خالد عزب*
نشأ عن تعاليم الرسول (ص) وما قرره القرآن الكريم من مبادئ، ما نستطيع أن نطلق عليه فقه عمارة المساجد في الإسلام، وهو باب مهم في العمارة الإسلامية، يرتكز على تهيئة الفراغ المعماري الذي يساعد المسلم على الخشوع والرهبة، وهو واقف بين يدي الله سبحانه وتعالى. لقد يسّر الله على الإنسان من سبل الحياة، فالصلاة تجوز في أي مكان طاهر، وبناء المساجد أمر من الله سبحانه وتعالى، لجمع المسلمين في مكان واحد وعلى قلب رجل واحد ليذكر فيها اسمه، مكان يحميهم من التقلبات الجوية، فالجانب الوظيفي في تصميم المسجد لا يتعدى إيجاد الفراغ المناسب لعدد من المسلمين يقيمون فيه الصلاة، إذن المسجد هو الذي يعبر عن الوظيفة الاسمية للعبادة، وهي صلاة الجماعة في الصلوات الخمس، بالإضافة لصلاة الجمعة في المساجد الجامعة، وهو البيت الذي يضم بين جنباته المجتمع الإسلامي، لذا فجدران المسجد الأربعة تحدد الحرم الداخلي له، الذي يشترط فيه الطهارة.
معنى كلمة المسجد:
قال سيبويه: "وأما المسجد فإنّهم جعلوه اسماً للبيت ولم يأت على فعل، قال ابن الأعرابي: مسجد بفتح الجيم محراب للبيت، ومسجد بكسر الجيم مصلى الجماعات والمساجد جمعها".
وقال الزركشي: ... ولما كان السجود أشرف أفعال الصلاة لقرب العبد من ربه اشتق اسم المكان منه فقيل: مسجد، ولم يقولوا مركع ولفظه فتح أوله وتسكين ثانيه، وكسر ثالثه.
عناصر المسجد المعمارية:
حائط القبلة: القبلة، هي الجهة التي شرع الله سبحانه وتعالى للمسلمين التوجه إليها، وهي بتحديد نص القرآن الكريم، المسجد الحرام، مصداقاً للآية 144 من سورة البقرة: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).
لذلك جعل الفقهاء الاتجاه إلى القبلة شرطاً لصحة الصلاة، ولأحكام القبلة آثار مباشرة في العمران الإسلامي، فكونها حقاً من حقوق الله تعالى تقتضي توجيه المساجد وفقها وإعطاء ذلك التوجيه الأولوية على كل الاعتبارات العمرانية الأخرى، مثل المناخ وهندسة النسيج الحضري القائم وغيرها، وتختلف تلك الآثار المادية بحسب الموقع الجغرافي لكلّ بلد من القبلة، كما لأحكام القبلة أثرها كذلك في المعالجة الداخلية لحوائط القبلة.
خصص في حائط القبلة مكان للإمام يؤم منه المصلين ويستغل مساحة المسجد بصورة مثالية، هذا المكان هو المحراب، الذي صار معلماً لحائط القبلة في المسجد، من هنا نستطيع أن نتبيّن ما يلي:
كان حائط القبلة الأساس الذي يتم بناء عليه تخطيط المسجد، ولو أدى ذلك إلى مشكلات معمارية ناتجة عن محاولة التوفيق بين انتظام حائط القبلة واتجاه الطريق الموازية له، وقد ابتكر المعماريون في العصر المملوكي حلولا عبقرية لهذه المشكلة.
ترتب على ما سبق أن أصبح تحديد اتجاه القبلة إحدى المسائل المهمة التي شغلت المسلمين، فنراهم في أول الأمر يستعينون بكبار الصحابة لتحديد هذا الاتجاه كما حدث في جامع عمرو بن العاص حين استعان بمجموعة من الصحابة قيل إنّ عددهم كان ثمانين رجلاً، أو على أقل تقدير ثمانية.
وقد كان المتبع لتحديد اتجاه القبلة هو استخدام إحدى ثلاث وسائل، هي:
أولاً: استخدام البوصلة أو ما يعرف باسم "بيت الإبرة".
ثانياً: تقليد محراب بمصر من الأمصار العامرة التي تكررت فيها الصلوات، ويعلم أنّ إمام المسلمين نصبه واجتمع أهل البلد عليه وفهم من العلماء من لا يظن اجتماعهم على الخطأ.
ثالثاً: استخدام الآلة الفلكية وبعد ذلك تقابل البروج والأفلاك على أجزاء معينة من الجسم الإنساني يتم تحديدها بالنسبة لكلّ قطر من الأقطار.
وقد وضعت جداول تتم عن طريقها معرفة اتجاه القبلة، كما وضعت جداول أخرى لتحديد انحرافها، ورغبة في تسهيل هذه العملية لجأوا أحياناً إلى نظم هذه الطرق بالشعر.
المحراب:
تكلم علماء اللغة عن كلمة "محراب"، واتفقوا على أنها عربية وأدرجوها تحت مادة حرب.
وباستقراء كلام العرب نجد أنّ كلمة المحراب تعني الغرفة العالية، ومنه قول وضاح اليمن:
ربة محراب إذا جئتها**** لم ألقها أو أرتق سلما
وتأتي بمعنى المجلس، ومنه قول الشاعر:
في الغيل في جانب العريس محرابا، أي المجلس.
وتأتي بمعنى المكان المفضل في البيت، قال عمر بن أبي ربيعة:
أو دمية عند راهب ذي اجتهاد**** صورها في جانب المحراب
وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في أربعة مواضع، بأربعة معاني:
- صدر البناء.
- الغرفة في مقدم المعبد بالنسبة لأهل الكتاب.
- القصر الملكي.
- المكان الذي يخصص للملك دون سائر الناس.
