· الاقتصاد الإسلامي في فكر الشهيد الصدر يقوم على قاعدة أخلاقية.
· يجب أن ينبعث شعور التكامل من وجدان الإنسان المسلم ويطلق من مشاعره.
· إنّ السلبية التي تسود ذهنية المسلم اليوم تعود إلى أنّ الأرض قُدمت له بشكل لا يتلائم مع إطار أخلاقيته.
· تطبيق الاقتصاد الإسلامي يبدأ بتهيئة التربة الصالحة له.
· الدين هو العلاج الوحيد لما ينجم عن الفطرة من مشاكل.
· يرى الإسلام أنّ الطبيعة ليست هي سبب جوع الفقراء بل بسبب سوء التوزيع وسوء العلاقات.
من الصفات المهمة للاقتصاد الإسلامي في رؤية الشهيد الصدر هي الأخلاقية:
وتتمثل هذه الأخلاقية في الغاية والطريقة.
أ) الأخلاقية من ناحية الغاية: إنّ غاية الاقتصاد الإسلامي لا تنبع من واقع خارج حدود الإنسان، فالماركسية في تحديدها لحقِّ العامل وللضمان الاجتماعي تنطلق من واقع وسائل الإنتاج وتطورها، وتنظر إلى الواقع المادي للإنسان كمحدد للشكل الاقتصادي الذي يسود، بينما ينطلق الإسلام في تحديده للقيم العملية التي يجب أن تسود من ناحية خلقية.
ب) الأخلاقية من ناحية الطريقة: إنّ الإسلام في طريقته يهتم بالعامل النفسي ويجعل الطريقة منسجمة مع أحاسيس ومشاعر الإنسان ومتفاعلة معها.. وعملية التكافل الاجتماعي قد تتمّ بأخذ الضرائب من الأغنياء عن طريق القوة وإعطائها إلى الفقراء، ولكن هذه الطريقة ليست في نظر الإسلام صحيحة، وإن كانت تؤدي الجانب الموضوعي من الغاية وهي إشباع حاجة الفقراء، بل يجب أن تكون الطريقة أخلاقية، يجب أن ينبعث شعور التكامل من وجدان الإنسان المسلم وينطلق من مشاعره.
وهذا الاهتمام الكبير من قبل الإسلام بالأخلاقية يرينا مدى الاهتمام بالصياغة النفسية والروحية والخلقية للإنسان في المجتمع الإسلامي، وبالتالي مدى الاهتمام بالتحديد الذاتي كمنطلق لتحقيق التوازن والتكامل الاجتماعي.
الاقتصاد الإسلامي يقوم على أرضية فكرية وخلقية:
قبل أن أتكلّم عن الأرضية الإسلامية أوضّح علاقة الأرضية بالمذهب والصلة المتبادلة بينهما. إنّ أيّ تخطيط اجتماعي أو اقتصادي لا يمكن أن يكتب له النجاح إلّا بعد أن يكوّن إطاراً يستطيع أن يدمج الأُمّة ضمنه، ولا يمكن لأيِّ منهج أن يؤدي دوره الفعّال إلّا إذا استطاع أن يحرك الأُمّة، ويفجّر طاقاتها بأن يبعث فيها حركة دائبة لا تعرف الملل.
ولو ألقينا نظرة على المناهج السائدة اليوم في أوربا لرأيناها تلتقي والأرضية الأوربية، وتلتئم ومشاعر الإنسان الأوربي، فإنسان أوربا يعيش أخلاقية تتكون من مزيج من إيمان عميق بالحرية، ونظرة متأصلة في الأرض لا ترتفع إلى السماء، وشعور واضح بالفردية والأنانية، وتمثل هذا جلياً في كلِّ تطلعات الإنسان الأوربي العلمية والفكرية، حينما ذهب يبحث عن أصله بين فصائل الحيوان، وبدأ يفسر سير البشرية والصرح الإنساني كله على أساس الصراع والتناقض بين القوى المنتجة، وحتى إله المسيحية أنزله من السماء إلى الأرض وجسّده بهيئة كائن أرضي.
ومن هذا المزيج انطلقت فكرة الاقتصاد الحر التي تمثل الفردية الشخصية، وفكرة الاقتصاد الاشتراكي التي تمثل الفردية الطبقية، وفكرة الوجودية التي تمثل قمة شعور الإنسان الأوربي بالحرية.. من هنا لا نستغرب حينما نرى الإنسان الأوربي في ظل هذه الأنظمة بدأ بتفاعل إيجابي مع المادة.. يستغل خيراتها ويكتشف أسرارها.
ولم يكن غريباً أيضاً أن نرى هذه النهضة العلمية في أوربا.. وحركة الإنسان الأوربي الدائبة في تفاعله مع وسطه المادي، لأنّ المنهج الذي يعمل ضمنه يمثل إطار تفكيره ويعبر عن مزيج أخلاقيته. ومن هنا أيضاً لا نستغرب حينما نرى الإنسان المسلم تسود ذهنه نظرات سلبية إلى الحياة المادية تتمثل في الزهد تارة وفي القناعة تارة أخرى، ومؤدية إلى العزلة والانطواء.
إنّ السلبية التي تسود ذهنية المسلم اليوم لم تنبع من الأخلاقية التي يعيشها، بل نتجت بعد أن قُدمت له الأرض بشكل لا يتلائم والإطار الخلقي الذي يعيشه.
الإنسان المسلم يحتاج إلى منهج تلبس الأرض فيه لباس السماء، ويتعامل مع محيطه المادي وفق مقياس الوجوب والاستحباب، وعند ذاك سوف يندفع في حركة لا حدود لها، وسوف تتفجر الطاقات الخلّاقة في نفسه، وسوف يعمر الأرض لا مادياً فحسب، بل يتغلغل إلى داخل النفس الإنسانية مجتثاً منها كلّ دوافع الحقد والظلم، مكوّناً المجتمع الذي تطمح كلّ الإنسانية اليوم إليه، وإن غفلت عنه، ذلكم هو المجتمع الإسلامي
إنّ الأرضية الإسلامية تتكوّن من عناصر ثلاثة هي:
العقيدة والمفاهيم والعواطف:
فالعقيدة تحدد نظرة الإنسان إلى الكون وتعطيه التفسير الكامل عن الوجود. وعلى ضوء هذه العقيدة تنشأ عند الإنسان المسلم نظرات معينة إلى الأشياء، وتحديدات ثابتة لها، متمثلة في (المفاهيم). وهذه المفاهيم تبعث في نفس الإنسان أحاسيس ومشاعر معينة يظهر فعلها وعطاؤها في الخارج متمثلة في (العواطف)، التي تكون عنصراً مهماً من عناصر التربة التي يعيش عليها النظام الاقتصادي الإسلامي. ومن هنا نعلم أنّ الاقتصاد الإسلامي لا يمكن أن يخطط له مركزياً في ظروف كالظروف التي نعيشها اليوم من أجل تطبيقه كما يفكر المتحمسون للاقتصاد الإسلامي. إنّ تطبيق الاقتصاد الإسلامي يبدأ بتهيئة التربة الصالحة له، يبدأ بتربية وفق عقيدة الإسلام وبث المفاهيم المنبثقة من هذه العقيدة كي تتفجر في نفس المسلم المعاصر الأحاسيس والمشاعر التي يستطيع أن يحتضن بها الاقتصاد الإسلامي ويتطلع إلى مجتمع أفضل هو المجتمع الإسلامي.
الدافع الذاتي في إطار الدِّين:
إنّ الدافع الذاتي نزعة متأصلة في النفس الإنسانية. والإنسان في كلِّ تطلعاته وتصرفاته ينطلق من هذا الدافع، لذا كان سلوك الإنسان وأخلاقيته مظهراً لهذا الدافع، ويتكيف الجانب الخلقي والجانب السلوكي للإنسان تبعاً لتوجيه هذا الدافع وتكييفه.
ويشكل الدافع الذاتي عقبة كبرى أمام أي تخطيط اجتماعي، بل يمكن القول بأنّ هذا الدافع هو مثار المشكلة الاجتماعية، وبسبب اصطدام النزعة الذاتية بالمصلحة الاجتماعية فإنّ كلّ تخطيط يضمن مصالح الفرد الذاتية يصطدم بالمصلحة الاجتماعية، وكلّ تخطيط يهدف مصلحة المجتمع يتعارض مع الدافع الذاتي للفرد.
ولما كانت هذه النزعة فطرية ومتأصلة فلا يمكن القضاء عليها أوّلاً.. ومن ثَمّ لا يستطيع أي جهاز اجتماعي كالجهاز الحكومي مثلاً أن يخطط للقضاء على هذه النزعة، لأنّ هذا الجهاز من المجتمع ويسري عليه ما يسري على المجتمع من نزعات لدوافع الذاتية.
وبذا فسوف تبقى المشكلة معلقة والصراع محتدماً، مازالت المسألة في مستوى تخطيط أرضي ومنهج بشري.
وهنا يأتي دور الدين باعتباره العلاج الوحيد لما ينجم عن الفطرة من مشاكل، وباعتبار أنّ الدين جاء ليكون متمماً للفطرة الإنسانية السليمة لتوجيه الإنسان إلى طريق كماله.
فالدين يقرّ بوجود الدافع الذاتي، ولكنه يوجهه توجيهاً يرتفع عن مستوى الأرض ويربطه بالعالم الآخر.
فالإنسان المسلم بحكم تربيته يفكر بمجتمعه، ويعطي من نفسه الكثير لصالح المجموع.. ويضحّي بماله ودمه أحياناً في سبيل المصلحة الاجتماعية، كلّ هذا يقدمه الإنسان المسلم منتظراً العوض المضاعف في الدار الآخرة.
فالمصلحة الاجتماعية مضمونة، والمصلحة الفردية مضمونة أيضاً. ولا يمكن لمصلحة ذاتية للإنسان أن تكون إيجابية ومعطاءة في أي إطار كالإطار الذي يصوغه لها الدين وكالمنهج الذي يقدمه.
والقرآن الكريم في دفعه للإنسان المسلم يكوّن له هذه النظرة عن مصالحه وأرباحه فيقول: (مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (التوبة/ 120-121).
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) (فصلت/ 46).
(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة/ 6-8).
التفسير الاقتصادي للسلوك والأفكار:
راج في أدبيات اليسار تفسير كلّ مظاهر السلوك تفسيراً اقتصادياً وتصنيف الناس تصنيفاً طبقياً والحكم على اتجاهات هذه الفئة وتلك الجماعة من خلال مستواهم المعاشي. السيد الصدر بيّن خطأ هذا الاتجاه بنقده العلمي لنظرية المادية التاريخية، كما استعرض بعض النماذج من الأهداف التي دعا إليها الإسلام، والتي يجب أن تظهر في "عرف الماركسية" عند ظهور الطبقة البرجوازية وبعد انتشار الصناعة:
1- دعا الإسلام إلى المساواة ونبذ كلّ تفرقة بسبب اللون أو العنصر أو اللغة فـ"الناس سواسية كأسنان المشط" في العرف الإسلامي، و"لا فضل لعربي على أعجمي إلّا بالتقوى". ولم يكن هذا بالمستوى النظري فقط وإنما استطاع أن يعكس هذه المفاهيم على الواقع الاجتماعي ويجسّدها في العلاقات الاجتماعية. علماً بأنّ الماركسية تقول بأنّ عَلَم المساواة يجب أن ترفعه الطبقة البرجوازية التي تظهر في المجتمع الصناعي.
2- تحدى الإسلام المادية التاريخية بدعوته إلى مجتمع عالمي يجمع الإنسانية كلها على صعيد واحد. فمن بين تلك الحياة العشائرية البدائية ظهرت هذه الفكرة، ومن بين تلك العقول الضيقة الأفق شعّت هذه الدعوة، فأية وسيلة للإنتاج طورت هذا التفكير، وأية آلة غيّرت نظرة أقوام لا يدركون المجتمع القومي فأصبحوا في فترة قصيرة دعاة مجتمع عالمي؟!
3- ومرة أخرى يتحدّى الإسلام منطق التاريخ الماركسي حين يقيم علاقات اقتصادية لا يمكن أن تقوم في حساب الاقتصاد الاشتراكي إلّا بعد بلوغ المجتمع درجة من المرحلة الصناعية والآلية في الإنتاج، فقلص الملكية الفردية وحدّد مجالها، وأعطاها مفاهيم وقيم معينة لتهذيبها، ووضع ضمانات التوازن وعدالة التوزيع.. في الوقت الذي يقول منطق القرن الثمن عشر على لسان آرثر يونج "لا يجهلن سوى الأبله أنّ الطبقات الدنيا يجب أن تظل فقيرة، وإلّا لن تكون مجتهدة"، ويقول منطق القرن التاسع عشر على لسان مالثوس: "ليس للذي يولد في عالم تم امتلاكه حقّ في الغذاء إذا ما تعذّر عليه الظفر بوسائل عيشه عن طريق عمله أو أهله، فهو طفيلي لا لزوم لوجوده، إذ ليس له على خوان الطبيعة مكان، والطبيعة تأمره بالذهاب ولا تتوانى في تنفيذ أوامرها" بينما يقول الإسلام معلناً مبدأ الضمان الاجتماعي:
"من ترك ضياعاً فعليّ ضياعه، ومن ترك دَيناً فعليّ ديَنه".
ويعلن الإسلام بأنّ الطبيعة ليست هي سبب جوع الفقراء، بل هو بسبب سوء التوزيع وفساد العلاقات فيقول الحديث: "ماجاع فقير إلا بما مُتع غني" ومن كلِّ هذا نستنتج بأنّ العلاقات الاقتصادية لم تقم على أساس تطور وسائل الإنتاج، ولا على أي أساس مادي آخر، بل إنها قائمة على أسس فكرية وروحية تمتزجان فتكونان أخلاقية معينة، وهذه الأخلاقية هي التي تحدد العلاقات الاقتصادية وترسم طريق العدالة الاجتماعية.
مشكلة التوزيع في نظر الإسلام:
إنّ لكلِّ مذهب اقتصادي نظرة معينة في التوزيع تنسجم والإطار العام للمذهب. فالشيوعية في معيارها للتوزيع تعتمد على قاعدة: من كلِّ وفقاً لطاقته ولكلِّ وفقاً لحاجته. والنظرة الاشتراكية تقول: من ِّكل حسب طاقته ولكلِّ حسب عمله. والاشتراكية بعد الماركسية تعتقد بأنّ التوزيع يتحدد وفقاً لحالة الصراع الطبقي في المجتمع. فطبقة العبيد التي كانت تعيش تحت سياط السادة كان وضعها شيئاً سائغاً في ظروف تتطلب هذا النوع من الصراع بين السادة والعبيد.
ويقف الإسلام موقف المعارض لهذه النظرة، ويثبت مسألة التوزيع على أساس خلقي.
فالطبقة التي حُرمت من العمل بسبب ظروف جسمية وفكرية يكون مصيرها الحرمان في منطق الاشتراكية، بينما يقرر الإسلام بقوله: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (الذاريات/ 19)، فهذه الفئة هي جزء من المجتمع الإنساني ولابدّ للمجتمع السعيد الذي يشيد دعائمه الإسلام أن يقلّص آلام الحرمان إلى أبعد حد ممكن. وعلى هذا الأساس الخلقي لا تحرم هذه الفئة من التكافل والضمان لمجرد أنها محتاجة لذلك. ومن هنا نعرف أنّ المشكلة الاقتصادية في نظر الإسلام هي أخلاقية صرفة، فالنظرة الماركسية تذهب إلى أنّ المشكلة الاقتصادية ناتجة عن التناقض بين شكل الإنتاج وعلاقات التوزيع، بينما يذهب الإسلام إلى أنّ المشكلة الاقتصادية نابعة من الإنسان نفسه حين يقرر في الآيات الكريمة: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم/ 32-34).
فهذا الكون الفسيح كلّه مسخّر لمنفعة الإنسان ولمصلحته ولكنه ظلوم كفار كما تقرر الآية الكريمة.
فالظلم والكفران هما سبب المشكلة الاقتصادية، فالظلم يتمثل في سوء التوزيع ويتمثل الكفران في إهمال الإنسان لاستثمار معطيات الطبيعة.
فالإنسان إذن هو سبب المشكلة، وهو القادر على حل المشكلة حينما يقيم علاقات مع هذا الكون تسمو على العلاقات المادية ويعيش الوسط الذي يحيطه وفق مقاييس فكرية وروحية.
أخلاقية الملكية في الاقتصاد الإسلامي:
إنّ الملكية في الإسلام تُفسر على الطريقة المذهبية على أساس العمل وصلة العامل بنتاج عمله، وهذا ما لسنا بصدده، إذ نحن بصدد التفسير الخلقي للملكية الذي يحدده مفهوم الخلافة، واعتبار أنّ الإنسان خليفة ووكيل في هذه الأرض، هذا المفهوم الذي يؤطر الملكية بالإطار العام لصياغة الإسلام للفرد في تحديد مشاعره ونشاطه.
ولهذا التفسير الخلقي الذي يربي الإسلام أفراده وفقاً لمقاييسه معطياته الكبيرة وأهمها هي:
1- إنّ مفهوم الخلافة يقيّد الإنسان المسلم ويشده إلى تعليمات مَن وهبه هذه الخلافة، قال تعالى: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (الحديد/ 7).
وتنمو وفق هذا المفهوم الرقابة غير المنظورة في نفس الإنسان المسلم، لأنّه يشعر دائماً بأنّه مراقب في كلِّ تصرفاته وأعماله فيقول تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (يونس/ 14).
2- إنّ الإنسان المسلم على ضوء هذا المفهوم سوف يكون أمام رقابة أخرى هي رقابة المجتمع، فالخلافة في الأصل للجماعة، وعليها تقع مسؤولية حماية المال، لأنها وكيلة عليه، فلا يجوز أن تسمح للسفهاء أن يتملكوا شيئاً، قال تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا) (النساء/ 5). فالأموال وإن كانت للأفراد بالملكية الخاصة، لكن القرآن عبّر عنها بكلمة (أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا)، إشارة إلى المسؤولية الملقاة على عاتق الجماعة باعتبارها هي التي تتحمّل أعباء الخلافة.
3- وعلى ضوء مفهوم الخلافة فقد جُرّدت الملكية من الامتيازات المعنوية التي رافقتها واقترنت بوجودها، فليس هناك أي امتياز معنوي للغني على الفقير، ولا يجوز اقتران الملكية بأي نوع من القيمة الاجتماعية في العلاقات المتبادلة، فقد جاء في الحديث الشريف عن الإمام عليّ بن موسى الرضا (ع): "مَن لقي فقيراً مسلماً فسلّم عليه خلاف سلامه على الغني لقي الله عزّ وجلّ يوم القيامة وهو عليه غضبان".
وندّد القرآن الكريم بهذه المقاييس التي تعتبر الثروة هي التي تطبع نوعية العلاقات والمعاملات الاجتماعية فيقول تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (عبس/ 1-10).
وهكذا تذوب كل هذه الامتيازات على ضوء اعتبار أنّ الملكية خلافة لها مسؤوليتها ووظيفتها، لاحقاً ذاتياً.
4- تتحول الملكية وفق هذا المفهوم من اعتبارها غاية إلى كونها مجرد وسيلة، إذ إنّ الإنسان الذي اندمج كيانه روحياً ونفسياً مع الإسلام ينظر إلى الملكية بوصفها وسيلة تحقق الهدف من الخلافة، وإشباع الحاجات الإنسانية المتنوعة. فيقرر الرسول الكريم (ص) "ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ولبست فأبليت وتصدقت فأبقيت" والمال بهذا المنظار لا يكون تجميعاً وتكديساً شَرِهاً لا يرتوي ولا يشبع.
5- تلك هي الصياغة الروحية والخلقية للملكية في الإسلام التي تكمل الصياغة المذهبية للملكية فتشكلان معاً علاقة الإنسان بما يملك، علاقة سامية ذات نتاج ثرّ إيجابي معطاء.
المصدر: مجلة ثقافة التقريب/ العدد 12 لسنة 2008م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق