصحابه ومنطلقات موزونة آخذٍ بعضها برقاب بعضٍ تحدِّد الخُطا، وغاياتٍ نيِّرة تتسق مع تلك المنطلقات.
بل العكسُ هو الصحيح؛ فقد كانت تلك التحركات كلها منضبطة بضوابط الرسالة، في تمايز واضح بين أهل الإسلام الذين يسيرون وفق منهج متكامل رسمته عقيدة التوحيد، وبين سَدَنة الجاهلية التي يحكم الإنسانَ فيها الهوى والتقليد الأعمى؛ ناهيك عن اختلال القيم واضطراب المعايير، نتيجة العدوان على الفطرة والعقل في هذا الإنسان.
أنّ الصراع الدامي الذي كان في تلك الحقبة الزمنية مصحوباً بتلك المنهجية الرائعة التي تحدِّد للمسلمين القيم والمعايير، وترتفع بهم إلى المستوى الذي لا يُعجزهم معه أن يخوضوا معارك التحويل وإنقاذ البشرية من الضياع المحتوم – كما يبدو – وأن تمتد أيديهم إلى أن يرفعوا قواعد البناء الحضاري السليم، وفق منهج ظهرت بوادره منذ العهد المكي في عصر الرسالة، حيث المجتمع ما يزال قياده بأيدي من يطوِّفون حول اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، متبعين ما ألفوا عليه آباءهم ولو كان هؤلاء الآباء لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون.
إنّ ما حصل لنوح عليه السلام مع ولده النَّسَبي – كما أخبر عن ذلك الكتاب العزيز – وَضَعَ المسلمين على المنهج الراشد وحدّد لهم القيم التي يجب أن يُحتكم إليها في تقدير قيمة الإنسان والعاقبة التي يؤول إليها، وما يجب أن يوضع في الحسبان عند التربية والإعداد.
فأين المفاخرة بالآباء والأجداد ولو كانوا على غير سبيل الهدى – معطلة عن العمل عقولهم، مضروباً عليها بالأسداد قلوبهم – وجعلُ التفاضل بالنسب ولو كان صاحبه من أهل الغواية وشياطين الإنس.. الأمر الذي تثور معه الفرقة، ويضطرب حبل الودِّ، ويُحرم المجتمع من إمكانات وطاقات كان من الممكن أن تعمل عملها في إقامة بنية سليمة لذلك المجتمع، لا تشكو في جانب اقتصادي أو اجتماعي أو غيرهما، وتمهد للكيان الذاتي المستقل للأُمّة.
أين ذلك كلُّه مما قصَّ الله على نبيه (ص) والمسلمين، من أن ولد نوح (ع) لم ينفعه في حومة الطوفان المعتصَم الذي أراد أن يأوي إليه، خلافاً لما دعاه إليه أبوه، فكان من المغرقين.
بل أين ذلك كله مما أعلنه القرآن من أنّ هذا الولد ليس – على الحقيقة – من أهل نوح (ع)، وإن كان ولَده الصلبي لما أنّه عملٌ غيرُ صالح؛ خالف عن الصراط السوي الذي يدعو أبوه الناس إلى سلوكه كيما يكونوا من الناجين يوم الدين.
كما قال الله تعالى في سورة هود المكية: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (هود/ 42-44).
وتقرر ما بينها بأسلوب غاية في الوضوح، يحمل ما يحمل من التوجيه والبيان المعجز: أن ولد نوح الرسول المكرم عند الله – قد جنح هذا الولد عن الصراط المستقيم – لم ينفعه النسب المجرد إلى أبيه المبلغ عن الله. ذلكم قول الله جلّت حكمته: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (هود/ 45-46).
إنّه المنهج الذي أريد للفئة المؤمنة التزامه من أول يوم، في شأن القيم التي يحتكم إليها في إعداد الإنسان وتقدمه في المجتمع وتنمية الموارد البشرية.
وأنت واجد أنّ القرون المتطاولة لم تحُلْ في الماضي ولن تحول اليوم دون التبصُّر في الحجم الكبير الذي تأخذه هذه القضية على الساحة الإنسانية في حضارة الإسلام.
يتبع...
المصدر: كتاب (الإنسان والحياة في وقفاتٍ مع آيات)
ارسال التعليق