قال تعالى: (.. كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا...) (آل عمران/ 37)، (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ...) (آل عمران/ 39)، وقال تعالى: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ...) (مريم/ 11)، وقال تعالى: (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ...) (سبأ/ 13). والآيات الثلاث الأولى تُكتب دائماً إما في جوف المحراب وإما في أعلاه.
كلمة المحاريب في هذه الاستعمالات تعني واحداً من المعاني الآتية:
القصور- المعابد- المساكن.
والمحراب في الاصطلاح عند علماء المسلمين هو المكان المجوف داخل حائط المسجد الذي يقف فيه الإمام للصلاة، وهو دائماً في اتجاه القبلة.
ولما كان الإمام لابد أن يتقدم صفوف المسلمين في الصلاة ليؤم المصلين وأن يستقبل القبلة، فقد كان طبيعياً أن يدل موضعه في المسجد على اتجاه القبلة، ومن هنا ترادف لفظ القبلة مع لفظ المحراب.
المحراب معمارياً عبارة عن حنية في حائط حرم الصلاة تشير إلى جهة القبلة "المسجد الحرام بمكة المكرمة"، ويقف الإمام في جوفه ليؤم المصلين، والمحراب عند العامة في العصر المملوكي بمصر وبلاد الشام مقام الإمام.
تجويف المحراب على شكل نصف أسطوانة تغطيها نصف قبة تسمى "خوذة"، ويكتنف المحراب عادة عمودان، والجزء الذي يعلو تاج العمود مباشرة يسمى "صدر"، ويسمى الحائطان على جانبي المحراب "أكتاف المحراب"، أما قواعد وتيجان العواميد فتسمى "قواعد"، وفي أوصاف المحراب بالوثائق: "محراب معقود بالحجر يكتنفه عموداً رخام" و"محراب بعمودي رخام وهو مرخم الصدر والخوذة" و"محراب يشتمل على بايكتين" أي عقدين من داخل بعض و"محراب بكلّ من جانبيه عمود رخام مثمن بقاعدتين عليا وسفلى، وهما حاملتان لكتف المحراب".
بروز المحراب عن حائط القبلة يوفر صفاً من صفوف الصلاة بالمسجد، فضلاً عن أن توسط المحراب حائط القبلة لكون الإمام قائد الصلاة، فيسهل من وسطية موقع المحراب الاستدلال على مكان الإمام، فضلاً عن منطقية موقعه لإمامة المسلمين.
أشارت العديد من الدراسات الأثرية الحديثة إلى أنّ بناء المحراب في هيئة مجوفة بالمسجد النبوي بالمدينة المنورة، كان مع بداية إنشائه في عهد الرسول (ص)، وقد اعتمدت هذه الدراسات على روايتي كل من السمهودي، وابن فضل الله العمري، والتي ورد في كلّ منهما أنّ صحابة رسول (ص) عند بناء محراب المسجد "صفوا النخل قبلة له، وجعلوا عضاديته من حجارة"، وهو يعني معمارياً أنه كان لمحراب المسجد النبوي في عهد رسول (ص) عضادتان، أي كتفين من الحجر، ولما كان المحراب مسدوداً من الجهة الخارجية فذلك يعني أنّه كان في هيئة دخلة أو حنية، أي أنه كان مجوفاً.
يبدو أنّ هذا الشكل المعماري للمحراب قد استقر تلك الهيئة نفسها في تجديدات المسجد النبوي في عهد كلّ من الخليفتين عمر وعثمان، حيث تشير رواية السمهودي إلى أنّ عمر بن عبدالعزيز عند إعادة بناء محراب المسجد النبوي خاطب الصحابة والتابعين من أهل المدينة، بقوله: "تعالوا احضروا بنيان قبلتكم، لا تقولوا غيَّر عمر قبلتنا، فجعل لا ينزع حجراً إلا وضع مكانه حجرا"، وفي ذلك ما يشير إلى أنّ محراب المسجد النبوي في عمارة الأمويين قد اتخذ الشكل المجوف الذي كان عليه المحراب في عهد الخليفة عثمان، ونظرا لارتفاع عمارة المسجد النبوي في العهد الأموي، فقد تطلب الأمر بناء طاق (عقد علوي) للمحراب، يعتبر هذا الطاق الذي بُني في هيئة معقودة هو الجزء الأموي الذي أضيف إلى عمارة محراب المسجد النبوي.
اختلط الأمر على بعض الفقهاء والمؤرخين الذين اعتقد بعضهم – على سبيل الخطأ – أنّ المحراب المجوف اقتبس من مبان دينية سابقة على الإسلام، وأنّه لم يظهر إلى حيز الوجود في عمارة المساجد إلا في العصر الأموي. من هنا ظهرت الآراء الفقهية التي رأت كراهية اتخاذ المحاريب وأبرزها ما ذكره السيوطي في كتابه "إعلام الأريب بحدوث بدعة المحاريب".
شكّل حائط القبلة والمحراب أهم معالم عمارة المساجد، ظهرت هذه الأهمية في عدة مظاهر، يمكن إجمالها في ما يلي:
· محاولة إبراز المحراب وتمييزه بحيث يمكن رؤيته بوضوح من أيِّ مكان بالمنشأة، ولذلك نراه غالباً يتوسط جدار القبلة فيما عدا أحوال قليلة.
· الاهتمام بإنشائه حتى لو أدى الأمر إلى عمل بروز خارجي لاستيعاب حنيته في حالة قلة سمك الحائط.
· الاهتمام بزخرفته أكثر من غيره من العناصر، برغم ما قيل عن كراهية زخرفته، بحجة أنها تشغل المصلي بالنظر إليها، حتى أصبح من الصعب القبول بأن يترك المحراب دون زخرفة في الوقت الذي تزخرف فيه الجدران، وفي مجال الاهتمام الخاص بزخرفة المحراب ينبغي الإشارة إلى أنّ استخدام الرخام في كسوته، كان يعتبر أحياناً من الأعمال التي تتم رغبة في جزيل الثواب وكريم المآب.
لم يكتف لإبراز أهمية المحراب بأن تكون ظلة القبلة هي أكبر الظلات في المسجد، وإنما لزيادة إبراز هذه الأهمية كان يراعى عمل ما يسمى بالمجاز القاطع كما في الجامع الأزهر على سبيل المثال، وهو لا يقوم فقط بتحديد اتجاه المحراب وإكسابه الأهمية، بل يساعد أيضاً على إضاءة المنطقة التي تتقدمه، كذلك كانت تحدد أمام المحراب أحياناً منطقة مربعة تتم تغطيتها بقبة تبرز أهميته وتساعد على إضاءة المكان أمامه، وقد تكون هذه القبة على طرف المجاز كما في الجامع الأزهر أو مستقلة كما في مسجد الظاهر بيبرس وجامع المارداني في القاهرة.
إلى جانب الاهتمام بالإضاءة للمحراب كان يهتم بالإضاءة الصناعية سواء عن طريق المشكاوات أو عن طريق الشماعد في العصر المملوكي، توقف أحياناً على المحاريب بدليل وجود شمعدان من العصر المملوكي كُتِبَ عليه أنّه أوقف على محراب الجامع الطولوني (696هـ/ 1296م)، وكذلك ربّما كانت الكراسي المعدنية أو الخشبية المعروفة بكراسي العشاء تستخدم لحمل هذه الشماعد على جانبي المحراب.
بيت الصلاة: يسمى الظلة أو الرواق، والمسجد بصورة تقليدية يتكون من صحن وأربع ظلات حوله أو أروقة حوله، أعمقها وأكبرها ظلة القبلة أو رواق القبلة، ولد بيت الصلاة مع مسجد الرسول في المدينة المنورة في الصورة البسيطة التي سبق أن تحدثنا عنها، وتطور – مع الزمن – حتى أصبح الجزء الرئيسي من المسجد، ففيه حائط القبلة والمحراب والمنبر، وفوقه في كثير جداً من الأحيان تقوم القباب أو الأسقف المسطحة.
في العادة يقوم بيت الصلاة على عمد تحمل فوقها عقوداً أو أقواساً، وفوق هذه يقوم السقف، وقد أصبحت العمد وعقودها وكلّ ما يتصل بها باباً واسعاً من أبواب العمارة الإسلامية، أضاف فيه المعماري المسلم إضافات عظيمة، سواء في أشكال الأعمدة وطرق إقامتها، أو أنواع العقود التي تقوم عليها وأشكالها ووسائل ربط الأعمدة بعضها ببعض، وكيفية وصل العقود بالسقف أو إقامة قباب فوقها وما إلى ذلك.
لقد ظل اهتمام المعمار بظلة القبلة واضحاً في مخططات المساجد، لدرجة أنّه بدأ يزيد من مساحتها على حساب الظلات الجانبية والمقابلة لظلة القبلة، ومن أمثلتها جامع القرويين بفاس (245هـ/ 859م)، جامع الأندلسيين بفاس (245هـ/ 859م)، جامع المهدية بتونس (304هـ/ 916م)، جامع الكتبية بمراكش (596هـ/1158م).
هناك بعض المساجد التي خططها المعمار من قسمين فقط، قسم مغطى وهو يمثل ظلة القبلة، وقسم مكشوف وهو يمثل كتلة الصحن، واستغنى المعمار بذلك عن باقي ظلات المسجد، ومن أمثلة ذلك جامع القيروان (50هـ/ 670م)، جامع قرطبة (170هـ/ 786م)، جامع الزيتونة بتونس (250هـ/ 864م)، ومسجد علاء الدين في قونية القرن (7هـ/ 13م).
هناك نوع ثالث من المساجد اعتبر المعمار المخطط مساحتها الداخلية كلها ظلة القبلة، ومن أمثلة ذلك: المسجد الأقصى (87هـ/ 706م)، مسجد أبو فتاته بتونس (253هـ/ 838م).
ابتكر العثمانيون طرازاً رابعاً في تخطيط بيت الصلاة، تميز بسعة مساحته الداخلية مع قلة الأعمدة والدعائم والعقود التي كانت تعج بها، مثل تلك المساحات في المساجد الجامعة والمساجد الصغيرة في النماذج السابقة، من أجل حمل أسقفها.
وافق هذا التخطيط في بيوت الصلاة العثمانية المطلب العقائدي الذي يحث المصلين على وصل الصفوف من دون أن يقطع امتدادها قاطع، وبذلك يكون قد نجح العثمانيون في إيجاد حلول قاطعة في عملية قطع صفوف المصلين التي كانت تحدثها كثرة الأعمدة والدعائم في بيوت الصلاة في المساجد السابقة ويتبلور تخطيط بيوت الصلاة في المساجد العثمانية من مساحة مربعة تتميز رقعتها الداخلية بالسعة نتيجة قلة الركائز المستخدمة في حمل القبة المركزية التي تغطي معظم مساحة بيت الصلاة، ومن أمثلة ذلك جامع السليمانية في استانبول (957هـ/ 1550م)، وجامع السليمية (959هـ/ 1553م).
هنا يجب أن نؤكد أنّ الجانب الوظيفي في تصميم المسجد لا يتعدى إيجاد الفراغ المناسب لعدد من المسلمين يقيمون فيه الصلاة متجهين في صفوفهم المتواصلة قبل المسجد الحرام، بالإضافة لكونه يقيهم المطر والحر والبرد، إلا أنّ المضمون الإسلامي في النظرية المعمارية لعمارة المساجد يتطلب الآتي:
أن يأخذ المسجد شكلاً طويلاً متعامداً على اتجاه القبلة، لإطالة صفوف المصلين، حتى يحظى أكبر عدد منهم بالصفوف الأولى، لما في ذلك من جزاء عند الله، وقد ورد في "الصحاح" في هذا الشأن العديد من الأحاديث الصحيحة منها: عن أبي هريرة (رض) أنّ رسول الله (ص) قال: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأوّل ثمّ لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا" رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم "لو تعلمون ما في الصف المتقدم لكانت قرعة"، وعن أبي هريرة (رض) قال: قال رسول الله (ص): "خير صفوف الرجال أوّلها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أوّلها" رواه مسلم.
ولابدّ أن تكون هناك مسافة كافية للسجود بين الصف والآخر، مع استواء الصفوف ومحاذاة الأقدام، لذلك فمن المستحسن وضع علامات أو خطوط تساعد المصلين على ضبط ذلك، وحيث إنّ الإسلام أيضاً يحثّ على التصاق الكتف بالكتف وعدم ترك الفراغات بين المصلين وملء الصف الأوّل، لذلك فإنّه عند احتساب سعة المسجد فإنّها تحسب على أساس أنّ العرض الذي يحتاج إليه المسلم وهو واقف حوالي 50 سم، ثمّ المسافة التي يحتاج إليها أمامه للسجود وتقدر بحوالي 120 سم، فنجد ابن حوقل يتحدث عن سعة المسجد الجامع في باليرمو بصقلية، بقوله "وذلك أني حزرت المجتمع فيه إذا غص بأهله بلغ سبعة آلاف رجل ونيف لأنّه لا يقوم فيه أكثر من ستة وثلاثين صفاً للصلاة، وكلّ صف منها لا يزيد على مائتي رجل" هذا يدل على حصر عدد المصلين طبقاً لسعة المسجد وحاجة المدينة حين إنشائه، وبالتالي يمكننا باستخدام مثل هذه الملاحظات من استنتاج معلومات كثيرة تفيدنا في مجالات الدراسات المعمارية والعمرانية والاجتماعية.. إلخ.
المنبر:
أشارت المعاجم اللغوية إلى أن لفظة "المنبر" قد تكون مشتقة من الجذر الثلاثي "ن ب ر" الذي يعني مرقاة الخطيب، وسمي المنبر بهذا الاسم لارتفاعه وعلوه – الزمخشري (ت 538هـ/ 1142م)، يقول المنبر من الجذر نبر بمعنى الارتفاع، وانتبر الخطيب: ارتفع على المنبر "برفع الميم وفتحها وكسرها"، وانتبر الجرح بمعنى تورم وارتفع مكانه، ونبرت الشيء بمعنى رفعته. يذكر ياقوت الحموي (ت626هـ/ 1229م) أنّ لفظة المنبر جاءت من ارتفاع الصوت عند العرب، ومنه نبرت الصوت إذا همزته، بينما يذكر ابن منصور في لسان العرب: أنّ المنبر هو كلّ شيء ارتفع من شيء والمنبر مرقاة الخطيب، سمي منبراً لارتفاعه وعلوه، وانتبر الأمير ارتفع فوق المنبر ثمّ استشهد بقول ابن الأنباري حيث يقول: المنبر عند العرب ارتفاع الصوت، وأنشد:
إني لأسمع نبرة من قولها *** فأكاد أن يغشى علي سروراً
اختلفت المصادر والدراسات الأثرية حول بداية المنبر في العمارة الإسلامية المبكرة، فبعض المصادر أشارت إلى أنّ المنبر كان ضرورياً من ناحية صحية – للنبيّ (ص) – بينما مصادر أخرى تقول إنّ المنبر أدخل إلى المسجد لإزدياد عدد المسلمين الذين كانوا يتجمعون للصلاة الجامعة وليستمعوا للنبيّ، وتبيّن هذه المصادر أنّ الرسول (ص) كان إذا صعد المنبر سلم، فإذا جلس أذن المؤذن، وكان يخطب خطبتين ويجلس جلستين، وكان يتوكأ على عصا يخطب عليها يوم الجمعة، وكان إذا خطب استقبله الناس بوجوههم وأصغوا بأسماعهم ورمقوه بأبصارهم، وقال (ص):
"يا أيها الناس إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي".
قبل إدخال المنبر إلى المسجد كان النبيّ (ص) يسند ظهره إلى جذع نخلة، حيث كان يطلق عليه لفظ خشبة، نقلت بعض المصادر العربية رواية عن أبي هريرة تشير إلى أنّ النبيّ (ص): "كان يخطب وهو مستند إلى جذع النخلة، فقال: إنّ القيام قد شق عليّ، فقال تميم الدري: أأعمل لك منبراً كما رأيت يصنع بالشام؟ فشاور النبيّ (ص) المسلمين في ذلك، فرأوا أن يتخذه، فقال العباس بن عبدالمطلب: إنّ لي غلاماً يقال له كلاب أعمل الناس، فقال: "مره أن يعمل"، وفي رواية أخرى كانت امرأة من الأنصار اسمها عائشة وكان لها غلام نجار يقال له باقوم الرومي، قالت يا رسول الله إن لي غلاماً نجاراً أفلا آمره يتخذ لك منبراً تخطب عليه؟ قال: بلى فأمرته فاتخذ له منبرا.
أما في ما ينقل بعدد درجات المنبر النبوي، فأشارت بعض المصادر إلى أنّ عدد درجات منبر النبيّ كانت ثلاثاً: درجتين (مرقاتين) ومجلساً "مقعداً"، وروى يحيى عن أبي الزناد أنّ النبي (ص) كان يجلس على المجلس ويضع رجليه على الدرجة الثانية، فلما ولي أبو بكر قام على الدرجة الثانية، ووضع رجليه على الدرجة السفلى، فلما ولي عمر قام على الدرجة السفلى، ووضع رجليه على الأرض، وذلك ست سنين من خلافته، ثمّ علا إلى موضع النبيّ (ص).
حدد الفقهاء مكان المنبر بالمسجد وحجمه، فقالوا يستحب جعل المنبر على يسار القبلة تلقاء يمين المصلي إذا استقبل، وقال الصيمري والدرامي وغيرهما (مما وقع في شرح المهذب للنووي) من استحباب جعله على يمين المحراب سهواً إلا أن يريد يمين مستقبله، قال الصيمري: "وينبغي أن يكون بين المنبر والقبلة قدر ذراع أو ذراعين".
الصحن (رحبة المسجد):
الصحن في اللغة هو ساحة الدار ووسطه ومستواه، وسعته، يقال: سرنا في صحن الفلاة، وهو ساحته، وسمي رحبة "لسعتها بما رحبت" وهي المساحة المكشوفة من المسجد وتتصل بحرمه وأروقته وجدرانه الخارجية، وتسمى "رحبة" وتسمى "صحنا"، وقد اتخذت في مساجد الأمصار التي دانت بالإسلام اقتداء بعمارة مسجد النبيّ (ص)، حيث كانت فيه مساحة مكشوفة بين ظلتين: إحداهما في الجهة الجنوبية والأخرى في الجهة الشمالية، وفي كثير من المساجد يضم الصحن مصادر للمياه يتوضأ منها الناس، وتزرع فيه الأشجار أحياناً ويستفاد منه في استيعاب المصلين إذا زادوا عن طاقة المسجد، وفي المساجد الكبيرة كالمسجد الأموي في دمشق شيدت قبة لحفظ أوراق الوقف وأموال الدولة والمخطوطات وغيرها، شيد قبة المسجد الأموي الفضل بن صالح بن علي العباسي لما كان أمير دمشق سنة 172هـ/ 788م.
الفقهاء وأحكام الرحبة:
اختلف الفقهاء في حكم الصحن أو الرحبة على ثلاثة أقوال: هل تأخذ حكم المسجد أم لا؟
القول الأوّل: إنّ الرحبة إن كانت متصلة بالمسجد محوطة فهي من المسجد وتأخذ حكمه، فقد قال الشيخ عزّالدين بن عبدالسلام: من صلى في الصحن بصلاة الإمام تصح صلاته لأنّه رحبة الجامع.
القول الثاني: إنّ الرحبة ليست من المسجد مطلقا متصلة به أم منفصلة عنه.
القول الثالث: إنّ رحبة المسجد منه مطلقا متصلة كانت أم منفصلة عنه.
أغلب الفقهاء اعتبروا صحن المسجد جزءاً منه وتسري عليه الأحكام نفسها التي تسري على سائر أجزائه التي يتألف منها بناؤه، فلو أنّ رجلاً نوى سنة الاعتكاف واعتكف فعلاً في صحن المسجد صح منه ذلك وأجزأه.
خلط البعض بين صحن الجامع وحرم الجامع، ولكن الفقهاء فرقوا بينهما، فصحن المسجد ما يوجد بداخل جدرانه من فناء غير مسقوف، وأما حرم المسجد فالمنطقة المحيطة به من مبان ملاصقة لجدرانه أو رحبات خارجها، وقد اشترطوا فيها النظافة وحرموا الاتجار فيها، لأنّ ذلك يشوب نظافة المسجد وجلاله، وذلك لأنّ الصلاة قد تمتد إليها في أيام الجمع والأعياد إذا ازدحم الجامع.
لقد حرص الشرع الحنيف على نظافة صحون المساجد، لأنّها قد تستخدم للصلاة بها عندما يكثر عدد المصلين وتضيق بهم أروقة المسجد، وحدث في بعض الفترات أن غرست صحون بعض المساجد بالأشجار، حتى أنّ بعضها اشتهر بأسماء الأشجار المزروعة في صحنها كمسجد الياسمين في طبرية بفلسطين، وقد غرست جميع صحون المساجد الجامعة بالأندلس بأشجار البرتقال على النحو الذي حدث بجامع قرطبة، بغرس صحن الجامع بالأشجار، متبعاً في ذلك مذهب الإمام الأوزاعي الذي أجاز ذلك.
وهناك من الفقهاء من قال بتحريم غرس أشجار المسجد إذا كانت تؤثر في الوظيفة الأساسية للمسجد وهي الصلاة، ومنهم من رأى كراهية ذلك، كأبي موسى وأبي الفرج وابن شريف الشافعي، وهناك من الفقهاء من أجاز ذلك طالما لا تؤثر في وظيفة المسجد وتحقق أغراضاً نفعية له وللمسلمين.
في هذا الصدد نجد أنّ الصحن قد مر بمراحل وظيفية متعددة، فقد كان يستعمل أثناء إقامة الصلوات الجامعة، ولا يعتبر ما عدا ذلك جزءاً من المصلى نفسه الذي كانوا يعدونه عبارة عن ممرات للوصول إلى الأروقة، وربما جلسوا فيه للتسامر أو البيع والشراء، ولا يراعون نظافته، لذا أخذ الفقهاء يحددون استعمالاته ويحرمون القيام بأي عمل فيه لا يتصل بالصلاة، ثمّ اعتبر من الأجزاء الأساسية، وقد يكون الصحن مبلطاً أو فيه فسقية أو حوض ماء، أو تزرع فيه أشجار، إلا أنّ أهميته تكمن في كونه مصدراً أساسياً للتهوية وإضاءة الأروقة التي تحيط به.
سن العثمانيون سنة حميدة حبذا لو اتبعت في مساجد الإسلام جميعها، وهي إحاطة المسجد بحديقة يدور عليها سور، فهذا من شأنه أن يصون المسجد وحرمه، ومن شأنه أيضاً أن يضفي عليه جمالاً، وجدير بالذكر أنّ لكلِّ مساجدنا القديمة مساحات كبيرة من الأرض حولها.
الميضأة:
اسم مكان مخصص للوضوء، وأصل الكلمة من فعل وضوء وضاءة وهو الحسن والبهجة. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (المائدة/ 6). وفي الحديث عن قتادة قال: قال رسول الله (ص): "لا يقبل الله صلاة بغير طهور..." وعن أبي هريرة (رض) قال: "قال رسول الله (ص): "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه"، والأحاديث في ذلك كثيرة.
من أجل ذلك كلّه كان ضرورياً أن تُبنى محلات الوضوء استعداداً للصلاة، خاصة أنّه قد يكون المسجد على الطريق العام، ويطرقه المارة وأبناء السبيل، أو يخاف الرجل فوات الجماعة، إذا قصد بيته لغرض الوضوء وما بنيت المساجد إلا لأداء الصلاة جماعة، ومن باب خدمة بيوت الله ونظافتها وتوفير الراحة للمصلين فيها، خاصة أنّه درج عليه الكثير من المسلمين في بلاد العالم من حفر بئر في المسجد، أو بناء أحواض خاصة للوضوء فقط في صحن المسجد، كما في مسجد القرويين في فاس وفي العدد من مساجد المغرب، فلا مانع إذن أن تبنى أماكن خاصة بالوضوء على أحدث طراز وأتقن وجه. ولما جوز العلماء الوضوء في المسجد إذا لم يؤذ بمائه فلئن تبنى محلات خاصة تعد مواضئ للمسجد من باب أولى.
بناء محلات للوضوء تابعة للمسجد تخضع لقاعدة الضرورة في حالة تعذر الوضوء في حالة تعذر الوضوء من مكان آخر، وتحكم ذلك قاعدة فقهية هي "المشقة تجلب التيسير"، وقد تكلم الحنفية عن محلات الوضوء، فعنون ابن عابدين بقوله "مطلب في مسألة الوضوء من الفساقي"، وهي الحياض الصغيرة، وانتصر صاحب البحر للعلامة قاسم، وألف رسالة سماها "الخير الباقي في الوضوء من الفساقي".
تتكون الميضأة من مساحة مستطيلة يتوسطها فناء مكشوف بوسطه فسقية للوضوء تحيط بها عدة مراحيض أو بيوت خلاء، إضافة إلى حمام صغير أو مستحم للاغتسال وإزالة الجنابة، ولكون هذه الوحدات المعمارية قد تؤثر في طهارة المسجد ونظافته، لذلك ناقش الفقهاء موضعها بالنسبة له، واستقر رأيهم على جواز بنائها بالقرب من أبواب المساجد أو على أسطحها ما لم يسبب ماؤها ضرراً لأسقفها.
وفي إطار هذا الحكم والتزاماً بتطبيقه بنيت الميضأة في بعض المساجد الأثرية منفصلة عن بناء الجامع، كما في ميضأة جامع سودون من زاده وجامع برسباي بالخانكة ومدرسة قجماس الإسحاقي في القاهرة، وفي بعض الأحيان بنيت الميضأة بأسفل جزء من الجامع كما في ميضأة السلطان حسن وميضأة مدرسة المحمودية بالقاهرة، حيث شيدت في كل منهما ميضأة بأسفل الصحن، وبنيت الميضأة أحياناً متصلة بالجامع، لكنها في مستوى منخفض عن أرضيته ويتوصل إليها من داخل بسلم هابط أو من باب بالشارع، وقد شاع هذا النمط في المساجد المملوكية بمدينة القاهرة، وفي المسجد الصنعاني بنيت المطاهر من دور واحد وتكسى جدرانها الداخلية وقنوات جريان الماء وتصريفه بالقضاض لخاصيته في العزل، وقد تزين بعض جدرانها لاسيما في المدخل، ولكن ما يسترعي الانتباه في صنعاء هو الحرص على إعادة استخدام مياه الوضوء مرة أخرى في ري البساتين والمزارع الموقوفة على المسجد عبر قنوات ممتدة من المطاهر لهذه المزارع، وهو وعي حضاري بأهمية المياه.
الحرص على نظافة الميضأة وبيوت الخلاء بها حفاظاً على طهارة المكان نراه يتكرر في كتب الحسبة والوقفيات بصورة ملحوظة.
وقد اختلف آراء الفقهاء في ما يتعلق بكيفية ماء الوضوء، فمثلا رأى الحنفية أنّه لا يجوز أن يتوضأ جميع المتوضئين من حوض ماء واحد، لأنّ ذلك يؤثر في طهارة ماء الحوض، ولذلك فضلوا أن يمرّ الماء من الحوض عبر أنابيب إلى صنابير يتحكم كل متوضئ في فتحها وغلقها حسب حاجته، ومن أمثلتها ميضأة مسجد محمد علي بالقاهرة، بينما أجاز الشافعية وضوء المتوضئين جميعهم من حوض واحد، وقد انعكس هذا الأمر على تخطيط بعض ميضآت المساجد الأثرية فوجدنا أنّ منها ما اشتمل على فسقية لوضوء الحنفية وفق ما نص عليه مذهبهم، وكذلك فسقية أخرى لوضوء الشافعية بالصفة التي تتوافق مع مذهبهم.
المآذن:
المئذنة وحدة معمارية أصبحت مع القبة رمزاً دالاً على المسجد موضع عبادة المسلمين، والأذان: اسم مصدر من التأذين وهو لغة الإعلام. وشرعاً: الإعلام بوقت الصلاة بوجه مخصوص، ويحصل به الدعاء إلى الجماعة وإظهار شعائر الإسلام، وهو واجب أو مندوب. قال القرطبي: الأذان على قلة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة، لأنّه يبدأ بالأكبرية، وهي تتضمن وجود الله وكماله، ثمّ ثني بالتوحيد ونفي الشريك، ثمّ بإثبات الرسالة لمحمد (ص)، ثمّ دعاء إلى الطاعة عقب الشهادة بالرسالة، لأنّها لا تعرف إلا من جهة الرسول، ثمّ دعا إلى الفلاح، وهو البقاء الدائم وفيه الإشارة إلى الميعاد، ثمّ أعاد ما أعاد توكيداً. نشأ الأذان لإعلام الناس بوقت الصلاة، إلا أنّ المسلمين كانوا يجتمعون في المسجد النبوي لأداء فريضة الصلاة عندما تحين مواقيتها بغير دعوة لقلة عددهم من جهة، ولاستمرار وجودهم مع الرسول ومصاحبتهم له من جهة أخرى.
لما انتشر الإسلام بين أهل المدينة والقبائل الضاربة حولها وازداد عدد المسلمين دعت الحاجة إلى جمعهم لأداء فريضة الصلاة، ولذلك رأى الرسول أن يعرف المسلمون بحلول مواقيت الصلاة لكي يجتمعوا لأدائها، فاستشار أصحابه في ذلك فعرض بعضهم أن ينصب راية عند حضور الصلاة حتى إذا رآها الناس أذن بعضهم بعضاً، ولكنه لم يستحسن هذا الرأي، فعرض بعضهم أن يجعل الدف فقال هو للروم ولم يستحسنه، فعرض بعضهم الناقوس الذي يستخدمه النصارى في النداء إلى صلاتهم فلم يستحسنه، فعرض بعضهم أن يشعلوا ناراً فلم يستحسن ذلك أيضاً.
فبينما المسلمون على ذلك إذا بالصحابي عبدالله بن زيد الخزرجي الأنصاري يرى في المنام رجلاً عليه ثوبان خضراوان وفي يده ناقوس، فقال عبدالله أتبيع الناقوس؟ فقال ماذا تريد به؟ فقال عبدالله ندعو به إلى الصلاة، فقال أنا أدلك على خير من ذلك: تقول الله أكبر... الله أكبر... الله أكبر... الله أكبر... أشهد أنّ لا إله إلا الله... أشهد أنّ لا إله إلا الله... أشهد أنّ محمداً رسول الله... أشهد أنّ محمداً رسول الله... حيّ على الصلاة... حيّ على الصلاة... حي على الفلاح... حي على الفلاح... الله أكبر... الله أكبر، لا إله إلا الله، فأتى عبدالله رسول الله (ص) فأخبره، فقال الرسول (ص) إنها لرؤيا حقّ إن شاء الله، فقم مع بلال فألقها عليه فيؤذن بها، فإنّه أندى صوتاً منك.
تعددت تسمية المآذن، فالمئذنة لفظها من الفعل أذن، وقيل لها أسطوان، مطمار، زوراء، منارة، منار، صومعة، وقد حصر لنا عبدالحي الكتاني في التراتيب الإدارية، كلّ الأقوال التي وردت في شأن المئذنة كما يلي: "وفي النزهة الثمينة من أخبار المدينة لابن النحاس" أنّ امرأة من بني النجار قالت كان بيتي أطول من بيت حذاء المسجد، وكان بلال يؤذن عليه الفجر كلّ غداة فيأتي بسحر فيجلس على البيت ينتظر الفجر، فإذا رآه تمطى ثمّ قال اللّهم أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك، قالت ثم يؤذن، وذكر أهل السير أنّ بلالاً كان يؤذن على أسطوان في قبلة المسجد يرقى إليها بأقتاب فيها وكانت خارجة من المسجد وهي قائمة الآن في مسجد عبيدالله بن عمر بن الخطاب، وروى نافع عن ابن عمر قال كان بلال يؤذن على منارة في دار حفصة بنت عمر (التي تلي المسجد) قال فكان يرقى على أقتاب فيها وكانت خارجة من مسجد رسول الله (ص) لم تكن فيه وليست فيه اليوم...
لما كان الغرض من الأذان هو الإعلام بدخول وقت الصلاة والدعوة إلى الجماعة، فقد كان من الطبيعي أن يكون بصوت عالٍ مسموع حتى يؤدي الغرض الذي شرع من أجله، ومن الطبيعي أن تتبلور فكرة المئذنة معمارياً في تكوين معماري بسيط للغاية في عصر الرسول (ص)، فإنّه كلما كان الأذان معلناً من مكان مرتفع، صار مسموعاً لمسافة أبعد ولعدد أكبر.
فامرأة من بني النجار كان منزلها لارتفاعه هو البداية، لكن حدث تطور آخر، إذا أعيد تشييد المسجد النبوي في عصر الرسول، حيث رفع بناء فوق سقف المسجد ليؤذن من عليه بلال، ذكر هذا ابن سعد في طبقاته، ويمكن تخيل هذا الارتفاع على أنّه كتلة بنائية من اللبن في ركن المسجد، حيث يتيسر إقامتها، فإنّه لا يمكن إقامتها فوق سقف المسجد المكون من عوارض وسقف ونصفه على سواري من جذوع النخل، كما يمكن أن نتخيل الرقي إلى أعلى هذه الكتلة بواسطة أقتاب (أي درجات توضع فوق أحد جدران المسجد)، وإذا عرفنا أنّ سمك جدار مسجد الرسول (ص) بعد التوسعة في عهده كان بمقدار لبنتين مختلفتين وهو ما يعادل لبنة ونصف، أمكننا القول بأنّ سمكه كان يقارب 80 سم، وهو قدر يسمح باستغلاله لبناء تكوين بسيط مربع القاعدة يمكن الرقي عليه للأذان.
وارتفاع الكتلة المعمارية البسيطة فوق ركن المسجد وما يستلزمه ذلك من وجود أقتاب أمر طبيعي لتأدية الوظيفة الانتفاعية وخدمة الغرض العلمي ليصل الصوت إلى أكبر عدد ممكن من الناس معلناً الأذان.
تطورت المئذنة لتتحول لكيان معماري له سماته خلال عصر الرسول (ص)، قال ابن زبالة: حدثني محمد بن إسماعيل وغيره، قال: كان في دار عبدالله بن عمر أسطوان، في قبلة المسد يؤذن عليها بلال، يرقى إليها بأقتاب، والأسطوان مربعة قائمة إلى اليوم يقال لها المطمار.
يستنتج عبدالله كامل أنّ المطمار كان عبارة عن تكوين معماري مربع من قاعدته إلى أعلاه يرقى إليه المؤذن من خلال أقتاب تلتصق به من إحدى جهاته الأربع، كما يتضح أنّ المطمار كان خارجاً عن مسجد رسول الله (ص)، وقد اتفق على هذا الموضع ابن النجار والسمهودي.
لم يحدث تطور ما تذكره المصادر التاريخية عن عمارة المآذن في عصر كل من أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب لكن في خلافة عثمان بن عفان عنه يذكر يحيى بن الحسين عن عمارة المسجد النبوي فيها (أي سنة 29 هجرية) زاد عثمان في مسجد الرسول (ص) الزيادة العظيمة وجعل طوله مائة وستين ذراعاً، وعرضه مائة وخمسين ذراعاً، وحصلت له الحجارة من بطن نخل، ووضع في عمده الرصاص، وجعل أبوابه ستة على ما كانت عليه في عهد عمر، ومن مآثر عثمان بناء المنارات للأذان وكانت في زمنه مربعة الشكل، هذا ما أكده عبدالحي الكتاني في التراتيب الإدارية: "فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء، والزوراء قيل إنّه مرتفع كالمنارة".
إن كانت لدينا إشارة تاريخية لبناء أبي بكر الصديق لمنارة في جبل أجياد الذي يقع بالقرب من المسجد الحرام بمكة المكرمة، ينادي عليها المؤذن في رمضان، إلى جانب ذلك فقد وصل إلينا من نصوص المؤرخين أنّ الأذان كان يرفع أحياناً في المراحل المبكرة للإسلام على أسوار المدن وخاصة دمشق، حيث يفهم من شعر الفرزدق ذلك حينما قال:
وحتى دعا في سور كل مدينة *** مناد ينادي فوقها بأذان
لكننا سنتوقف أمام منارات مسجد البصرة الجامع، حيث ذكر البلاذري بناءها بالحجر سنة 45هـ على يد زياد بن أبيه، هذا ما يؤشر على نسق معماري أخذ يظهر بوضوح للمئذنة كتطور طبيعي منذ عصر الرسول (ص)، كان تاريخ بناء هذه المئذنة 45هـ، وقد بنيت من الحجر، وأجرت دائرة الآثار والتراث العراقية برئاسة د. عبدالعزيز حميد حفرية سنة 1960م في جامع البصرة كشفت النقاب عن قواعد حجرية لمئذنتين من الحجر ترجعان إلى عهد زياد بن أبيه، ومن أقدم وأشهر مآذن المساجد الإسلامية مئذنة مسجد القرويين التي شيدها عقبة بن نافع سنة 50هـ مع بنائه مسجد القيروان، تليها في المصادر التاريخية مآذن جامع عمرو بن العاص التي شيدها مسلمة بن مخلد الأنصاري سنة 53هـ. ويذكر الكندي في كتاب "أخبار مسجد أهل الراية":
"لما ضاق المسجد بأهله، شكى ذلك إلى مسلمة بن مخلد – وهو الأمير يومئذ – فكتب فيه إلى معاوية بن أبي سفيان، فكتب إليه يأمره بالزيادة فيه، فزاد من شرقيه مما يلي دار عمرو بن العاص... وأمر ببناء منار المسجد الذي في الفسطاط، وأمر أن يؤذنوا في وقت واحد، وأمر مؤذني الجامع أن يؤذنوا للفجر إذامضى نصف الليل، فإذا فرغوا من أذانهم أذن كل مؤذن في الفسطاط في وقت واحد، قال ابن لهيعة: "فكان لأذانهم دوي شديد، وقيل إن معاوية أمره ببناء الصوامع للأذان... وجعل مسلمة للمسجد الجامع أربع صوامع في أركانه الأربعة، وهو أوّل من جعلها فيه، ولم تكن قبل ذلك... وكان السلم الذي يصعد منه المؤذن في الطريق، حتى كان خالد بن سعيد فحوله داخل المسجد.
ثمّ تتابع المصادر التاريخية في ذكر المآذن، إلى أن نصل إلى أشكال وطرز مختلفة للمآذان من الصين إلى الأندلس، لكن أشهر مآذن العالم الإسلامي مئذنة الجيرالدا، وكانت قد شيدت لجامع إشبيلية، ثمّ حول المسجد إلى كاتدرائية، واستبدل الجوسق العلوي للمئذنة بنهاية أخرى على طرز عصر النهضة الأوربي، والمئذنة الملوية لجامع سامراء ومئذنة جامع أبي دلف اللتان تعدان نموذجاً فريداً لعمارة المآذن، أما مئذنة الرقة التي بقى منها بدنها الأسطواني حتى شرفة المؤذن، كانت الأساس الذي شيدت عليه حلقات من المآذن الممتدة من العراق حتى شرق آسيا، لكن تستوقفنا في هذه المساحة الجغرافية الهائلة مئذنة قطب منار في الهند، هذه المساحة التي تميزت مآذنها باستدارة البدن ونحافته وارتفاعه الكبير الذي يبدأ من فوق قاعدة تبدو غاية في القصر إذا ما قورنت بارتفاعه، ويضيق قطر هذا البدن كلما ارتفع إلى درجة ملحوظة حتى يصل إلى شرفة المؤذن التي عادة ما تحملها صفوف من المقرنصات، وغالباً ما يستمر البدن فوقها إلى ارتفاع آخر تتوجه صفوف أخرى من المقرنصات، بل قد يأتي بدن رفيع ثالث تغطيه قبيبة غالباً ما تكون على شكل البصلة.
* كاتب من مصر
المصدر: مجلة العربي/ العدد 656 لسنة 2013م
ارسال التعليق