محمد المولى، محمد إبراهيم، علي البجاوي، السيد شحاته
كان أهلُ بابلَ ينعمون برَغد العيش ويتفيّئون ظلال النِّعمة، ولكنهم كانوا يخبطون في دياجير الظلال، ويتردّدونَ في مهاوي الضلالة؛ فقد نحتوا الأصنام بأيديهم، وصنعوها على أعيَنهم، ثمّ جعلوها أرباباً، ونصبوها آلهة، وعكفوا على عبادتها من دون الله الذي خلقهم، وأسبغ عليهم نعَمَه ظاهرة وباطنة.
وكان نمرود بن كنعان بن كوش قابضاً على زمام الملك في بابل، وحاكماً بأمره مستبداً برأيه. ولمّا رأى ما يتقلّب فيه من نعيم، وما يتمتّع به من سطوة الملك، وما يحيط به من قوّة السلطان، ثمّ ما أطبق على القوم من جهل، وما ران على قلوبهم من عَمَهٍ، أقام نفسه إلهاً، ودعا الناس إلى عبادته. ولماذا لا يُلزمهم الخضوع له، ويطلب منهم عبادته وتعظيمه، وقد وجد الجهل فاشياً، والعقائد فاسدة، والقوم في ضلال مبين! ألم يعبدوا الحجارة الصمّاء، والتماثيل الجَوفاء، وهي لا تسمع ولا تبصر، ولا تملك لهم نفعاً ولا ضرّاً! أما هو فينطِق ويفكِّر ويدرك ويشعر، ويُفيضُ عليهم الخير، ويدفع عنهم، ويستطيع أن يُصيِّر فقيرهم غنيّاً، ويجعل عزيزهم ذليلاً وهو ذو قوّة فيهم، وصاحبُ سلطان عليهم.
في وسط هذه البيئة الفاسدة، وفي بلدة فدام آرام من هذه المملكة وُلِدَ إبراهيم لأبيه آزَرَ، ثمّ آتاه الله الرُّشدَ، وهداه إلى الحق، فعرف بصائب رأيه وثاقب فكره، ووحي ربِّه أنّ الله واحد، وأنّه المهيمن على الكون، المسيطرُ على العالم، وأدرك أنّ هذه الأصنامَ التي يعبدونها، وتلك التماثيل التي ينحِتونها، لا تُغني عنهم من الله شيئاً، لذلك أزمَعَ الدعوة إلى توحيد الله، وعزم على تخليص قومه من وهدّة الشِّرك، وأعدّ العُدّة ليثنيَهم عن ضلالهم، واتخذ الأهبة لردّهم عن غَيّهم.
وقد كان إبراهيم مُفعَم النفس بالإيمان بربّه، ممتلئاً بالثقة واليقين بقدرة خالقه، مؤمناً بما أوحي إليه، مَن بَعثِ الناس بعد موتهم، وحسابهم في حياة أخرى على أعمالهم، ولكنه أراد أن يزداد بصيرة وإيماناً، وثقة ويقيناً. وتطلّع إلى أن يَلمَس الآية البيِّنة على البعث، ويرى الحجّةَ الواضحة على النشور، فسأل ربّه أن يُريَه كيف يُحيي الموتى بعد موتهم، ويبعثهم بعد فناء أجسامهم. فقال الله له: (أوَلَم تؤمن؟ قال: بلى) قد أوحيتَ إليَّ، وآمنتُ وصدّقتُ، ولكني تاقت نفسي للعيَان، وامتدّت عيني إلى المشاهدة، ليطمئن قلبي، ويزداد يقيني.
ولما كان إبراهيمُ يقصِدُ إلى أن تطمئن نفسه، ويستقرّ فؤاده، أجاب الله سُؤله، وأمره أن يأخذ أربعة من الطير، ويضمّها إليه، ليتعرّف أجزاءها، ويتأمّل خَلقها، ثمّ يجعلها أجزاء، ويفرِّقها أشلاء، ويجعل على كل جبل منهنّ جُزءاً ثمّ يدعوهن إليه، فيأتينَه سَعياً بإذن الله.
فلمّا فعل صار كلُّ جزء يَنضم إلى مثله، وعادت الأشلاء كل في مكانه، وسَرعان ما سرت فيها الحياة، ورجعت إليها الروح، وسعت إليه بقدرة الله وسارت إليه بإرادته، وهو يرى آياته البيِّنة، وقدرته الباهرة التي لا يعجزها شيء في السماوات ولا في الأرض.
هذه الطيور قد أزهق روحَها، ومزّق أجسادها بيده، ثمّ تناثرت أشلاؤه وتفرّقت أعضاؤها على عينه، ولما دعاها أقبلت عليه، واجتمعت إليه، ثمّ تماسكت أجزاؤها واتصل ما تفرّق منها، وعادت إليها الحياة! وما منْ أحد يرى ذلك ثمّ يُساوِره شك، أو يَتَخالجُه ريب في قُدرة الله على بَعث الموتى من مراقدهم، ونشرهم من قبورهم، سبحانه! إذا أراد شيئاً فلا مردّ له، وهو العزيز الحكيم.
يتبع...
المصدر: كتاب قصص القرآن
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق