هل التنمية الاقتصادية عمل اختياري، يقوم به المجتمع الإسلامي أو لا يقوم؟ هل مفروض على الفرد إسلامياً أن ينمي دخله ويرفع من مستوى معيشته أم إنّ ذلك عمل مباح، من حقّ الفرد القيام وعدم القيام به؟.
هل من مسئولية الدولة أن تحقق للجماعة تنمية اقتصادية لمواردهم أم إنّ ذلك إجراء تتفضل به الدولة إذا شاءت على مواطنيها؟
هذه التساؤلات يحاول الإجابة عليها هذا المطلب على النحو التالي:
إنّ التنمية الاقتصادية بأبعادها الإسلامية فرض مقدس افترضها الإسلام على الجماعة الإسلامية وعلى الفرد المسلم وعلى الدولة المسلمة.
ويمكن التدليل على صحّة هذا القول في الفروع التالية:
الفرع الأوّل: الدليل من القرآن
يقول تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك/ 15).
ويقول أيضاً: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ) (الجمعة/ 10).
ويقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) (البقرة/ 267).
هذه أوامر إلهية بالمشي في مناكب الأرض، والانتشار فيها، والابتغاء من فضل الله، وكلّ تلك الأوامر يعبّر عنها اقتصادياً بممارسة مختلف العمليات الإنتاجية ثم هناك أمر إلهي أفصحت عنه الآية الأخيرة، وهو الإنفاق من طيبات الكسب ولا يجد الباحث أصدق ولا أدق من تعليق الإمام محمّد الشيباني على هذه الآية، إذ يقول: (الأمر حقيقته الوجوب، ولا يتصوّر الإنفاق إلّا بعد الكسب "أو بعد الإنتاج" وما لا يتم الواجب إلّا به يصير واجباً)[1].
فالإنفاق واجب، وهو يتضمن التوزيع. والإنتاج واجب.
ثم إنّ هناك أوامر إلهية أخرى تفيد وجوب التنمية بطريق غير مباشر، وهي الأوامر المتعلقة بالجهاد.
يقول تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (الأنفال/ 39).
ويقول في آية أخرى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال/ 60).
فنحن مطالبون بالجهاد في سبيل الله ومقاتلة أعدائه، ومطالبون بأن يكون لدينا أكبر قدر مستطاع من القوّة.
ولن يكون الجهاد والقتال فعّالاً إلّا إذا دعمه اقتصاد قوي يموّله ويمدّه بمتطلّباته، ولن يكون ذلك إلّا عن طريق التقدّم الاقتصادي، وما توقّف عليه الواجب يصير واجباً.
ثم أنّ الآية الأخيرة تطلب منا: الإعداد بما يفيده ذلك من تخطيط وتصميم بما يحتوي عليه كلّ ذلك من عمليات. وأن يكون الإعداد بأقصى قدر نستطيعه وليس مجرد إعداد، أياً كان مستواه، والقوّة لفظ شامل، يتناول مختلف الجوانب المادّية والبشرية والمعنوية، وهو بالإضافة إلى ذلك مفهوم حركي، كلّ مرحلة من القوّة تهيء الطريق لمرحلة تالية[2].
وقد أشار إلى هذا الارتباط الوثيق بين التقدّم الاقتصادي وبين تأدية فريضة الجهاد عمر بن عبدالعزيز عندما أمر نائبه بأن ييسر السُّبل أمام المزارعين وغيرهم بقوله: (وخل بينهم وبين عمارة الأرض. فإنّ في ذلك صلاحاً لمعاش المسلمين وقوّة لهم على عدوهم)[3].
ويرى الباحث أنّ من قبيل الإشارة إلى هذا الارتباط قوله (ص): "إنّ الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة في الجنّة: صانعه والرامي به ومناوله"[4] ففيه ربط واضح بين الصناعة والتجارة والنقل وأعمال القتال، أي فيه ربط بين التنمية الاقتصادية وبين الجهاد.
وذُكر في بعض من آيات القرآن للتدليل على صحّة القول السابق بأنّ التنمية الاقتصادية فريضة إسلامية.
الفرع الثاني: الدليل من السنة
يقول (ص): "طلب الكسب فريضة على كلّ مسلم" وقال (ص): "ما من إمامٍ أو والٍ يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلّا أغلق الله أبواب السماء دون حاجته وخلته وفقره)[5].
من هذين الحديثين نعلم أنّ تنمية الدخل مفروضة على كلّ إنسان، وكذلك مفروضة على الحاكم، فالحاكم مسئول عن إشباع حاجات المواطنين ودفع شبح الفقر عنهم. أي أنّ الحاكم مسئول عن تحقيق التنمية الاقتصادية بشطريها: الإنتاجي والتوزيعي. مسئولية دينية قبل أن تكون مسئولية وطنية.
الفرع الثالث: الدليل من رجال الفكر الإسلامي
ويقول الإمام الشيباني: (إنّ الله فرض على العباد الاكتساب "الحصول على الدخل" لطلب المعاش، ليستعينوا به على طاعة الله. والله يقول: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا) (الجمعة/ 10) فجعل الاكتساب سبباً للعبادة)[6].
ويقول الإمام الماوردي: (إنّ عمارة البلدان باعتماد مصالحها وتهذيب سُبلها ومسالكها من مسئوليات الحاكم الواجب القيام بها)[7].
ويقول الإمام الدلجي: (الاكتساب لإحياء النفس واجب، والاكتساب لنفقة الزوجة ولبعض الأقارب أصلاً أو فرعاً واجب)[8].
نخرج من ذلك بأنّ التنمية الاقتصادية ليست عملاً اختيارياً في نظر الإسلام، كما أنّها ليست ضرورة تمليها ظروف تاريخية، وإنّما هي فريضة إسلامية قبل أن تكون فريضة وطنية، لا يتحقق الإسلام عملياً إلّا إذا توافرت في المجتمع الإسلامي.
المصدر: كتاب الإسلام والتنمية الاقتصادية
الهوامش
[1] - محمّد الشيباني، الاكتساب في الرزق المستطاب، ص26، مكتب نشر الثقافة الإسلامية - الطبعة الأولى 1938م.
[2] - د. عبدالحليم محمود، الإسلام والإيمان، ص16، دار الكتب الحديثة ـ الطبعة الثانية 1969م.
[3] - أبو عبيد، الأموال، ص64، مكتبة الكليات الأزهرية - الطبعة الأولى 1968م.
[4] - رواه أحمد انظر السيوطي، الجامع الصغير، ص66، ج1.
[5] - رواه أحمد انظر السيوطي، الجامع الصغير، ص126، ج2.
[6] - الشيباني، الاكتساب في الرزق المستطاب، ص14، مرجع سابق.
[7] - الماوردي، أدب الدنيا والدين، ص117، المطبعة الأميرية ـ الطبعة العاشرة 1918م.
[8] - الدلجي، الفلاكة والمفلوكون، ص8.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق