• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أدب الاستمتاع

د. نجيب الكيلاني

أدب الاستمتاع

هناك نوع من الأدب يكتب لمجرد التسلية البحتة، مثل الحوادث المثيرة التي لا تخفي وراءها هدفاً بعينه سوى الإثارة والاستمتاع والتسلية، ومثل المواقف الحرجة التي تبعث على الضحك أو الاستغراق فيه، ومثل بعض السخريات والمواقف الملفتة للنظر، يبدو هذا في بعض القصص البوليسية وفي الملهاة (المسرحيات الكوميدية)، وكذلك كثير من الشعر الساخر الضاحك أو الماجن.

فما موقف الأديب المسلم من هذا كلّه؟

إنّ أمامنا الحكمة النبويّة المشهورة:

روِّحوا عن قلوبكم ساعة بعد ساعة ***** إنّ القلوب إذا كلّت عميت

الحياة ليست هزلاً صرفاً، ولا جدّاً صرفاً، وإنّما هي مزيج بين هذا وذاك، والتسلية والمزاج من حقّ كلّ إنسان أن يرتوي بهما.

"كان رسول الله (ص) يمزح ولا يقول إلّا حقّاً".

فليكن هذا اللون من الأدب طرفاً من أطراف، وجزء من كلّ، فلا مانع أن يشمل أدبنا ألوان المأساة والملهاة، وأن يضحك ويبكي، وأن يكتب بعض أدبائنا ذوي الموهبة هذا اللون الفكه والمسلي من الأدب، لكن هناك بعض أُمور يجب إدراكها.

لا مانع من الأدب الساخر، لكننا نشترط في الأدب الساخر العفّة وعدم الإفحاش في القول، نمزح ولا نقول إلّا حقّاً، وليس هذا تزمتاً أو ضيق أفق منّا، لأنّ الأدب الساخر في العالم لم ينل مكانته السامية على يد (برنارد شو) و(إبسن) وغيرهما، إلّا لأنّ سخرياتهم كانت تنصب على أوضاع فاسدة في المجتمع وتحمل حملة شعواء قاسية على القيم والتقاليد الزائفة.. كانت سخرياتهم تعالج قضايا كبرى عالمية أو محلية، وكانت هذه السخريات تهزّ الجماهير هزاً عنيفاً، كانت تنتزع الإعجاب والضحكات، لكنّها في نفس الوقت كانت تحرّض على قلب الأوضاع المتعفنة، وتحطيم قلاع الجمود والرجعية والكبرياء الفارغة، وتحمل على النزوات الفاسدة التافهة، وتحاول أن تقيم المجتمع على أُسس نظيفة واقعية.

سخرية تحمل في طياتها أخطر القضايا وأكبر الموضوعات.

سخرية ظاهرها الابتسام والضحك وباطنها الألم والدموع والثورة.

إنّ السخرية العميقة المؤثرة هي التي نريد، لأنّ منطق الحياة الحديثة، وارتفاع مستوى الوعي الجماهيري وضع الأديب في موضع حرج، إنّ وراء كلماته الساخرة معنى، وهذا المعنى يجب أن يكون أكبر من السخرية نفسها، لأنّ السخرية السطحية لا تروي ظمأ العقول المتفتحة الواعية في عالمنا الجديد.

هذه النظرة تقرّبنا جدّاً إلى مستوى الفهم الإسلامي للأدب وتجعل ثقتنا به أجل وأعظم.

أمّا الأحداث المثيرة – مجرد الأحداث – التي لا تنطوي على مضامين فكرية معيّنة، فهي في نظري لا تعدو عن كونها نزهة على شاطئ نهر، أو استمتاع بمنظر حوض من الزهور، أو تطلع إلى السماء الزرقاء التي توشيها السحب البيضاء النظيفة، كلّها أشياء تروي النفس بأحاسيس جمالية مريحة قد لا يكون للمرء غنى عنها، وإن لم تشبع العقول الجائعة إلى لون من ألوان المعرفة.

ولا يمكن أن نترك هذا الأمر على عواهنه، إنّ الجندي الذي يحمل سلاحه استعداداً لمعركة حربية مقبلة إذا ما تناسى واجبه وظل يحملق في النهر والسماء والورد ساعة.. ثمّ ساعتين سوف يدهمه العدو وينتهي أمره، لكن في الإمكان أن يستمتع بها للحظات، ثمّ ينصرف إلى واجبه، لهذا فإنّ إشاعة هذا اللون من الأدب والاستغراق فيه، أو الإنكباب عليه، والاهتمام به دون سواه ضرب من البلاهة والعته، وخروج على طبائع الأشياء.

لنختر له حيزاً يليق به في عالم الفنون والآداب ولنترك للألوان الأخرى مساحة كبرى تليق بعمق رسالتها، وعظم دورها في الحياة الصاخبة المليئة بشتى أنواع الصراعات.

أمّا أصحاب نظرية "الفن للفن" الذين يحكمون على الفنون من ظاهرها وأشكالها الفنية، دون التقيد بمضامين معيّنة، ويكتفون بأن يكون الإنتاج فناً فحسب، أصحاب هذه النظرة يرفضون أخلاقية الفن، ونحن لا نقرهم على زعمهم، فقد أسلفنا أن نظرة ديننا إلى الأدب تؤكد فاعليته وإيجابيته، وأنّ المسلم محاسب على كلّ قول أو فعل يصدر عنه، لكنّنا في نفس الوقت نستطيع أن نذهب عن عقولهم مخاوفهم التي تدعمهم من جراء الأشكال الفنية، فهم يعتقدون أنّ الالتزام قد يشوه الأشكال الفنية، وبالتالي سيصبح الإنتاج شيئاً غير الفن، ونحن معهم في أنّ الشكل الفني يجب أن يظل محافظاً عليه، فلا فن بدون شكل معيّن، المضمون وحده لا يقوم كعمل فني، هذا مؤكد، فقد يكتب أحدهم مسرحية ثرية المضمون، قويّة المعنى، نبيلة الغاية، لكنّها مهلهلة البناء، شائنة الحوار، لا عمق في تصوير شخصياتها، ولا حياة في حركتها المسرحية، مثل هذه المسرحية لا تعدّ فناً على الإطلاق، بل هي مجموعة من الخواطر والآراء أو المبادئ قذفوا بها على قارعة الطريق.

والإسلام لم يضع لنا أشكالاً فنّية معيّنة، ولم يربطنا ببناء فنّي خاص نسير على منواله، لأنّ القرآن ليس كتاباً في علم "الاستطيقا" – الجمال – وإنّما ارتباطنا بالإسلام هو ارتباط بالمثل والمبادئ التي أنزلها الله، وجعلها مصدراً نصدر عنه، ونتمثل معانيه، ثمّ نحاول – جادين – الحفاظ على الأشكال الفنية والمساهمة في إنمائها واكتمالها وتطويرها مثل غيرنا من أدباء العالم.

بهذا يمكننا أن ندع مذهب "الفن للفن" وقد كفلنا لأنفسنا في أدبنا الإسلامي كلّ الضمانات التي تجعل الفن فناً.

 

المصدر: كتاب الإسلامية والمذاهب الأدبية 

ارسال التعليق

Top