• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التعليم سبيل الإصلاح والتغيير

أ. د. محمود عباس *

التعليم سبيل الإصلاح والتغيير
   (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ) (الزمر/ 9)، من يتدبر القرآن الكريم في حديثه عن العلم والتعليم يدرك أنّ الحق جل في علاه لا يحب أن يعبد بالجهل ولا أن يكون خليفته في أرض الله جاهلاً ولهذا كان الإنسان هو المختار لخلافة الله في الأرض دون الملائكة لأنّه أكثر منهم قدرة على استيعاب العلم وتحصيله (وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (البقرة/ 31-32)، لقد أظهر الله للملائكة ما خفي عليهم من أسرار الإنسان وملكاته وأقام عليهم الحجة بأنّه يملك من أسباب العلم وطاقاته ما لا يملكون ومن ثمّ أمرهم بالسجود لآدم عليه السلام تكريماً لعلمه واعترافاً بدوره المنشود في مملكة الله في الأرض. لكن يبدو أنّ الأُمّة الإسلامية اليوم هي الأُمّة الوحيدة التي لا تعرف دور العلم في عمارة الأرض وبناء حضارة إنسانية في أرض الله، وكأنها عهدت بهذا الدور إلى غيرها من شعوب الأرض ورضيت بما يقدمه إليها العالم من فتات العلم ونتاج العقول المبدعة حتى أصبحنا مجتمعات نشتري أدوات الحضارة ولا نصنعها بعقولنا، ونشتري ضرورات الحياة من مأكل وملبس وسيارات ولا نصنعها بأيدينا وربما فرض على المجتمع المصري أن يعيش ثلاثين عاماً أو يزيد محروماً من الإبداع والبحث العلمي، بل فرض عليه أن يغتال فيه النوابغ وأصحاب الكفاءات العلمية إلا إذا هاجروا وفروا إلى بلاد بعيدة فإذا ظهر فينا باحث أو عالم يريد أن يقدم إلى بلاده شيئاً ينفع الناس (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) (الأنبياء/ 68)، وكم من باحث ضيعوه وعالم مصري اغتالوه داخل البلاد أو خارجها فما دمعت لنا عين ولا ارتعش قلب وكم من عابثة قتلت أو انتحرت فقامت الدنيا عندنا وما قعدت. قالوا وحقاً أصابوا: إنّ إبليس يكره العلم والعلماء لأنّهم أقدر على حربه ومقاومته من عابد جاهل. ولعله السر في أنّ الحق جل في علاه دعانا إلى العلم قبل أن يأمرنا بتوحيده سبحانه (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق/ 3-5)، نزلت قبل سورة الإخلاص (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (الإخلاص/ 1)، ومعناه أنّ المجتمع لا تستقيم له عبادة ولا يعرف الاستقرار إذا حارب العلم والعلماء. وكيف يستقر مجتمع وقد فقد الذين يخشون الله (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر/ 28)، وكيف ينهض مجتمع جعلوا العلم والتعليم فيه محواً للأمية وليس استنفاراً لطاقات عقلية.. ولله في حياتنا ووجودنا أسرار وآيات لا يعقلها جاهل أو فوضوي ولا يعقلها أناس تربوا في أحضان الفساد ولكن قال ربك (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ) (العنكبوت/ 43).

ربما كانت مفاجأة مذهلة لأمريكا أن تسبقها روسيا إلى الفضاء. وخافوا أن تختل موازين القوة بين المعسكرين إذا لم يسرعوا إلى فهم الأسباب وقدروا أنّ الخلل يمكن أن يكون في نظام التعليم فأعادوا النظر في مناهج التعليم عندهم خصوصاً المراحل التعليمية الأولى. ومصر صاحبة التاريخ الطويل والعمر المديد صارت الآن مسبوقة في مجال العلم من دول تاريخها قصير وعمرها العلمي قليل. دعنا الآن من سنوات الفساد التي انتهكت حرمة العلم وشوهت مناهج التعليم، فقد ولى الفساد وعلينا أن نتخلص من رواسبه ومخلفاته في مجال التعليم بالذات، فمن الصعب أن يتم التغيير ونظام التعليم على ما هو عليه في قيوده وسلبياته الماضية، فليس من الخير أن تظل النظرة إلى التعليم عندنا نظرة هامشية أو أن يظل مفهوم العلم في ذهن الأجيال مرتبطاً بسعره وقيمته في أسواق المال كأنّه مجرد سلعة إذا كسدت في الأسواق فقدت قيمتها عند طلاب العلم. والعلم قد يفقد قيمته في ظل نظام فاسد لا يريد نهضة ولا تقدماً ولكن العلم لا يفقد قيمته لدى شعوب تؤمن بأن رفعتها في العلم وصلاحها في العلم فكيف إذا كانت هذه الشعوب مؤمنة بأنّ العلم نور الله، وأنّه سر الفلاح في الدنيا والآخرة (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة/ 11)، فربط التعليم بقاعدة الإيمان يجعل له في نفوس أبناء الجيل حرمة لا تنتهك وقدسية يحافظون عليها محافظتهم على الفرائض والعبادات، ففي هذا الدين طلب العلم فريضة على كسل مسلم، والأهم من ذلك أن نوفر للمعلم والمتعلم سبل الإخلاص والكرامة فلا يشعر بأنّه في المرتبة الدونية في مجتمع مسلم حتى لا نرى العلم سلعة أو بضاعة تباع لمن يشتريها أو ترفاً يسعى إليه الأثرياء لاستكمال الوجاهة أو مجرد شهادة يحصل عليها البسطاء ليتسولوا بها على أبواب الشركات والهيئات.. وكم قتلنا في أبنائنا وبناتنا بهذا السلوك بواعث النبوغ في العلم فنامت العقول حتى تبلدت واكتفى طلاب العلم في الدروس الخصوصية ببرقيات عاجلة يحفظونها أو يحملونها سراً إلى مواقع الامتحان، وكأن مهمة القائمين على التعليم إرضاء الجمهور وأولياء الأمور بارتفاع نسبة الناجحين بإفتعال غريب وأسلوب مصنوع.. علينا أن نعيد النظر حتى لا نضع العلم والعلماء في المرتبة الدنيا بينما نهتف بأعلى صوتنا لكل جاهل متسلق أو منافق متملق أو فاجر ينهب ويسرق، فهل آن الأوان لأن نفيق من كبوتنا العلمية قبل أن يكون طوفان الجهل والتخلف أشد علينا من طوفان الظلم والفساد، وليكن شعارنا جميعاً قول الحق سبحانه: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه/ 114)، فلتزحف مواكب العلم إلى المدارس والجامعات وفي يقينهم أنهم يسلكون طريقاً يسّر الله لهم به طريقاً إلى الجنة، والجنة سلعة غالية قد لا ينالها أصحاب المليارات وإنما ينالها الزاحفون إلى المدارس والجامعات (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ) (الحشر/ 2).

* أستاذ بجامعة الأزهر ووكيل كلية اللغة العربية الأسبق

المصدر: كتاب (القرآن وقضايا العصر)

ارسال التعليق

Top