• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

فقه الصيام

أ. د. الشيخ يوسف القرضاوي

فقه الصيام

◄أنواع العبادات في الإسلام:

خلق الله سبحانه الناس ليعرفوه ويعبدوه، قياماً بحق ربوبيته، وألوهيته، كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56).

لهذا جعل الإسلام التعبد لله تعالى، هو أوّل ما يطالب به المسلم، وكانت أركان الإسلام، ومبانيه العظام، تتمثل في عبادات لله تعالى، هي – بعد الشهادتين – إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام.

وقد نَوَّع الإسلام في عباداته التي شرعها:

فمنها: العبادة التي يؤديها المسلم بجهده البدني كالصلاة والصيام، وتُسمى: العبادة البدنية.

ومنها: ما يؤديه بذلاً من ماله لله، كالزكاة والصدقات، وتُسمى: العبادة المالية.

ومنها: ما يجمع بينهما، كالحج والعمرة.

كما أنّ منها: ما يتمثل في الفعل، كالصلاة والزكاة والحج.

ومنها: ما يتمثل في الترك والكف، وهو الصيام.

على أنّ هذا الكف والترك ليس أمراً سلبياً، فإنّ الذي جعله عبادة هو أنّ المسلم يقوم بذلك بإرادته واختياره، قاصداً التقرب إلى الله تعالى، فهو بهذا عمل بدني، ونفسي إيجابي، له ثقله في ميزان الحقِّ.

 

معنى الصيام الشرعي:

الصيام المأمور به، والمُرغَّب فيه في القرآن والسنّة إنما هو ترك وكف وحرمان، وبعبارة أخرى: إمساك وامتناع عن الاستجابة لما كان مباحاً من شهوة البطن، وشهوة الفرج، بنية التقرب إلى الله تعالى.

فهذا هو الصوم الشرعي: إمساك وامتناع إرادي عن الطعام والشراب، ومباشرة النساء وما في حكمها، خلال يوم كامل: أي من تَبَيُّن الفجر إلى غروب الشمس، بنية الامتثال والتقرب إلى الله تبارك وتعالى.

والدليل على أنّ الصيام الشرعي هو الإمساك عن الشهوتين كما ذكرنا، قوله تعالى في بيان أحكام الصيام في سورة البقرة: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) (البقرة/ 187).

فقد بيّنت هذه الآية الكريمة حقيقة الصيام المأمور به في الآيات قبلها، وبيّنت مدته كذلك.

فقد أباحت الآية المباشرة بين الرجال والنساء، أي الأزواج والزوجات، معللة ذلك بقوله: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ)، كما أباحت الأكل والشرب كذلك طوال الليل، حتى يتبيّن الفجر، ثمّ أمرت بإتمام الصيام من الفجر إلى الليل، ويدخل بغروب الشمس.

وفي الصيام حِكَم ومصالح كثيرة أشارت إليها نصوص الشرع ذاتها، منها:

1-   تزكية النفس بطاعة الله فيما أمر، والانتهاء عما نهى، وتدريبها على كمال العبودية لله تعالى، ولو كان ذلك بحرمان النفس من شهواتها، والتحرر من مألوفاتها، ولو شاء لأكل أو شرب، أو جامع امرأته، ولم يعلم بذلك أحد ولكنه ترك ذلك لوجه الله وحده، وفي هذا جاء الحديث: "والذي نفسي بيده لخُلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، كلّ عمل ابن آدم له، إلّا الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به".

2-   أنّ الصيام، وإن كان فيه حفظ لصحة البدن – كما شهد بذلك الأطباء المُختصون – ففيه أيضاً: إعلاء للجانب الروحي على الجانب المادي في الإنسان، فالإنسان – كما يصوره خلق آدم – ذو طبيعة مزدوجة، فيه عنصر الطين والحمأ المسنون، وفيه عنصر الروح الإلهي الذي نفخه الله فيه، عنصر يشده إلى أسفل، وآخر يجذبه إلى أعلى، فإذا تَغلَّب عنصر الطين هبط إلى حضيض الأنعام، أو كان أضل سبيلا، وإذا تغلب عنصر الروح التقى إلى أفق الملائكة، وفي الصوم انتصار للروح على المادة، وللعقل على الشهوة.

ولعل هذا سر الفرحة اليومية التي يجدها كلّ صائم كلما وفق إلى إتمام صوم يوم حتى يفطر، والتي عبر عنها الحديث النبوي: "للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه" متفق عليه.

3-  ومن المتفق عليه أنّ الغريزة الجنسية من أخطر أسلحة الشيطان في إغواء الإنسان، حتى اعتبرتها بعض المدارس النفسية هي المحرك الأساسي لكلِّ سلوك بشري والناظر إلى معسكر الحضارة الغربية اليوم، وما يعاني من انحلال وأمراض يتبين له أنّ انحراف هذه الغريزة كان وراء كثير من الأوحال التي يرتكس فيها.

وللصوم تأثيره في كسر هذه الشهوة، وإعلاء هذه الغريزة، وخصوصاً إذا دووم عليه ابتغاء مثوبة الله تعالى، ولهذا وصفه النبي (ص) للشباب الذي لا يجد نفقات الزواج، حتى يغنيه الله من فضله، فقال:

"يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنّه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنّه له وجاء" (رواه البخاري عن ابن مسعود في كتاب الصوم وغيره، ومسلم 1400). والباءة: كناية عن النكاح، والوجاء: الخصاء، والمراد: أنّه يضعف الشهوة إلى النساء.

4-  ومن حكم الصوم: إشعار الصائم بنعمة الله تعالى عليه، فإن إلْف النعم يفقد الإنسان الإحساس بقيمتها، ولا يعرف مقدار النعمة إلا عند فقدها، وبضدها تتميز الأشياء.

فإنما يحس المرء بنعمة الشِّبَع والرِّيّ إذا جاع أو عطش، فإذا شبع بعد جوع، أو ارتوى بعد عطش، قال من اعماقه: الحمد لله، ودفعه ذلك إلى شكر نعمة الله عليه. وهذا ما أشير إليه في حديث رواه أحمد والترمذي، قال فيه (ص): "عَرَضَ عليّ ربي ليجعلَ لي بطحاء مكة ذهباً، فقلت: لا يا رب، ولكني أشبع يوماً، وأجوع يوماً، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك!" (رواه أحمد والترمذي عن أبي أمامة، وحسنه السيوطي تبعاً للترمذي، فاعترضه المناوي بأنّ في سنده ثلاثة ضعفاء).

5-  وهنك حكمة اجتماعية للصيام (وخصوصاً صيام رمضان): أنّه – يفرض الجوع إجبارياً على كلِّ الناس، وإن كانوا قادرين واجدين – يوجد نوعاً من المساواة الإلزامية في الحرمان، ويزرع في أنفس الموسرين والواجدين الإحساس بآلام الفقراء والمحرومين. أو كما قال ابن القيم: يذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين.

وقال العلامة ابن الهمام: إنّه لما ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات، ذكر من هذا حاله في عموم الأوقات، فتسارع إليه الرقة عليه.

وفي هذا التذكير العملي الذي يدوم شهراً، ما يدعو إلى التراحم والمواساة والتعاطف بين الأفراد والطبقات بعضهم وبعض.

6-  وجماع ذلك كله: أنّ الصيام يعدّ الإنسان لدرجة التقوى، والارتقاء في منازل المتقين، يقول ابن القيِّم:

"وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها، أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183).

والحقّ أنّ صيام رمضان مدرسة متميزة، يفتحها الإسلام كلّ عام، للتربية العملية على أعظم القيم، وأرفع المعاني، فمن اغتنمها وتعرض لنفحات ربه فيها، فأحسن الصيام كما أمره الله، ثمّ أحسن القيام كما شرعه رسول الله (ص)، فقد نجح في الامتحان، وخرج من هذا الموسم العظيم رابح التجارة، مبارك الصفقة، وأي ربح أعظم من نوال المغفرة والعتق من النار؟.

روى أبو هريرة عن رسول الله (ص): "مَن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.. ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" (متفق عليه من حديث أبي هريرة).

 

المصدر: مجلة رسالة التقريب رجب وشعبان لسنة 2008م

 

ارسال التعليق

Top