قال تعالى:
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) (الكهف/ 83-98).
ليس لنا حاجة إلى اسم ذي القرنين ولا إلى ذكر مسقط رأسه ولا إلى أسماء البُلدان التي فتحها أو لماذا لقب ذي القرنين كما يفعل المفسرون والمؤرخون، بل نحن نقتفي أثر القرآن الكريم نتلو على القارئ العزيز منه ذكراً – أي قرآناً – وقد نقلنا آياته البيّنات ثمّ نضعُ بين يديه ما تحملُه تلك الآيات من مفاهيم قرآنيةٍ تَبني حياة الفرد والجماعة على حدٍّ سواء.
والقرآن الكريم انما احتفظ لذي القَرنين بهذا الذكر المجيد لما كان عليه من الطاعة والعبودية الحقة لله – عزّ وجلّ – وهكذا هو شأن القرآن يسجل أكملَ التجارب البشرية الخيّرة ويقدمها لنا لعلنا نهتدي بها ونستنير.
والتجربةُ التي بين أيدينا هي تجربة عبدُ صالحٍ أحبَّ الله وأحبَّه ونصحَ للهِ فنصحه، ومن هنا جاء التمكين له في الأرض وإيتانه من كلِّ شيء سبباً. فهي تَعرضُ لنا كيف اتّبع هذا الرجل المخلص والعبد الصالح الأسباب التي هيّأها الله له، وكيف تحرّك بها بقوة وعدالة وعن أمر من الله تعالى، وكيف تعامل مع الجماهير والبلاد المفتوحة، وكم كانت نزاهته في طريق الوصول للأهداف الإلهية، وكم كانت قدرته على ربط الأحداث بموجدها، وقابليته على جذب بني الإنسان صوب الهدف الذي يقصده.
ونودُّ أن نذكّر أنّ القرآن بقدر ما هو كتاب علم فهو كتاب عمل، وهذا العبد الصالح الذي سنتناول ذكره بعد قليل ضمن عدة نقاط هو ممن جسّد هذا المفهوم بحقّ، ونذكّر أيضاً أنّ القرآن لا ينتصر ولا يكون فاتحاً قلوبَ الناس وعقولَهم إلّا إذا تهيّأ له مَن يحمله بكفتيه كفةِ العلم وكفة العمل وباخلاص وأمانة.
1- ذو القرنين وحبَّه لله ونصحه له عزّ وجلّ:
إنّ الآيات القرآنية – الوارد ذكرها في صدر البحث – ابتدأت الحديث عن ذي القرنين، بذكر التمكين له في الأرض، واتيانه من كلِّ شيء سبباً، وهذا – أيّ التمكين يتوقفُ على مقدماتٍ، حسب مقتضى الحكمة الإلهية. إذ كلُّ أفراد البشر يتمنَوْنَ أن يمكّنهم الله في الأرض، ويؤتيهم الأسباب كلَّ الأسباب، لأنّهم يعتقدون أنّ ذلك من الكمالات التي تنزع نحوها نفس الإنسان وتتطلع إليها[1]. أو لأنّهم يخافون الضرر فيريدون دفعَه بهذا التمكين، أو قل تمنّيهُم هذا ناشئٌ من حبِّ السلامة وحبِّ الملِك، ولكن ليس كلُّ الأفراد حظّهم واحد، في هذا الأمر، إذاً قلّما مَكنّ الله شخصاً وآتاه من الأسباب، مثلما آتى ذا القرنين ومكّنه، ولو أردنا أن نعرف السِّر في ذلك نجدُ من خلال التأمل والإمعان الدقيق في الآيات البيّنات انّ هذا الأمر مرتبطٌ بمقدماتٍ يجبُ توفرُها، إن وُجدتْ وُجِدَ وإن عُدِمَتْ عُدِمَ.
ومن هذه المقدمات التي توفرتْ عليها شخصية هذا العبد الصالح هو حبُّه لله عزّ وجلّ، وطاعته والنصح له، فقد رُوي عن عليّ (ع) في رواية لا نذكر منها إلّا مَحَلِّ الشاهد، وذلك في جوابه ابن الكوّاء، عندما سأله عن خبر ذي القرنين فقال: "... كان عَبْداً أحبَّ الله فاحبّه ونصحَ لله فنصحه الله..."[2].
وفي روايةٍ أخرى عن سالم بن أبي الجُعد قال: سُئِل عليٌّ عن ذي القرنين أنبيٌّ هو؟ فقال: سمعتُ نبيكم (ص) يقول: "هو عبدٌ ناصَحَ الله فنصَحه"[3].
والنصحُ لله هو ضدُّ الغشّ والحقد فكان هذا العبد الصالح معروفاً بهذه الخصلة الحميدة، إذْ كيف يغُشُ الله تعالى وهو يعلم انّه محيطٌ بما لديه خُبْرا، وكيف يحقد وهو يرى غناه بالله ويرى قلبه هائماً متعلقاً بالله عزّ وجلّ.
والنصحُ للهِ، كما هو معروفٌ، لدى علماء الأخلاق، هو النصحُ لله في حقِّه وفي خلقهِ، وهو أفضلُ عملٍ يُقدمُه الإنسان لنفسه وللبشرية. فقد جاء عن الصادق (ع) قوله: "عليك بالنصح لله في خلقه فلن تلقاه بعمل أفضل منه"[4].
والنصحُ لله هو حبُّ الله عزّ وجلّ، والتقرب إليه بصالحات الأعمال، وغاية النصح لله أن يحب الإنسان ما يُحبُّه الله، ويبغض ما يبغضه الله، والنصح للهِ، هو الصُّدق مع الله في كلِّ المواطن، وقد ذكر في معاني النصح "بقاءُ نعمة الله على المسلمين وكراهة وصول الشر إليهم"[5].
وقد تجسّد هذا المعنى جليّاً في حياة هذا العبد الصالح، حيث أقدم على بناء أساس العدل في تلك المجتمعات التي تعيش الظلم والإعتساف، مثلما أقدم على بناء الردم، ليحفظ أولئك القوم الذين شكوْا إليه أمر يأجوجَ ومأجوجَ، ووصول شرِّهما إليهم، منطلقاً من هذا الباعث الحميد، وهو إرادةُ بقاء نعمة العدل والأمان عليهم، وكراهة ممارسة الظلم والشرِّ فيهم.
والنصح لله هو الإخلاص له عزّ وجلّ، ألا ترى أنّ ذا القرنين أقدم على بناء الرَّدم الحديدي المحكَم، دون أن يرجو غرضاً دنيوياً من مَدحٍ، أو سمعةٍ، أو أجرٍ ماليٍّ أو تخليدٍ ذكرٍ أو غيرها من الأمور الحقيرة، بل بنى ذلك الردمَ الذي استغرق جُهداً ووقتاً لا يعلمه إلّا الله من أجل أن يتقرب إلى الله عزّ وجلّ، ومن أجل أن يحمي بني الإنسان من شرور المعتدين والظالمين. ومعلومٌ أنّ العمل بهذا الباعث – أي باعث الأخلاص – لا يتحققُ إلا لحبٍّ لله تعالى مستهترٍ به مستغرق الهم بعظمتِه وجلاله، بحيث لم يكن ملتفتاً إلى الدنيا مطلقاً، ويشهدُ لهذا المقام الذي عليه هذا العبدُ الصالح انّه لم يجذبه الخرج (الأجر) الذي عرضوه عليه مقابل أن يجعل لهم سدّاً ولم يسلٍ له لعابه بل قال: (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ). وعلى رغم قوة ذلك السد وَعظمته لم تصرفه عظمة ذلك السد عن عظمة الله والاعتراف بنعمته فقال وهمُّه الاستغراق بعظمة الله وجلاله دون غيره (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي..). فالإخلاص لله هو أن لا يرى الإنسان لنفسه شيئاً أمام الله تعالى بل كلُّ شيءٍ هو نعمةٌ من الله تستحقُّ الشكر والذكر. وذو القرنين لم ينسب لنفسه هذا العمل، على رغم جسامته وعظمته، وكيف لا يكون عظيماً وهو قد أنقذ به قوماً مستضعفين من شرور وغارات المعتدين والناهبين أقوامٌ يأجوج ومأجوج؟ وكيف لا يكون عظيماً ذلك السدُّ الذي حار المؤرخون في وصف متانته، وقوته، وطوله، وعرضه، وارتفاعه بحيث قال عنه القرآن: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا)، بل كان التفاني، وبذل الجهد، والخبرة العلمية، من أجل أن يكون العمل خالصاً لوجه الله، ومن أجل أن يكون متقناً جدّاً أشدّ من نفس العمل، حيث نَلمَسُ من قوله: (هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) بعد تمامية العمل أنّه لا يريد أن يرى نفسه محسناً أو ممتناً عليهم بل يريد أن يوجّه الأنظار إلى الله عزّ وجلّ، من غير أن يلاحظ عوضاً لنفسه في الدنيا والآخرة. وأنّه لا يريد أن يحمده عليه أحد إلا الله، بل يريد من الحمد والشكر والعرفان أن يتوجه نحو الله عزّ وجلّ ورد عن الإمام الصادق (ع): "الابقاءُ على العمل حتى يخلص أشدُّ من العمل، والعملُ الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحدٌ إلا الله عزّ وجلّ..."[6].
ولا غرابة حينما يحتفظُ القرآنُ بهذا العمل المخلص، والذكر الحميد، لهذا العبد الصالح المخلص، الذي أبى إلّا أن يذكر الله ويعظمه، في لحظات نشوة الانجاز، فنسبَ ما أنجزه إلى الله، وانّه نعمةٌ من ربه. ولا غرابة أن يقدّم تجربته وعمله كنموذجٍ صالح، يقتدي به العاملون في طريق الله.
فالقرآن الذي لم يذكر من ذي القرنين اسماً، ولا تعريفاً لشخصه، ولا لموطنه، ولا لعمره إلا من أجل التركيز على الجوهر والعمدة، في حياة هذا الرجل الصالح، وهو عمله الذي أخلص فيه لله تعالى.
روي أنّ موسى (ع) لمّا تعجّل إلى ربه رأى في ظلّ العرش رَجُلاً، فغبطه، وقال: "انّ هذا الكريم على ربه. فسأل ربه أن يخبَره باسمه فلم يُخبره باسمه، وقال: أُحدثك عن عمله: كان لا يحسدُ الناس على ما آتاهم الله من فضله، وكان لا يَعُقُّ والديه، ولا يمشي بالنميمة"[7].
2- اتّباعه للأسباب التي آتاه الله إياها:
اتباع الأسباب حركة موفقة ومنسجمة مع سنة الله عزّ وجلّ وبالعكس الاستغناء عن الأسباب في الوصول إلى المسببات والنتائج إذهاب لسنة الله تعالى وحكمته، فقد "روي أنّ زاهداً من الزهاد فارق الأمصار وقام في سفح جبلٍ وقال: لا أسألُ أحداً شيئاً حتى يأتيني ربي برزقي، فقعد سبْعاً فكاد يموتُ ولم يأتِه رزقُهَ، فقال: يا ربِّ إن احييتني فاتني برزقي الذي قسمتَ لي وإلّا فاقبضْني إليك. فأوحى الله إليه وعزتي وجلالي لا أرزقك حتى تدخل الأمصار وتقعد بين الناس. فدخل المصر وأقام فجاء هذا بطعامٍ وهذا بشراب، فأكل وشرب وأوجس في نفسه ذلك، فأوحى إليه أردتَ أن تُذهب حكمتي بزُهدك في الدنيا، أما علمتَ انْ أرزُقْ عبدي بأيدي عبادي أحبّ إليَّ من أنْ أرزقه بيد قدرتي"[8].كما انّ العمل بالأسباب المظنونة والمقطوعة كما يقول العلماء أمرٌ لا يخالف التوكُل على الله، إنما الذي يُخالف التوكل هو التعلق بالأسباب الموهومة مثل الطيرة والرقية، وإنّ التوكل على الله لا يتحقق إلا للذين هُم في المرتبة الثالثة من مراتب التوحيد[9] وهم أولئك الذين يعتقدون أنّ الله هو فاعل الأسباب وموجدها والمؤثر في كلّ شيء ولا فاعل حقيقياً غيره، وحده لا شريك له، وانّ جميع الموجودات من إبداع الله عزّ وجلّ واختراعاته.
وبعد أن استعرضنا بهذه العُجالة والإيجاز هذه الأمور الثلاثة وهي كون اتباع الأسباب هو عملٌ بالحكمة الإلهية، وانّ الأسباب المقطوعة والمظنونة لا تخالف التوكل، وانّ التوكل الحقّ لا يتحقق إلا لمن هو في المرتبة الثالثة من مراتب التوحيد، نقول: إنّ ذا القرنين بعد أن آتاه الله من كلِّ شيء سبباً اتبع سبباً ومقتضى ما فات من بيانٍ أنّه عمل وفق سُنة الله في ربط الأسباب بالمسببات. قال الإمام الصادق (ع): "أبى الله أن يجري الأشياء إلا بالأسباب فجعل لكلِّ شيءٍ سبباً"[10].
ونقولُ: لما كان السبب الذي سلكه واتخذه وصلةً لهدفه من النوع المظنون لأنّ تهيئة السلاح مثلاً وإعداد الجيش المؤونة والخطط العسكرية وتوفير مستلزمات السير وغيرها من أمورٍ كلُّ ذلك من أجل الانتصار على حكّام الشرك والكفر الذين كانوا يحكمون الأرض آنذاك ويضلون عباد الله. ومعلوم أنّ النصر العسكري وفق الأعداد المادية ظنيٌّ، إذن فاتباع هذه الأسباب لا يخالف حقيقة التوكل على الله لأنّها ظنيةٌ ولأنّ الثقة الحقيقية قائمة بالسبب الكلي الحقيقي وهو الله تعالى شأنه ولا حظَّ لهذه الثقة بهذه الأسباب الظنية فلا تقل انّ ذا القرنين من المقرّبين ومن أولياء الله الصالحين فكيف وهو على هذه الدرجة من التوحيد والتوكل على الله يتبع الأسباب المادية الظاهرية كما هو صريح قوله تعالى: (فَأَتْبَعَ سَبَبًا)، نقول هو إتبعها ولكن دون أن تكون ثقته المطلقة بها وانما هي بالله سبحانه وتعالى، لأنّها صادرةٌ منه وهو الموجد لها وانما لا وجود لها لولاه، غاية الأمر انّه باتباعه الأسباب عمل وفق سنة الله وحكمته لا غير، ولهذا نراه حينما أكمل بناء الرّدم الحديدي لم يتفوّه في التعبير عنه بأكثر من هذه الكلمة قال: (هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي)، فقد أرجع كلّ ما اعطته الأسباب الظاهرية إلى السبب الفاعل والموجد الحقيقي لها وهو الله تعالى. كما بيّن بكلامه هذا أنّ هذه الأسباب انما خلقها الله وسخرها لكي تكون رحمةً للبشرية وأنّه اقتضت حكمته وسنتُه انّه لا وصول إلى الأهداف والمقاصد إلا من خلال سلوكها واتباعها.
ولكن من المعلوم أنّ القائد العسكري الرباني يختار الأسباب بحرية وبملىء إرادته، إذا كانت تنسجم مع إرادة الله تعالى، أما أن يقيّد بشروطٍ من الخارج، أو تُركّع إرادته بأساليب تساومية، فهذه الممارسات، التي يعاني منها أكثر ثوار هذا العصر، لا تنسجم مع حرية اختيار القائد العسكري، في توجيه الأسباب، وفي استعمالها، وامتلاكها إلى غير ذلك، لهذا نجد انّ الآية الكريمة، بعد ان ذكرت ما مكّنه المولى عزّ وجلّ به. تركت لهذا العبد الصالح مجالاً يستعمل فيه إرادته، وفكره، وحريته فقالت: (فأتبع سبباً).
ثمّ إنّ قوله تعالى: (فأتبع سبباً) جاءت فيه كلمة السبب نكرةً وذلك للدلالة على أنّ الأسباب لا تنحصر ولا تُعدُّ وأنها تتغير حسب الأماكن والظروف الخارجية والمقصد ومقاطع الزمن وأنّ من حقّ الإنسان اختيار واتباع ما يناسب أهدافه ومراميه من الأسباب سرّاً أو علناً، وقوله تعالى: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا)، يُشير إلى أنّ الأسباب التي سلكها في سيره نحو الشرق غير الأسباب التي سلكها في مسيره نحو الغرب، فقد يكون الهدف واحداً في كلا السيرين وهو تحرير بني الإنسان من ظلام الشرك والكفر والوثنية إلّا أنّ المكان الذي قصده أوّل الأمر كما يظهر من الآية الكريمة مكان محاذٍ للمياه قال تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا...) والمكان الذي قصده ثانياً كما يظهر من الآية الكريمة كان مكاناً صحراوياً قال تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا)، يشير إلى جملةٍ من الأسباب الأخرى التي لا تتلاءم مع ذينك السيرين السابقين. فكانت من جملة الأسباب التي اعتمد عليها زبرُ الحديد والصفرُ المذاب ومفافيخ الهواء وسواعد الرجال والعلم الهندسي العمراني والنار... إلخ من الأسباب التي اشتركت بدرجة أولى أو ثانوية في انجاز الردم. فكان ذو القرنين يعلم علم اليقين انّ هذه الموجودات والأسماء كلّها مخلوقات لله سبحانه وتعالى ومسخرات بأمره ولهذا فهو لم ينسب هذه الرحمة – التي كانت سبباً لنجاة وأمان أصحاب السَّد – إلى نفسه أو إلى قوتهم أو إلى معدن الحديد أو النحاس أو إلى غيرها من الأسباب المادية الأخرى بل لفت انتباه الجميع إلى أنّ السبب الحقيقي في هذا الأمر هو الله دون غيره (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي)[11] فليست الرحمة من الحديد ولا من سواعد الرجال ولا من عمله وملكاته الهندسية ولا من عوامل الطبيعة الأخرى ولا من افاضات وبركات وأنفاس الأرباب الأخرى التي كانت تعبد من دون الله بل هي من ربه من الله الواحد الأحد فهو لم ير في الوجود مصدراً للرحمة غيره ولم يرَ فاعلاً ومؤثراً غيره.
إنّ مثل هذا الإنسان لا طمع للشيطان فيه بل الشيطان حالما يلتقي أو يعلم بأمثال هؤلاء الأولياء يوليّي خائباً آيساً لا يستطيع أن يأخذ من دينهم شيئاً ولا من توحيدهم ذرةً.
انّ مثل هذا الإنسان لأهلٌ وجديرٌ أن يتحرك وأن تكون له مسؤولية محاربة الشرك وفتح بلاد المشركين وتعبيد البشرية لله تعالى.
إنّ أمثال هذه المهمات – يحتاج إلى أمثال هؤلاء الرجال وإلّا فالأمر واضح حينما يدعي مدع بمحاربة المشركين والكافرين وهو بعد لم يتسلح بسلاح الإيمان بالله فضلاً عن توحيده بالمرتبة الثالثة من مراتب التوحيد فهو أجدر أن يُحارب لا أن يُحارب وأن يبتعد على الأقل من هذا النفاق لا أن يتمشدق كذباً وافتراءً على الله وعلى الناس.
ومن هنا نعلم أنّ مهمات فتح البلدان وفتح قلوب الناس وإزالة الشرك والكفر والضلال. والتبعية لغير الله من قلوبهم تحتاج إلى عبد صالح مخلص متوكل على الله لا على أعداء الله معتمد على الإيمان وصفّه وأدواته ووسائله لا على الكفر وأساليبه ومناهجه وسياساته وألاعيبه.
3- القيادة القديرة العادلة:
لقد عرفنا في النقطة الثانية أنّ هذه القيادة كانت على مستوىً رفيع جدّاً في الإيمان والتوكل على الله وفي هذه النقطة نحاول أن نُلقي الضوءَ على الصفات الأخرى التي تتصفُ بها هذه الشخصية القيادية.
وصفةُ القدرة واضحةٌ بجلاء في كلام ذي القرنين وفي فعله وفي امتنان الله تعالى عليه، فما جاء في كلامه يشير إلى هذه القدرة، فالقوم سألوه أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سدّاً.. فقال لهم: (.. أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) والردم هو السد الشديد فقد أجابهم بأكبر مما يتمنون ويُريدون وهذا دليل على امتلاك القدرة والإمكانية.
وقد عرضوا عليه أجراً إن هو جعل هذا السد فرفض قائلاً: (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ...) مستغنياً عن عروضهم المالية لأنّه يملك أكبر منها وأفضل وأوسع.
ثمّ انّ رجلاً يجوب الأرض غرباً وشرقاً يقاتل الظلمة ويطارد المشركين ويفتح بُلدانهم ويحكُم فيهم لهو على قدرة لا يتمتع بمثلها إلا نبيٌّ أو وليٌّ.
وانّ رجلاً يبني سدّاً من الحديد والنحاس المذاب بين جبلين ويمنعُ به أعتى أجيال السطو والغصب والعدوان والإفساد من أمثال يأجوج ومأجوج لهو على مكانةٍ من القدرة المكينة. فأفعاله هي الأخرى إذن تشير إلى أنّه ذو قدرة غريبة ناهيك عمّا أخبر عنه القرآن الكريم حيث قال المولى: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) (الكهف/ 84)، هذا حال القدرة.
وأقول تطبيقاً لهذا الكلام المتين إنّ ذا القرنين وهو في تلك الحالة الرجل الفاتح التي تتهايج فيها عادةً قوى كثيرة متضادة وأمورٌ متعددةٌ استطاع أن يقهر تلك القوى بالقوة الخيّرة المودعة عنده وهي قوة العقل السليم "خليفة الله على جميع القوى" هذه القوة الفطرية التي فطر الله الناس عليها وهي استقباح الظلم واستنكاره، ناهيك عن أنّ ذا القرنين كما يظهر من قوله تعالى: (وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا)، أنّه ما كان يرد ولا يصدره إلا عن هداية يهتدي بها وأمر يأتمره كما أشار إلى مثل هذا المعنى الكنائي عند ذكر مسيره إلى الغرب بقوله: (قلنا ياذا القرنين... إلخ الآية)[12] فالقائل هو الله تعالى ولكن لا دلالة في قوله على أنّه يوحى إليه لكون القول أعم من الوحي المختص بالنبوة كما يقول السيد الطباطبائي في تفسيره.
وبما أنّ الرجل الفاتح والقائد المظفّر يتمكن من قمع الظلم وابادته لم يكتف بهذا الاستنكار والاستقباح الذي تهتفُ به الفطرة، بل لابدّ لاستئصاله من ترتيب آثارٍ أكثر من الاستنكار ألا وهي قهر الظلم والظالمين وتعذيبهم بما جنت أيديهم وتعظيماً لأمر الله تعالى في محوهم والقضاء على شريعتهم. وكيف لا يفعل هكذا وهو يُريد أن تسود العدالة بين أفراد المجتمع الإنساني، أليس من الحقّ والعدل أن يبدأ أوّلاً بتطبيقها في مجالها الحقّ وهذا هو مجالها.
وأخيراً نقول في بحث هذه النقطة إنّ قدرة يتحلّى بها قائدٌ بدون أن ترافقها العدالة لهي أقرب إلى خدمة الظلم منه إلى غيره، والواقع الخارجي مشحون بهذه المصاديق من الحكّام والأولياء الظلمة الذين يمتلكون قدرةً ولا يمتلكون عدالة في التصرف بتلك القدرة.
ولا يفوتك – أخي القارئ العزيز – حقيقة العادل "فالعادل بالحقيقة يجب أن يكون حكيماً عالماً بالنواميس الإلهية الصادرة من عند الله سبحانه لحفظ المساواة)[13]... كما أنّ العدالة غير مفهوم الإنسانية التي يتمشدَقُ بها حكام العالم هذا اليوم وغير مفهوم الشرعية الدولية التي يُقتّلُ تحت غطائها مئات الآلاف من الأبرياء. وليس من البعيد أيضاً لو قلنا انّ القرآن الكريم احتفظ للبشرية بهذه التجربة الإيمانية العادلة في ميدان الفتوح والحروب لما تشعّ به هذه التجربة من روح العدالة الحقّة والإنسانية النبيلة وإحقاق حقّ وإبطال باطل.
وإذا كان النبي محمد (ص) يقول: "عدلُ ساعةٍ خيرٌ من عبادة سبعين سنة"[14] نستطيع أن نقول انّ تلك الفترة التي خرج بها ذو القرنين كانت بحقّ فترةً ذهبيةً في حياة الإنسان عامةً بعد أن عاش في دياجير الظلم والقهر والاستعباد والسلب والعدوان والشرك والكفر أعصاراً رهيبة.
4- نزاهة القائد واستغناؤه عما في أيدي الناس:
عندما يرى الإنسان نفسه محتاجاً إلى متاع دنيوي وفي نفس الوقت يرى هذا المتاع موفوراً عند الآخرين فمرة يسألهم ويتملق لهم من أجل نيله أو يطمع به فيدنو منهم ويخدمهم ويتزلف إليهم لاستحصاله، ومرة لا تمتدُّ عينه إلى ما في أيدي الناس حتى وإن كان في فاقة وحاجة شديدة، بل هو يصبر ويحتسب أمره عند الله ومرة ثالثة يرى الإنسان أنّ ما في يده من إمكانات وقدرات وامتعة وأموال وأشياء أخرى تُغنيه عما في أيدي الناس ولا حاجة له بما يمتلكون من أموال. فأمّا الأوّل فهو الطامع وبئس عبداً ذليلاً هو، وأما الثاني فهو ضدّ الأوّل غنيّ النفس وهو الخير كله قال سيد الساجدين (ع): "رأيت الخير كله قد اجتمع في قطع الطمع عما في أيدي الناس"[15] وأما الثالث فهو القنوع الذي لا يشتغل قلبهُ بالزائد عما في يده وعما رزقه الله واعطاه وهو اغنى العباد روي أنّ موسى سأل ربه تعالى، وقال: "أي عبادك أغنى قال أقنعهم بما أعطيته"[16] وقال الإمام الباقر (ع): "من قنع بما رزقه الله فهو أغنى الناس"[17]. فمن أي صنف من الأصناف الثلاثة يكون ذو القرنين؟ والجواب بلا شك هو من الصنف الثالث لأنّ الله مكنه وآتاه من كل شيء سببا، فهو لا يحتاج بعد هذا التمكين إلى الخرج الذي يجمعه جمهور المستضعفين ويقتطعونه من لقمة عيشهم لا سيما وهم في حالة يرثى لها يشكون السلب والنهب والتقتيل الذي يُمارس ضدهم من قبل أقوام يأجوج ومأجوج. وهو بلا شك من الصنف الثاني لكن على نحو الموجبة الجزئية إذ هو ليس من لا يمتلك ما يراه موفوراً ومهيئاً عند أولئك القوم الذين طلبوا منه بناء سدّ لهم بل لأنّه غنيّ النفس كما يشهد له قوله: "ما مكني فيه ربي خير" ولأنّ "اليأس مما في أيدي الناس عزّ المؤمن في دينه" كما جاء في رواية عن الإمام الباقر (ع)[18] فذو القرنين صاحب رسالة ودين ويريد لهذا الدين أن يكون عزيزاً وقوياً بعزة المؤمن وعفته، ولهذا عبر عن الذي في يده بأنّه خير وقد جاءت كلمة الخير نكرة للإشارة إلى أنّ الخير الذي آتاه الله إيّاه عامٌ وشاملٌ غيرٌ منحصرٍ بجهة أو شيء من الأشياء.
وهذه المشكلة كثيراً ما تعترض القادة في الطريق إلى الهدف فتشغلهم عنه، ولكن هذا القائد الرسالي لم يُدِرْ بالاً لهذا الأمر بفضل الله وعطائه بل تجاوزه إلى الاستجابة لهم في الطلب الذي يَصُبُّ في مصلحتهم ومصلحة الدين ألا وهو بناء السد. فقد استجاب لهم بأكثر وأكبر مما كانوا يتوقعون قال: "فاعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما". وهذه الاستجابة طبيعية لأنّ القائد المخلص لرسالته يتفاعل مع الناس ويعيش همومهم ويعطيهم أكثر حينما يجد الأجواء أكثر ملائمة للعمل والعطاء. ثمّ انّ ديدن الأولياء الصالحين هو عمل المعروف إلى أهله وهؤلاء هم من أهله، لأنّهم مستضعفون يخشون سطوة الناهبين والغاصبين والمفسدين من أقوام يأجوج ومأجوج، فهل هناك أحوج منهم آنذاك إلى اسداء هذا المعروف وهو بناء سد متين حريز يمنع عنهم صولات وغارات يأجوج ومأجوج الذين اشبعوهم قتلاً وسبياً ونهباً وتدميرا، وهل هناك أحب من عمل المعروف ومن ذات المعروف عند رجل صالح أحب الله فأحبه الله نصح لله فنصحه الله يدعو إلى التقوى والعدل والإحسان يقول الباقر (ع): "انّ من أحب عباد الله إلى الله، لمن حُبّبَ إليه المعروف وحُبِّب إليه فعاله"[19].
ثمّ لا يفوتنا أنّ هذا العبد الصالح قد آتاه الله ما آتاه، فماذا يعمل بما آتاه الله؟ أليس هذا مورداً صالحاً. لئن يقدم فيه ما ينشر فيه شريعة الله ويثبِّت به دينه.
قال الإمام الصادق (ع): "انّ من بقاء المسلمين وبقاء الإسلام أن تصيرَ الأموال عند من يعرف فيها الحقّ ويصنع المعروف وانّ من فناء الإسلام وفناء المسلمين أن تصير الأموال في أيدي من لا يعرف فيها الحقّ ولا يصنع فيها المعروف[20].
هذا فضلاً عن رغبة هذا العبد الصالح في ثواب الله حينما يجعل بينهم وبين أعداء البشرية والإنسان ردماً يصدُّهم عن الوصول إليهم وحينما يساهم في مشروع أمني يحفظ استقرار المنطقة من حالات العدوان وتجاوز الحقوق وامتهان الكرامات وهدر الدماء ومن حالات القلق وأعمال الإرهاب.
وهو بهذا المشروع الضخم لا يريد أيضاً أن يبيع جهده ووقته وطاقات من معه من أجل مدحٍ أو ثناءٍ أو سمعة أو جاهٍ لأنّه ليس هناك شيء أشرف وأسمى من تمكين الله وايتائه الذي بيّناه، وانما يريد التقرب إلى الله تعالى فلا المدحُ والإطراء عنده ألذَّ من الخرج ولا الخرج عند ألذَّ من المدح بل اللذيذ عنده فقط هو العمل لمرضاة الله ولوجه الله تعالى.
ولكن مَن يعمل لمرضات الله فإنّ الله كفيل أن يظهر له عمله، وأيُّ إظهارٍ أعظم من هذا الذي يُتلى ليل نهار "... آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا فيه حتى إذا جعله ناراً قال آتوني أفرغ عليه قطراً فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعا له نقبا" وكأنَّ هذا العبد الصالح يعمل الآن، وكأنّه يأمر ويتحرك وينفذ ويخطط... إلخ.
وهكذا يبقى العملُ الصالح والمعروف يعرِّف بأصحابه المخلصين في الحياة الدنيا ما دامت الدنيا وكذلك يعرِّف بهم في الآخرة. قال الإمام الصادق (ع): "قال أصحاب رسول الله (ص): يا رسول الله فداك آباؤنا وأُمّهاتنا! انّ أصحاب المعروف في الدنيا عرفوا بمعروفهم فبم يعرفون في الآخرة؟ فقال (ص): انّ الله إذا أدخلَ أهل الجنة، أمر ريحاً عبقة طيبة فلصقت بأهل المعروف، فلا يمرُّ أحدٌ منهم بملأٍ من أهل الجنة إلا وجدوا ريحه، فقالوا: هذا من أهل المعروف".
أين هذا المشروع الأمني من مشاريع هذا اليوم. فمعظم مشاريع الحكام انما تقام اليوم من أجل امتصاص خيرات الناس والتضييق عليهم وليس لدفع غائلة العدوان بل لتكون ذريعةً قابلة التحريك والتقليب من أجل العدوان عليهم متى شاءوا.
ما أحوجنا اليوم إلى سدّ يأجوج ومأجوج لحمي بلاد الإسلام وخيرات المسلمين من عداوات الصليبية وأحقادها ومن بربرية أمريكا وحلفائها وإجرام الصهاينة واعتداءاتهم وما أحوجنا إلى منقذ عظيم يحمينا من استهتار الاستكبار ومكر الاستعمار، انّه ليس إلا الإسلام وليس إلا وحدةٌ أبناء الإسلام فانهم إذا ما اتحدوا سيكونون كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضهم فلا يستطيعون أن يظهروه ولا يستطيعون له نقبا فمتى؟ انّ هذا السؤال تبقى الإجابة عليه ضروريةً في مثل هذه الظروف الخطيرة.
5- العلم يوجه القوة ويستثمرها:
هذا العبد الصالح تحرك بالقوة لأنّ الله مكّنه وآتاه من كلِّ شيء سبباً ولكن لا يخفى على اللبيب انّ هذه القوة كان العدل والرفق يرافقها كما بيّنا. وليست – هي – قوة البطش التي عرف بها التتر والنازيون أو وُسِمَتْ بها دول الغرب وعلى رأسها أمريكا وفرنسا وبريطانيا في هذا اليوم أعاذ الله الإنسانية من شرِّها.
والعلم هو أحدُ عناصر هذه القوة بل سيدها وسنامها إلى هذا اليوم، وهذا العبد الصالح ذو القرنين من ضمن الإمكانات التي مكنه الله بها هي العلم إضافةً إلى العقل المشرق بنور الحقّ وقوة الجسم وغيرهما مما مرّ ذكره. والغرض من ذكر هذه الملكة – أي العلم – في بحثنا هذا هو للإشارة إلى أنّ جميع الأعمال والانجازات والأحكام والتصرفات التي صدرت في هذه المسيرة الثلاثية الاتجاه والمكللة بالنجاح الباهر والنصر المظفر في كل الاتجاهات كانت تنبىء عن وجود رجل على نصيب رائع من هذه الملكة العظيمة، لأنّ هذه المسيرة الجهادية الظافرة اتسمت كما قلنا بالقوة ومعلوم انّ القوة ما لم تكن هناك نفس عارفة بالله وواعية لأحكامه وعالمة بتشريعاته تحركها بالشكل الذي اعطت معه هذه النتائج الباهرة لا تستطيع بمفردها أن تصل إلى نتيجة كهذه، حيث انّ القوى التي تفتح هذا اليوم مثل تلك الفتوح تقدم أبناء تلك البلدان حطباً لمصالحها ودروعاً تحتمي بها وتقدمها لتقلل عن نفسها الخسائر المادية والبشرية ولم ترقب فيهم إلّا ولا ذمة، والسبب واضح هو أنّ وراء هذه القوة نفوساً فارغة من الرحمة وخالية من الإنسانية وكافرة بكل مبادئ السماء التي هي مبادئ الأمن والسلام والأخوة والتعاون.
والعلم كما ورد في الأخبار يهتف بالعمل، والمسيرة بكل اتجاهاتها كما هو واضح عملية وليس فيها مساحة للقول المجرد عن العمل أو الشعار الذي لا يتصل بالواقع فالمسيرة بوصفها استوعبت أرجاء المعمورة شرقاً وغرباً وما بينهما ومن دون أن يكون فيها تكلؤ أو تباطؤ في اعطاء النتائج الكبيرة والمثمرة تَدُلُّ دلالة واضحة على ارتكازها على الكفاءة العلمية. ولا أدري كيف عرف أولئك القوم الذين لا يفقهون قولاً كما يُعبِّر عنهم القرآن كفاءة هذا القائد وعلمه بالأمور العمرانية والتحصينات الوقائية، لا أظنُ انهم عرفوه من أقواله وخطبه بل من خلال ما شاهدوه فيه من براعةٍ في إدارة جيشه ومما لديه من خبرة تصرف فريدة فيما مكّنه الله به وآتاه في طريق الوصول إلى أهدافه ومقاصده، هذا إضافة إلى امارات الصلاح التي تشع كالنور على محيّا هذا العبد الصالح. وفعلاً كان كما وقع في ظنهم وأكثر. فاستطاع بفعل ما متعه الله من قدرة علمية دنيوية وأخروية أن يربط تلك العناصر الفلزية بأمتن رباط ويكوّن منها رد ما سجلته الآيات القرآنية مشروعاً ضخماً وانجازاً جباراً قاهراً. كما انّه استطاع أن يربط هذا الحدث وغيره بالموجد والفاعل والمنعم وهو الله عزّ وجلّ قال: (هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي)، وقال: (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ)، وقال: (ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا)، وقال: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا)، وفي هذا القول الأخير نوعُ تنبؤٍ بمستقبل هذا الردم ونوع معرفة خاصة بمستقبل الحياة.
انّ رجلاً يعرف هذه الأشياء ثمّ يعرفُ انها من فعل الله ومرتبطة بقدرته وإرادته وحكمته لهو عارفٌ بالله وحقيق بأن يدعوَ إلى الله، فهذه المعرفة هي التي تريه الأسباب الصالحة وتسدد خطواته في طريق الهدف وتحقق له بالتالي النجاح والظفر، انّ مثل هذا العلم هو الذي يصلح فقط لتوجيه القوة واستثمارها استثماراً صحيحاً ونافعاً للبشرية، انّ هذا العلم هو الكمال والرقي والحضارة والتقدم أما غيره فالوجدان يشهد على ما أقول هو التخلف الحضاري والبهيمية والضياع والمآسي والعدوان وما إلى ذلك.
اننا بحاجة إلى علم يجعل حالات البطش والابتزاز وحالات امتهان الشعوب واللعب بمقدراتهم دكّاء (ذليلة).
اننا بقدر ما تقدمنا في علوم الدنيا وصرنا نتحدّى الجبال والهضاب والبحار والأرض والفضاء، بحث لم يحل أمامنا سدٌّ ولا حاجزٌ ولا حقول الغامٍ ولا بقع زيت كبيرة بحاجة إلى علوم نصير بها قادرين على تحدي نوازع الشر والعدوان وحالات الهيمنة والاستكبار ومشاريع الاحتيال والاستعمار بحيث تكون هذه العلم نصيراً للشعوب المظلومة المضطهدة.
اننا بحاجة إلى أن نُعطي للآخرين لا أن نحتال عليهم ونفكر كيف نسرقهم ونتسلط عليهم.
انّنا بحاجة إلى أن ندرس بدقة مشاريع القرآن الكريم ومفاهيم السماء لأنها وضعت من أجل الإنسان ومن أجل الحياة الحرة الكريمة لا أن نعنى بمخططات الشياطين ونتسابق في المساهمة فيها والتهالك على موائدها وغنائمها وهباتها وأسهمها، وأخيراً إننا بحاجة إلى علم يستثمر مظاهر القوة لصالح الإنسان لا لتدمير الإنسان والفتك به اننا بحاجة إلى علم بقدر ما يُعطي للحياة الدنيا يجب أن يأخذ بيد هذا الإنسان نحو الله ونحو الحياة الأخرى ألا ترى انّ ذا القرنين حينما أكمل بناء السد قال "هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعدُ ربي جعله دكّاء وكان وعدُ ربي حقّاً". فالقوة العظيمة التي أعطت لبني الإنسان هذا الانجاز العظيم رحمة منها بهم هي نفسها فقط القديرة على جعله دكّاء متى شاءت وبطريقة علمية أيضاً. وهذا هو الحق في المسألة فالعلم والقدرة يبنيان ويهدمان ونحن في الحياة الدنيا نريد من بني الإنسان العلم والقدرة البناءة لا الهدامة التي تحيل جهود الإنسان هباءً منثوراً.
ولكن يجب أن نعلم انّ الله ليس له عداوةٌ مع السّدود حتى يجعلها دّكاء، لكن مثلما كانت ردما لا يستطاع أن يُظهر ولا يستطاع أن ينقب فهي كذلك عندما كان الناس يطلبون المنعة والنجاة بصدق ويتمسكون بمن يوفّر لهم ذلك حقّاً ويساهمون فيه، ولكن عندما يُلقى الحبل على الغارب ويتخلّى الناس عن كرامتهم وحياتهم وأموالهم ويعلّقون حفظها على الأمانيّ أو يفهموني تحمُّل الأضرار بها صبراً وبلاءً لابدّ منه ويسيرون في معالجة الأحداث على خلاف السَيْر في سنة الله في ربط الأسباب بالمسببات عندئذ ترتفع الرحمة ويأتي عليها بأجوج ومأجوج من كل حدب ينسلون يمزقونها ويعملون فيها معلولهم فيظهرونها بعد أن كانت لم تظهر وينقبونها بعد أن كانت لم تنقب، وعندئذ تأتي عليها سنة الله في الموجودات فتكون دكّاء. لأنّ الناس الذين من دونها قد تخلوا عنها وتدكدك حالهم ولم يرموا العز والأمان والاستقرار الذي كانوا يرومونه وكان وعد ربي حقّاً إنها السنة الكونية الثابتة التي لا تتخلف ولا تتأخر ولا تتأثر بالرُّقى والرؤى ولا يمنعها من الجريان سواء احرقت لها البخورَ أو نقرت لها القدور. ويبقى شيء أخير ينبغي أن ننتبه له هو أنّ هذا السد جاء كمثال لحفظ أولئك القوم في ذلك المكان وفي ذلك الزمان لأنّ يأجوج ومأجوج ما كان لهم طريق لاستغلال هؤلاء ونهبهم إلا من خلال تلك الفتحة الموجودة بين ذينك الجبلين أما حينما تعيش البشرية على سواحل البحار والمحيطات فلها أسلوب آخر في تحصينها من الأخطار التي تتهددها، وكذلك لو كانت تعيش في الأرض المستوية في البرّ فلها أسلوب آخر وهذه الأساليب تمنع أهلها ما دام أهلها يواكبون سنة الله في استثمار الأسباب للوصول إلى المسببات، وإلا فالجمود على حالة معينة معناه أن ترمي نفسك من باب قطار السنة الكونية المتحرك فهو لن ينتظرك ولن يمسك بأطراف ثيابك.
إذن علينا أن نكون في حالة من الحركة واليقظة المستمرة في متابعة التطور وفي تقصّي الأسباب الجديدة للحصول على نتائج جديدة فالخيار بأيدينا والأسباب كثيرة والاسرار أكثر وما علينا الا أن نتبع سبباً لكن بشرط أن لا يُحيط به الأعداء خُبرا.
الهوامش:
[1]- يقرر العلامة النراقي (ره): "إنّ الكمال الحقيقي للإنسان هو العلم الحقيقي وفضائل الأخلاق والحرية والقدرة وأما اعتقاد الإنسان بأنّ الكمال الحقيقي في المال والجاه فذلك وهم وجهل لأنهما ينقطعان بالموت" انظر جامع السعادات، 369:2.
[2]- الميزان 347:13.
[3]- المرجع السابق.
[4]- جامع السعادات 219:2.
[5]- جامع السعادات 218:2.
[6]- المرجع السابق 417:2.
[7]- المرجع السابق 220:2.
[8]- الأخلاق للسيد عبدالله شبر: 278.
[9]- يقول صاحب المحجة البيضاء (ره) في ج7: 382، مراتب التوحيد أربعة: الأولى قول لا إله إلا الله مع غفلة القلب عنها وهو توحيد المنافقين والثانية يصدق بمعنى اللفظ قلبه وهو اعتقاد وهو توحيد عموم المسلمين والثالثة وهي مقام المقربين أن يرى أشياء كثيرة ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار والرابعة: أن لا يرى إلا واحداً وهي مشاهدة الصديقين ويسميه أهل المعرفة الفناء في التوحيد.
[10]- الكافي، 183.
[11]- إنّ ورود كلمة الربّ خمس مرات دون غيرها من ألفاظ الجلالة لعله – والله العالم – للإشارة إلى أنّ تلك المجتمعات كانت مجتمعات مشركة تعبد أرباباً أخرى غير الله. وتأكيد ذي القرنين على كلمة "ربي" لتعلم تلك المجتمعات بأنّ الذي يعذب يوم القيامة والذي هو مصدر الرحمة والذي وعده الحقّ والذي يمكن عباده هو ربه وليس أربابهم التي لا تنفع ولا تدفع الضر ولا تعقل وليس لها شأن".
[12]- الميزان 363:13.
[13]- جامع السعادات 115:1
[14]- ن. م. 122:1.
[15]- البحار 271:73.
[16]- جامع السعادات 105:1.
[17]- ن. م.
[18]- ن. م. 111:1.
[19]- ن. م.
[20]- ن. م 169:2.
المصدر: مجلة رسالة القرآن/ العدد 5 لسنة 1412هـ
ارسال التعليق