◄روي أن صاحباً لأمير المؤمنين (ع) يقال له همام كان رجلاً عابداً، فقال يا أمير المؤمنين صف لي المتقين حتى كأني أنظر إليهم.
شرع الإمام (ع) في بيان أوصاف المتقين وأحوالهم بما يأتي الحديث عنه لاحقاً. ولكن قبل ذلك لابدّ من الحديث عن معنى التقوى وأهميتها ودورها في بناء الشخصية الإسلامية.
وعن أمير المؤمنين (ع):
التقوى أزكى زراعة[1].
التقوى رأس الحسنات[2].
التقوى رئيس الأخلاق[3].
التقوى مفتاح الصلاح[4].
التقوى ظاهره شرف الدنيا وباطنه شرف الآخرة[5].
- ما هي التقوى؟
يفترض الكثيرون أنّ التقوى من الوقاية، والوقاية تعني الحذر والاحتراز والبعد والاجتناب، فهي إذن سيرة عملية سلبية، وكلما الحذر أكثر كانت التقوى أكمل!
وعلى هذا التفسير تكون التقوى هي سيرة عملية سلبية لا إيجابية. ولهذا نرى أنّ المتظاهرين بالتقوى يحذرون التدخل في أي عمل، حرصاً على سلامة تقواهم!
ولا شكّ أنّ الحذر والاجتناب هو من أصول الحياة للإنسان العاقل، فإنّ الحياة لا تخلو عن مقارنة بين السلب والإيجاب والنفي والإثبات والفعل والترك والإقدام والإحجام. بل لا يصل الإنسان إلى الإيجاب إلا عن طريق السلب ولا إلى الإثبات إلا بعد النفي، وليست كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، إلا كلمة جامعة بين النفي والإثبات، ولا يمكن إثبات التوحيد إلا بعد نفي ما سوى الله تعالى. ولذلك نرى أنّ الإيمان والكفر مقترنان والطاعة والعصيان ملتزمان، أي أن كل طاعة يقابلها معصية، وكل إيمان يقابله كفر: (.. فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى...) (البقرة/ 256).
ولكن البعد والنفي والعصيان والكفر لا تصح إلا للعبور إلى أضدادها، أي القرب والإيمان، فالسيرة العملية السلبية بلا حدود ولا قيود ولا أهداف، ليست مقدسة ولا يحمد عقباها.
- المعنى الإيجابي للتقوى:
(.. ذمتي بما أقول رهينة، وأنا به زعيم! إن من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلات حجزه التقوى عن التقحم في الشبهات.. ألا وإنّ الخطايا خيل شُمس حمل عليها راكبها وخلعت لجمها فتقحمت بهم في النار... ألا وإنّ التقوى مطايا ذُلُل حمل عليها راكبها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة..)[6].
فقد وصف الإمام (ع) التقوى في خطبته هذه بأنّها: حالة روحية معنوية من آثارها ضبط النفس وامتلاك أزمتها، وأن من لوازم إتباع الهوى وترك التقوى هو انعدام الشخصية وضعف النفس أمام هواها وعند حركة شهواتها، وانّ فاقد التقوى حينئذ يكون كراكب ضعيف لا إرادة له في تسيير مركبه، بل المركب هو الذي يسير حيث يشاء ويهوى، وأن من لوازم التقوى قوة الإرادة وامتلاك الشخصية المختارة، كراكب ماهر على فرس مدربة تسير به في الناحية التي يختارها بكل اقتدار وسلطة، فتطيعه الفرس بكل يسر.
فالتقوى في نهج البلاغة (قوة روحية تتولد للإنسان من التمرين العملي الذي يحصل من الحذر المعقول من الذنوب). فالحذر المعقول والمنطقي يكون مقدمة للحصول على هذه الحالة الروحية، وهو – من ناحية أخرى – من لوازم حالة التقوى ونتائجها.
(.. إنّ تقوى الله حمت أولياء الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم)[7].
(فإنّ التقوى في اليوم الحرز والجنة، وفي غد الطريق إلى الجنة)[8].
نرى أنّ الإمام (ع) قد طف نظره في هذه الكلمات إلى الناحية الروحية والنفسية والمعنوية للتقوى وآثارها في الروح، بحيث تبعث في الإنسان الإحساس بحبِّ البر والطهر، والإحساس بالتذمر من الذنوب والأرجاس والأنجاس.
وهناك كثير من الناس لا يفرقون بأنّ (الوقاية) و(القيود) ولذلك فهم يفرون من التقوى باسم التحرر من القيود والخروج عن الحدود.. ولا شك أنّ الجدار الواقي يشترك مع السجن في أنهما كليهما مانعان، ولكن الجدار الواقي يمنع عن الخطر، في حين أنّ السجن يمنع عن التمتع بالنعم والمواهب المعدة للإنسان.
ويصرّح في بعض كلماته أنّ التقوى ليست قيوداً تمنع عن التحرر بل هي منبع الحريات الواقعية وأساسها ومنشؤها.
(.. فإن تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كل ملكة، ونجاة من كل هلكة..)[9] فالتقوى تهب للإنسان حرية معنوية، تحرره من أسر عبودية الهوى، وترفع عن رقبته حبال الحسد والحقد والطمع والشهوة، فنجد البعض يخضع للدنيا والمال والمقام والراحة (فهو عبد لها ولمن في يده شيء منها) بينما لا يخضع التقي وهو حر أبدا.
- التقوى تقي الإنسان، والإنسان يحافظ عليها:
بل يؤكد الإمام (ع) على أنّ التقوى وثيقة تضمن للإنسان نوعاً من الأمن من الزلل والفتن، وفي نفس الوقت يلفت نظر الإنسان إلى أنّه أيضاً يجب عليه أن لا يغفل لحظة عن حراسة التقوى، فإنّ التقوى وإن كانت واقية للإنسان فمع ذلك يجب على الإنسان أيضاً أن يكون واقياً لها بنوع من المحافظة المتقابلة بين الإنسان والثياب، إذ الإنسان يحافظ عليها من التمزق والسرقة، وهي تحافظ على الإنسان من الحر والبرد والبأس والبؤس، ولقد عبّر القرآن الكريم أيضاً عن التقوى باللباس فقال: (.. وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ...) (الأعراف/ 26). وقال الإمام علي (ع) بهذا الصدد: (... أيقظوا بها نومكم واقطعوا بها يومكم وأشعروها قلوبكم وارحضوا بها ذنوبكم.. ألا فصونوها وتصوّنوا بها...)[10].
وقال (ع): (.. أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فإنّها حق الله عليكم، والموجبة على الله حقكم. وأن تستعينوا عليها بالله، وتستعينوا بها على الله..)[11].
- آثار التقوى:
إنّ للتقوى آثاراً عظيمة على الإنسان في الدنيا والآخرة، وسنشير هنا إلى بعض الآثار الدنيوية:
التيسير والتسهيل:
إنّ الحياة في المساحة التي تدخل ضمن حدود الله حياة مباركة، كثيرة البركات، ميسّرة بعيدة عن التعقيدات، وعكس ذلك العيش خارج حدود التقوى، فهو مقرون بالعسر والضنك والشدة والتعقيد.
وقد قسّم الله تعالى للناس من الرحمة والبركة والفرج والتيسير والتسهيل في دائرة التقوى، وضمن حدود الله ما لا يرزقه أحداً خارج هذه المساحة.
وإليك بعض الشواهد على ذلك من كتاب الله:
يقول تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف/ 96).
ويرزقهم بالتقوى من حيث لا يحتسبون. يقول تعالى: (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (الطلاق/ 3).
ويجعل الله تعالى لهم من أمرهم يسراً كلما واجهوا في حياتهم عسراً وشدّة. يقول تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) (الطلاق/ 4).
د- ويجعل الله تعالى للناس في حياتهم بالتقوى فرجاً من كل ضيق، ومهما ضاقت عليهم مسالك الحياة فرّجها الله تعالى لهم بالتقوى. يقول تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) (الطلاق/ 2).
- الأمن والسلام بين الناس:
إنّ منطقة التقوى هي منطقة أمينة ينعم فيها الإنسان بالأمن والسلام في الدنيا والآخرة، الأمن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في الدنيا يقوم غالباً على نوع العلاقة فيما بين الناس، فإذا كانت هذه العلاقة قائمة على أساس العدل والإنصاف والتقوى والتزام حدود الله، فإنّ الناس ينعمون في هذه المساحة بالأمن والسلام لا محالة.
عن رسول الله (ص): "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يخونه"[12].
إذن هذه المنطقة في حياة الناس منطقة أمينة حصينة، إذا دخلها الناس أمن بعضهم من بعض، وسلم بعضهم من بعض، ففي هذه المنطقة كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله. وفي هذه المنطقة يأمن المسلم على نفسه من الغش والغدر والخيانة والكذب من ناحية أخيه المسلم، عن الإمام الصادق (ع): "المسلم من سلم الناس من يده ولسانه"[13].
- خلاصة الدرس..
يفترض الكثير أنّ التقوى من الوقاية، والوقاية تعني الحذر والاحتراز والبعد والاجتناب، فهي إذن سيرة عملية سلبية، وكلما كان الحذر أكثر كانت التقوى أكمل!
وصف الإمام (ع) التقوى في خطة له بأنّها: حالة روحية معنوية من آثارها ضبط النفس وامتلاك أزمتها، وأن من لوازم إتباع الهوى وترك التقوى هو انعدام الشخصية وضعف النفس أمام هواها وعند حركة شهواتها.
هناك كثير من الناس لا يفرقون بين (الوقاية) و(القيود) ولذلك فهم يفرون من التقوى باسم التحرر من القيود والخروج عن الحدود.. ولا شك أنّ الجدار الواقي يشترك مع السجن في أنهما كليهما مانعان، ولكن الجدار الواقي يمنع عن الخطر، في حين أنّ السجن يمنع عن التمتع بالنعم والمواهب المعدة للإنسان.
أنّ التقوى وثيقة تضمن للإنسان نوعاً من الأمن من الزلل والفتن، وفي نفس الوقت يلفت نظر الإنسان إلى أنّه أيضاً يجب عليه أن لا يغفل لحظة عن حراسة التقوى.
إنّ التقوى آثاراً عظيمة على الإنسان في الدنيا والآخرة، كالتيسير والتسهيل، والسلام والأمن بين الناس.
- أشعار الحكمة:
من يتّق الله يحمد في عواقبه **** ويكفّ شرّ من غرّوا ومن هانوا
من استعان بغير الله في طلب **** فإن ناصره عجز وخذلانُ
من سالم الناس يسلم من غوائلهم **** وعاش وهو قرير العين جذلانُ
من يزرع الشرّ يحصد من عواقبه **** ندامة ولحصد الزرع إبّانُ
ومن رافق الرفق في كل الأمور فلم **** يندم عليه ولم يذممه إنسانُ
الهوامش:
[1]- الغرر 1/ 161.
[2]- الغرر 1/ 188.
[3]- الغرر 1/ 194.
[4]- الغرر 1/ 233.
[5]- الغرر 2/ 106.
[6]- نهج البلاغة، ج1، خ12.
[7]- الريشهري – محمد محمدي – ميزان الحكمة – دار الحديث، الطبعة الأولى – ج2، ص1377.
[8]- نهج البلاغة، ج2، خ191.
[9]- نهج البلاغة، ج2، خ230.
[10]- نهج البلاغة، ج2، خ191.
[11]- نهج البلاغة، ج2، خ191.
[12]- المجلسي – محمد باقر – بحوار الأنوار – مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة – ج71، ص256.
[13]- ميزان الحكمة، ج2، ص1340.
المصدر: كتاب (المتقون/ سلسلة الدروس الثقافية 19)
ارسال التعليق