أكرم مصحوب من الأوقات وخير شهر في الأيام والساعات
مَن ذاق حلاوة ذكر الله واعتاد الصبر على الطاعة، يستبشر بحلول شهر رمضان. ويستقبل شهر الله والصيام استقبال العاشق للمعشوق، ويفرح بدرك ليالي القدر، فهي فرحة لا تقاس بها فرحة. وأما أسير الهوى ورهين العادة السيئة ومن أدمن، لا سمح الله، معاقرة الخمرة يكره شهر رمضان ويكره إقبال المؤمنين عليه.
كان الإمام زين العابدين، عليّ بن الحسين السجّاد (ع)، إذا دخل شهر رمضان يقول: "الحمد لله الذي هدانا لحمده وجعلنا من أهله لنكون لإحسانه من الشاكرين ويجزينا على ذلك جزاء المحسنين. والحمد الله الذي حبانا بدينه واختصّنا بملته وسبّلنا في سُبل إحسانه لنسلكها بمنّه إلى رضوانه حمداً يتقبله منّا ويرضى به عنّا. والحمد لله الذي جعل من تلك السبل شهره، شهر رمضان، شهر الصيام وشهر الإسلام وشهر الطّهور وشهر التمحيص وشهر القيام الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبيّنات من الهدى والفرقان".
ثمّ يمضي الإمام في دعائه ومناجاته إلى عرض حاجاته وطلباته إلى الله وعلى رأسها توفيق القيام بحقِّ شهر رمضان والانتفاع به كما ينبغي ويقول:
"اللّهمّ صلِّ على محمدٍ وآله وآلهمنا معرفة فضله، وإجلال حرمته، والتحفظ ممّا حَظَرتَ فيه، وأعنّا على صيامه بكفّ الجوارح عن معاصيك واستعمالها فيه بما يُرضيك حتى لا نسمع بأسماعنا إلى لغوٍ ولا نسرع بأبصارنا إلى لهوٍ وحتى لا نَبسط أيدينا إلى محظور، ولا نخطوَ بأقدامنا إلى محجور، وحتى لا تعي بطوننا إلّا ما أحللتَ ولا تنطق ألسنتنا إلّا بما مثلت ولا نتكلّف إلّا ما يُدني من ثوابك، ولا نتعاطى إلّا الذي يقي من عقابك، ثمّ خلِّص ذلك كلّه من رياء المرائين وسُمعة المُسمعين لا نشرك فيه أحداً دونك ولا نبتغي به مراداً سواك"..
فتذوق أيها القارئ العزيز هذه الكلمات النورية لكي يتجلّى عليك التوحيد والعرفان والإخلاص، وارتفاع مستوى المعرفة في صوم الكُمّلين من العرفاء.
ثمّ إنّ الإمام عليّ بن الحسين (ع) ينبهنا إلى الغايات الأخلاقية من العبادات ومنها الصيام ويقول:
"ووفِّقنا فيه (شهر رمضان) لأن نَصِلَ أرحامنا بالبرِّ والصلة وأن نتعاهد جيراننا بالأفضال والعطيّة وأن نخلِّص أموالنا من التبعات، وأن نُراجع مَن هاجَرَنا وأن نُنصف مَن ظلمَنا، وأن نُسالم مَن عادانا، حاشا مَن عُوديَ فيك ولك فإنّه العدو الذي لا نواليه والحزب الذي لا نصافيه"، إلى آخر ما أفاض الإمام زين العابدين (ع) علينا، كما في الصحيفة السجادية المباركة.
فكما يبدي الإمام سروره وابتهاجه بحلول شهر رمضان ويستمر طول الشهر بالتضرّع إلى الله في أبدع المناجات والعبادات لاسيّما عند الأسحار، كما نرى في دعائه المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي.
في هذا الدعاء يعلّمنا الإمام زين العابدين أدب الدعاء ويوقفنا على آلامنا ومشاكلنا النفسية، والإلحاح والإصرار على الله لكي يأخذنا بيد الرحمة ويساعدنا في إصلاح نفوسنا وخلاص أرواحنا من براثن الشيطان ويطهرنا من دنس ذنوبنا ويرفع بدعائنا إلى ساحة القرب والإجابة. فانظر إلى الجملة التي بها افتتح الدعاء حيث قال: "إلهي لا تؤدّبني بعقوبتك، ولا تمكر بي في حيلتك"، فالإمام السجاد (ع) يشير في هذه الجملة إلى ضرورة التأدّب والانتباه والاتّعاظ بمواعظ القرآن والاهتداء بهدي النبي والأئمة والناصحين والاعتبار من صروف الدهر وغدرها وما يجري في الدنيا من المصائب والمتغيرات على أهلها، وأن لا يستمر الإنسان في غيّه وغفلته إلى حين نزول العذاب عليه رأساً ومباشرة حيث لا ينفع الانتباه هناك.
كان الإمام على هذه السيرة في شهر رمضان حتى يصل إلى نهاية الشهر، فيودع رمضان الكريم وداع الحبيب للمحبوب ويقول: "السلام عليك يا شهر الله الأكبر ويا عيد أوليائه. السلام عليك يا أكرم مصحوب من الأوقات ويا خير شهر في الأيّام والساعات. السلام عليك من شهر قُربت فيه الآمال ونُشرت فيه الأعمال. السلام عليك من قرين جلّ قدره موجوداً وافجع فقده مفقوداً، ومرجو آلم فراقه".
إلى أن يقول: "اللّهمّ صلّ على محمّدٍ وآله واجبر مصيبتنا في شهرك وبارك لنا في عيدنا وفطرنا واجعله من خير يوم مرّ علينا اجلبَه لعفوٍ وأمحاه لذنب واغفر لنا ما خفي من ذنوبنا وما عَلن".
وعلى ذكر الفراق، قصيدة لسعيد بن محمّد الخروصي من الشعراء العمانيين في القرن الثاني عشر يودع فيها شهر رمضان، ومن أبياتها:
قل للرجال المجتبين الكرام *** فودّعوا شهر الهدى والصيام
إذ زارنا مثل خيال المنام *** عليك يا شهر الصيام السلام
كم رابحٍ فيه وكم خاسر *** وكم به من كيّسٍ تاجر
قد جمع التقوى ومن ذاكر *** عليك يا شهر الصيام السلام
بوركت يا شهر الهدى والعفاف *** أنت نظام الشمل والائتلاف
لكنما آذنت بالانصراف *** عليك يا شهر الصيام السلام
* فقيه ومفكِّر إسلامي
المصدر: مجلة الكلمة/ العدد الأوّل لسنة 2004م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق