• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أشرف الفرائض.. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

أ. حسّان عبدالله

أشرف الفرائض.. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
◄المقدمة:

ليس غريباً أن يعطي الإسلام (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) موقعاً متقدماً من فرائضه وأن يعدَّ القائمين به في مقدمة المؤمنين المجاهدين حتى ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (ص).

"سيِّد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله".

ومنذ تركت الأُمّة الإسلامية  الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كتب عليها الذل والصغار وبدأت الحضارة الإسلامية بالضعف والخمول... ذلك أنّ قوام هذا الدين العظيم – الإسلام – لا يَصلُب ولا يستقيم إلا بالأُمّة الحريصة عليه، العاملة به، والقائمة بالدعوة إليه، الذابة عنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولم تكن هذه الأُمّة خير أمة كما وصفها الله تعالى إلّا عندما عملت بهذه الفرائض المقدّسة:

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...) (آل عمران/ 110).

واليوم بعدما غابت هذه الفرائض المقدّسة عن معظم رقعة عالمنا الإسلامي، غاب المعروف عنها وشاع المنكر فيها بل غدا المعروف منكراً، والمنكر معروفاً.. وسلط على الأُمّة شرارها فيدعون فلا يستجاب لهم، كما نبأ بذلك رسول الله (ص) محذراً من مغبة ترك هذه الواجبات الأساسية والهامّة في حياة الأُمّة ورسالتها.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتغيير:

الرسالة الإسلامية رسالة مغيرة تستهدف استئصال الوجود الجاهلي، وحذف كلّ أشكال الفساد والانحراف من حياة الفرد والمجتمع تمهيداً لبناء الإنسان بناءً فكرياً وروحياً وسلوكياً، وتنظيم المجتمع تنظيماً قانونياً وأخلاقياً وروحياً متماسكاً. وفي ضوء هذا المفهوم الشامل نكتشف الخط الإسلامي للمسيرة الإسلامية تجاه رصد حركة الواقع في الجانب الإيجابي والسلبي.

فنلاحظ أنّ الله سبحانه يريد للأُمّة أن ترصد المعروف والمنكر في المجال التطبيقي للإسلام لتتحمل مسؤولية الأمر بالأول والنهي عن الثاني بكلِّ الإمكانات المتاحة لها في منطقة الشعور الداخلي بالرفض النفسي للمنكر والتعاطف الروحي مع المعروف وهو ما يعبّر عنه بالتغيير بالقلب، أو في منطقة التعبير بإطلاق الكلمة القوية التي تؤيد أو ترفض، وهو التغيير باللسان، أو في مجال المواجهة بالدخول إلى صميم الواقع والضغط عليه بشدة، وهو ما يعبّر عنه بالتغيير باليد.

فلا مجال – بعد ذلك – للقول بأنّ الإسلام يوافق على السلبية الفردية والاجتماعية في هذا المجال ويعزل الإنسان في النطاق الذاتي الذي لا يخلق له أيّة مشكلة مع الآخرين على أساس أنّ كلَّ فرد مسؤول عن نفسه فلا مسؤولية له عن غيره.. إلّا في نطاق النصائح والتوجيهات الأخلاقية العامّة التي تلامس المشكلة من بعيد.

حيث لا تثير أي شعور سلبي لدى المنحرفين والكافرين والضالّين. ولقد وصفت السنّة النبوية في موارد كثيرة عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأنها عمل تغييري نذكر من هذه الأحاديث:

"مَن رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله".

"إنّ الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة إذا عملت الخاصة بالمنكر سراً من غير أن تعلم العامة، فإذا عملت الخاصة بالمنكر جهاراً فلم تغير ذلك العامة استوجب الفريقان العقوبة من الله عزّ وجلّ".

 

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب عبادي:

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 104).

"المعروف اسم لكلِّ فعل يعرف بالعقل أو الشرع حسنه، والمنكر ما ينكر بهما".

شرع الإسلام واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واعتبره عبادة من أجل عبادات الإسلام وأقدمها لأنّه السياج الواقي لكلِّ العبادات والقوانين والأخلاق والمبادئ والقيم في المجتمع الإسلامي.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو مهمة الأنبياء ومسؤولية الرسل. كلّفوا بها لإصلاح البشرية ووضعها على جادة الصواب.. لذا كان القيام بها مواصلة لمسيرة الأنبياء، وامتداداً لمهمتهم في الحياة.

فعن طريق عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتم عملية تبليغ الرسالة لمن يجهلها، وعن طريقها تتم هداية الضّال، ويرشد الإنسان إلى فعل الخير، وتتم مكافحة الشر والفساد.

وعن طريقها تنمو روح اليقظة والتحرّك ضدّ الظلم والجور والاستعباد.. وانطلاقاً من ذلك نجد أمير المؤمنين (ع) يؤكد لعن الله لتاركي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث يقول (ع):

"وإنّ عندكم الأمثال في بأس الله وقوارعه، وأيّامه ووقائعه، فلا تستبطئوا وعيده جهلاً بأخذه، وتهاوناً ببطشه، ويأساً من بأسه. فإنّ الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلّا لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فلعن الله السفهاء لركوب المعاصي والحلماء لترك التناهي!".

كما قد نلاحظ – في هذا المجال – أنّ الله سبحانه لم يطلب من المسلمين كافة القيام بهذا الدور، بل دعاهم إلى أن يكون منهم جماعة مخصوصة لتقوم بذلك، "ولتكن منكم أمة.. الآية". فكيف نفهم ذلك؟

الظاهر أنّ القضية ليست في مجال التحديد.. بل هي في مجال تقرير المبدأ، فلابدّ للأُمّة من دعاة للخير ومن آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر، بالمستوى الذي تتحرك فيه دعوة الخير، ويتأكّد فيه المعروف، ويزول فيه المنكر، وبذلك يختلف حجم هؤلاء حسب اختلاف الساحة إلى تحقيق هذا الهدف، فقد تمر الأُمّة بمرحلة عاديّة لا تحتاج فيها إلّا إلى النشاط الطبيعي الذي تقتضيه طبيعة الأشياء مما لا ضرورة فيه إلى استنفار الأُمّة بطاقاتها الكاملة..

ولكنّها قد تمر بحالة طوارئ من التحديات الصعبة العنيفة التي يثيرها دعاة الكفر والضلال، بالمستوى الذي تحتاج فيه الأُمّة إلى كلِّ طاقاتها لمواجهة ذلك كلّه ويتحوّل فيه الموقف إلى (الوجوب العيني) الذي يتوجه إلى كلِّ فرد بنفسه من دون أن يقوم فيه إنسان عن الآخرين بدلاً من (الوجوب الكفائي) الذي إذا قام به البعض سقط عن الكلِّ وإذا لم يقم به الكل أثموا جميعاً مما كان يحكم الحالة الأولى.. وقد تحدّث الإمام محمد الباقر (ع) عن هذه الفريضة المقدّسة في الإسلام فقال: "يكون في آخر الزمان قوم يتّبع فيهم قوم مراؤون "إلى أن قال": ولو أضرّت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها، إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، هنالك يتم غضب الله عزّ وجلّ عليهم فيعمهم بعقابه فيهلك الأبرار في دار الأشرار، والصغار في دار الكبار، أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتحلّ المكاسب وترد المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر".

وهكذا تتضح لنا أهمية هذه الفريضة العبادية وتأكيد وجوبها وحرص الشريعة الإسلامية على تنفيذها والالتزام بها.. لأنّها الأداة الرسالية الفعّالة التي تستعين بها الرسالة الإسلامية في بناء الفرد والمجتمع، وأنّها الوسيلة القانونية والتوجيهية التي تحرس المجتمع الإسلامي وتحصنه ضد وسائل الهدم والتخريب.

وتتأكد لنا أهمية هذه الفريضة في الوقت الحاضر عندما نجري دراسة تحليلية لأوضاع أمتنا الإسلامية وأسباب ومظاهر السقوط فيها.. ومنشأ وتاريخ كلّ ظاهرة انحرافية فيها.

فلو أنّنا كنا نمارس هذه المسؤولية ونتكاتف من أجل أدائها لما استفحل الفساد والانحراف.. ولأمكن اقتلاع جذوره من أول لحظة ولدت فيه البذرة الخبيثة (إسرائيل صنيعة الصهيونية) في أرضنا المقدسة. ولكن تهاوننا في أداء هذه الفريضة وتأخّرنا عن ممارسة هذه المسؤولية الكبرى ضيّع فرصاً كثيرة للإصلاح والبناء وفسح المجال واسعاً لميلاد ونمو وانتشار الفساد والانحراف وطغيانه إلى درجة ضاعت معها معالم الحياة الإسلامية وطمست آثارها.. فأصبح التغيير والإصلاح أمراً شاقاً. ومهمة عسيرة بعد أن صار الانحراف والفساد أمراً واقعاً تربّت الأجيال عليه وألِفَ المجتمع وجوده.. بحيث أصبحت الغرابة في عملية التغيير والإصلاح لا في وجود الفساد وانتشاره.. والتساؤل يثار حول من يدعو إلى هم الفساد والانحراف.. والمعارضة تتركز ضده بعد أن أصبح لهذه الأوضاع الاجتماعية الشاذّة عن الإسلام أحزاب وأنظمة ودول تحميها وتدافع عنها. وبعد أن فُرض وجودها على الأُمّة الإسلامية ليألف المجتمع تلك الأوضاع الشاذّة ويتقبلها خطوة فخطوة ومرحلة فمرحلة فيجد نفسه مخدّراً، واقعاً تحت تأثير هذه الصيغة الاجتماعية والحضارية التي تشكل محيط الحياة من حوله.. ولكن يجب أن لا ننسى أن انتشار الفساد وتسلط قوى البغي والجور وسكوت الغالبية العظمى من أبناء المسلمين لا يعني موت ضمير الأمر المسلمة.. وخمود الوعي وانغلاق أبواب التأثير والتغيير.. فكلّ من يحاول دراسة الوضع النفسي والسياسي والفكري للأُمّة الإسلامية إلّا أن يشاهد عوامل السخط والتذمّر ويسمع أصوات الرفض والاحتجاج ويلاحظ حركات التغيير والإصلاح التي تنادي بالعودة إلى الإسلام وبناء الحياة والحضارة الإنسانية على أساس منهاج الإسلام وشريعته.

وعلى الرغم من أنّ محاولات عديدة وجهود مكثفة يبذلها أعداء الإسلام من أجل امتصاص روح الوعي وتطويق منابع النور باستحداث وابتداع مبادئ ونظريات لتحل بديلاً عن الإسلام إلّا أنّ هذه المحاولات لم يكتب لها النجاح ولن تستطيع أن تملأ الفراغ النفسي والفكري والتشريعي الذي يحس به المسلمون ولا تقوى على إصلاح وتغيير الأوضاع الاجتماعية المتردية التي يعانونها.. لأنها هي بطبيعتها لا تحمل روح الإصلاح ولا تستهدف ذلك.. بل خططت لعالمنا الإسلامي وهي تستهدف إعاقة عملية تقدم الأمة الإسلامية وهدم البناء العقائدي والحضاري للمسلمين.

 

شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

لمّا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عبادية حكم الشارع المقدس بوجوبها وأدرك العقل ضرورتها لحفظ المجتمع وصيانة نظام الحياة وتحقيق خير الإنسانية.. لمّا كان الأمر كذلك وضع الإسلام الأحكام والتشريعات وبيّن المراحل المتدرجة للأمر والنهي والصلاحيات التي يتمتع بها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر.. وفيما يلي ندوِّن شروط وجوب هذه الفريضة المقدسة لنتعرف على مسؤولياتنا وواجباتنا التي فيها إصلاح الإنسانية وخيرها:

1-     يشترط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر توفر درجة من المعرفة والوعي لدى الآمر والنّاهي تمكّنه من تشخيص المنكر والمعروف وتوجيه الأفراد والجماعات الذين يعمل على إصلاحهم وهدايتهم لإبعادهم عن المنكر وحملهم أو حثّهم على الالتزام بالمعروف لذا كان من واجب الأفراد والجماعات الذين يتصدّون لهذه المهمة أن يكونوا على درجة مناسبة من التفقه والمعرفة بالثقافة الإسلامية وبأوضاع المجتمع وظروف الأفراد والجماعات.. ليتمكنوا من معرفة الأسباب والعوامل المؤثرة في صنع الفساد والانحراف ويقفوا عن وعي على الأوضاع الفكرية والسلوكية والنفسية والاجتماعية التي يريدون تغييرها.

ورد في الكافي عن الإمام الصادق (ع): "أنّه سُئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب هو على الأُمّة جميعاً؟ فقال لا. فقيل ولِمَ؟ قال: إنّما هو على القوي المطاع العالم بالمعروف من المنكر لا على الضّعفة الذين لا يهتدون سبيلاً إلى أي من أي يقول إلى الحقِّ من الباطل والدليل على ذلك هو كتابه تعالى قوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

فهذا خاص غير عام كما قال الله تعالى: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (الأعراف/ 159).

ولم يقل على أمة موسى ولا على كلِّ قوم. وهم يومئذ أمم مختلفة. والأمة تعني واحداً فصاعداً كما قال الله سبحانه: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ) (النحل/ 120).

يقول مطيعاً لله وليس على من يعلم ذلك في هذه الهدنة من حرج إذا كان لا قوّة له ولا عدد ولا طاعة".

إنّ ما ذكرناه من وجوب المعرفة بهذه الكيفية هو المعرفة التي لا يتم الإصلاح والتغيير إلّا بها. كما هي الحال في أوضاع المسلمين المعاصرين. أمّا إذا لم تتوقف عملية التغيير والإصلاح على هذه المعرفة فتكفي المعرفة الإجمالية بالمعروف والمنكر.

2-     يشترط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر احتمال التأثير، فإن لم يحتمل من واجه المنكر أو رأى تقصيراً في فعل المعروف.. فإن لم يحتمل التأثير فيمن يمارس المنكر أو يترك المعروف، وإنّ الجهود التي تبذل لا يمكن أن تثمر، فعندئذ يسقط عنه واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورد عن الإمام الصادق (ع): "إنّما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر مؤمن فيتعظ أو جاهل فيتعلم فأمّا صاحب سيف أو سوط فلا".

ويجب أن لا يغيب عن بالنا ونحن نتحدث عن احتمال التاثير والتغيير أنّ الكثير من الناس يتهربون عن أداء واجب الإصلاح والتغيير في مجتمعهم متذرعين بعدم احتمال التأثير بعد أن قصّروا في توفير الظروف والشرائط، لذا كان من واجب الإنسان المغيّر والمصطلح أن يستعرض ويفكّر في كلِّ وسيلة وأسلوب ممكن ومشروع ويجرب مدى قدرته على الإصلاح والتغيير قبل أن يحكم بعدم احتمال التأثير – إلّا إذا كان الأمر واضحاً لا يحتاج إلى تفكير، والتجربة مجازفة غير مضمونة النتائج – فليس ضرورياً أن يرتبط احتمال التأثير بأسلوب معيّن أو طريقة معينة درج عليها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.. فذهنية الناس المخاطبين بكلمة الإصلاح والتغيير وظروف وعيهم ودوافع انحرافهم تختلف من فرد إلى فرد، ومن بيئة إلى بيئة، ومن ظرف زمني إلى آخر..

لذا فإنّ تعدد الوسائل وتطوير الأساليب تُقنع المسلم باحتمال التأثير.. وتجعله يقدم على ممارسة هذه المسؤولية الإصلاحية الكبرى.

وثمة قضية أخرى تصور لكثير من المسلمين عدم جدوى الإصلاح والتغيير وتلغي إمكانية التأثير من حسابهم، وهي عروض الحالات النفسية المختلفة للشخص الذي يفكّر في النهوض بهذه المسؤولية.. كاليأس وعدم الثقة بالنفس والتهيّب من الآخرين. والشعور بعدم القدرة على التأثير بسبب ما يشاهد من تعاظم الفساد، وتعمّق الانحراف، وطغيان الظواهر والقوى الشاذة والمعادية للإسلام.. فينكص ويتراجع بعد أن يتصور الفشل وعدم احتمال التأثير تحت ضغط هذه العوامل النفسية المتخاذلة. وهكذا تشكل هاتان المشكلتان: "الأسلوب والحالة النفسية للشخص الذي يفكّر في القيام بواجب الإصلاح والتغيير" السبب الأساسي الذي يكمن وراء النكوص والتقصير في القيام بهذا الواجب الرسالي المقدس.. وهذا هو السر في سكوت الكثيرين عن انتشار الفساد الأخلاقي والثقافي والاقتصادي والسياسي، والاجتماعي والتحلّل من أداء الواجبات العبادية في صفوف المسلمين. لذا كان من واجب القائمين بعملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يقوموا بمهمة التوعية والتثقيف التي تعالج هذه الظواهر المرضية، وتقتلع جذورها، لتنمية الوعي السليم، وغرس روح العزيمة والتفاؤل التي تشد الهمم، وتقوّي إرادة التغيير، وتعبىء طاقات الأُمّة لتغيير الفساد، وبناء الحياة على أسس إسلامية سليمة والحفاظ على استمراريتها.

3-     يشترط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون الشخص الذي يوجه إليه الأمر والنهي ممن يصر على فعل المحرمات وترك الواجبات أمّا إذا كان الشخص ممن لا يصرّ على ذلك.. بل هو ممن يتوب ويتراجع من تلقاء نفسه. فإنّ ممارسة الأمر والنهي تجاهه ليس واجباً باعتبار تحقق الغرض الأساسي من عملية التوجيه بدون الحاجة إلى من يقوم بها.

4-     يشترط في وجوب القيام بعملية الإصلاح والتغيير هذه (الأمر والنهي) أن لا ينتج عنها ضرر على الشخص أو الجماعة الذين يمارسون عملية الأمر والنهي أو على غيرهم من المسلمين ضرراً يفوق النتائج الإصلاحية المتوقعة من عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أمّا إذا توقف موضوع التغيير والإصلاح على وقوع الضرر بالمال والنفس.. كالقتل والسجن والتشريد.. على القائمين به أو على غيرهم فإنّه يجب على المسلم أن يضحّي ويتقبل الأذى والضرر والمعاناة إن كان حارزاً للنتائج الإيجابية.. والمحصلة الإصلاحية..

ويجب أن ننتبه ونحن نتحدث عن تقويم نتائج (الأمر والنهي) وربط الوجوب بطبيعة النتائج التي ينتجها هذا العمل التغييري والإصلاحي.. يجب أن ننتبه إلى أنّ نتائج العمل التغييري (الأمر والنهي) ليس ضرورياً أن تكون نتائج آنية يلمسها الفرد والجماعة الذين يقومون بها بل قد تحتاج النتائج إلى كثير من الوقت لتنمو وتتفاعل مع عناصر التغيير، الإنسانية منها والموضوعية لتعطي آثارها ونتائجها.. فقد تكون عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي يقوم بها الأفراد والجماعات لا تستطيع أن تغير الأوضاع السائدة بشكل آني فتهدم الفساد، وتقتلع جذور الانحراف، وتبني الوضع الإسلامي الأصيل. ومع هذا فإنّ تضحية كبرى وضرراً بالغاً بالمال والنفس قد يلحق المصلحين والداعين إلى تغيير الأوضاع والظروف الاجتماعية والفردية المتحللة. إلّا أنّ هذا الجهد في الحساب البعيد يسلك كنواة لتحريك ركود الأُمّة، ولبعث روح اليقظة والوعي فيها.. فتكون التضحية التي لم تستطع تغيير موضوع الفساد والانحراف بذاته سبباً لتحريك وتكثيف عوامل الإصلاح والتغيير – تماماً كما كانت نهضة الإمام الحسين بن عليّ بن أبي طالب – عليهم السلام – فعندئذ يجب القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتضحية بكلِّ مستطاع لدى الإنسان من أجل الإصلاح والتغيير.. ومن أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الضلال والطواغيت هي السفلى.

 

أسلوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

يساهم الأسلوب أو طريقة إيصال الفكرة وإحداث التغيير مساهمة فعّالة في إنجاح الجهود التي يبذلها المصلحون والمغيرون..

فكلّما كان الأسلوب ناجحاً والوسيلة مقنعة، كان التأثير أكثر نجاحاً، والتغيير أعمق أثراً إذ قد يختار شخص أو جماعة أسلوباً معيناً للقيام بمهمة الإصلاح والتغيير، فلا يحققون نجاحاً، ولا يسلمون من الضرر والأذى.. في حين يقوم أفراد أو جماعة أخرى بممارسة نفس النشاط في المجال والمحيط ذاته فتحقق نجاحاً كبيراً وتنفذ أهدافها كاملة بأقل ضرر، أو بدون أن يلحقها أي ضرر أو أذى فحسن استخدام الأسلوب، وحسن استخدام الإمكانات والقابليات يوفرالجهد والوقت، فيسرع في تحقيق الأهداف وإنجاحها.. ونحن – في عصرنا الحاضر – عصر التخطيط والتنظيم والبراعة الإسلوبية ليس بوسعنا أن نقوم بعملية الإصلاح والتغيير الاجتماعي ونقاوم وسائل الفساد والغزو الحضاري المعادي للإسلام، إلّا بالأسلوب المتفوق، وبالطريقة المتقنة الفعّالة، لتكون الدعوة إلى التغيير والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائمة على أساس من الوضوح والبصيرة، وبوعي وحكمة.. عملاً بقوله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف/ 108).

(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125).

واهتداء بالحديث الشريف:

"العامل على غير بصيرة، كالسائر على غير الطريق، لا يزيده سرعة السير إلّا بعداً".

"إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم".

فلابدّ من اختيار الأسلوب المناسب، والطريقة الناضجة في عرض مفاهيم الإسلام وأفكاره، وممارسة التغيير والإصلاح، والدعوة إليه. فنحن أمام قوى معادية تستخدم الوسائل والأساليب لمقاومة الإسلام ومعاداته. فغدت تسخر الأجهزة والعقول والخبراء والمتخصصين للدعوة إلى أفكارها، وممارسة نقل وتطبيق صورة الحياة التي تؤمن بها.

والإسلام بإيضاحه المبادئ الأساسية للأساليب، وعدم تحديده لنوع معين منها، ترك الباب مفتوحاً أمام المصلح والداعية إلى الإسلام ليختار على ضوء هذه الإيضاحات ما يراه مناسباً من الوسائل والأساليب.

 

حدود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

للحياة نظامها وقوانينها التي تبتني عليها. وأهدافها وغاياتها التي تسعى إليها. ولا تنتظم مسيرة الإنسان إلّا بالالتزام بها والحفاظ عليها.. لذا كان من الواجب على الإنسان أن يلتزم بهذه القيم والمبادئ لصيانة نظام الحياة والحفاظ على نموها وازدهارها وأن يمتنع عن ممارسة الهدم والتخريب والتجاوز عليها تحت ستار الحرِّية.

وإذن فتعامل الإنسان وسلوكه داخل مجتمعه ومع نفسه يجب أن يكون بحدود الحفاظ على المبادئ وضمن إطار رعايتها. وإن إعطاء الإنسان حق التصرّف واختيار الموقف ضمن هذا الإطار هو الذي نسمّيه الحرِّية حسب مفهومها الاجتماعي السليم.

فالإنسان حرفي التفكير والتعلّم واختيار نوع العمل وموطن السكن واختيار الزوجة أو الزوج أو البلد الذي يعيش فيه أو السفر.. إلخ ما لم يخرج على الحد المقرر.. وهو فعل الواجب وترك الحرام وليس لأحد عليه سلطة، ولا يسمح القانون الإسلامي بالتدخل في شؤون الفرد الخاصة وهو يمارس الأعمال المحللة. وهكذا نخلص إلى نتيجة مهمة هي تحديد مجال الحرية الشخصية للإنسان في نطاق (الحلال).. ومن خلال ذلك نستطيع أن نكتشف العلاقة بين (الأمر والنهي والحرية) لأنّ وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محدد بحدود الواجب والحرام. وإذا خرج شخص أو جماعة على مبادئ العقيدة والقانون والأخلاق فراح يعتنق الأفكار والعقائد المنحرفة أو يمارس العمل المحرّم.. كشرب الخمر والزنا والكذب والربا والاحتكار ولعب القمار وتعاطي المخدرات.. إلخ، فعندئذ يجب على كلِّ مسلم بصورة أساسية أن يبادر إلى ردعه ونهيه عن الولوغ في هذه الأعمال المحرّمة فإن قام بعض أفراد المسلمين أو الدولة أو إحدى الهيئات أو المنظمات الاجتماعية بمقاومة هذا الحرام والفساد والمخالفة، سقط التكليف عن باقي المسلمين أمّا إذا أهمل الفساد والانحراف، ولم ينهض أحد بمكافحته، فإنّ المسؤولية تقع على كلِّ قادر علم بهذا الفساد والانحراف وسكت عنه.

لذا كان الأمر بالمعروف تكليفاً قانونياً كفائياً على الأُمّة الإسلامية لحماية المجتمع والفرد المنحرف والمخالف نفسه من آثار الجريمة والتحلل والفساد. وقد وصف الله سبحانه المؤمنين بقوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ...) (التوبة/ 71).

كما أوضح نبي الإنسانية محمد (ص) ذلك بقوله:

"لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسلّط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء".

 

مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

حددت الشريعة الإسلامية عدة مراتب يحق للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتدرج باستعمالها، لمكافحة الفساد والانحراف، وإقامة الحقّ والعدل، وتقويم السلوك وتسديد المسيرة الإنسانية، وعليه أن يختار الموقف المناسب والمرتبة التي تحقق الإصلاح والتغيير وفق مبدأ (الحكمة والالتزام) أمّا المراتب التي أعطى الشارع المقدس حق استعمالها فهي:

1-     مرتبة الإيحاء والتحسين النفسي باتخاذ الموقف النفسي السلبي الذي يشعر تارك الواجب أو فاعل الحرام بالاستنكار وعدم الرضاء. فإنّ من الناس من يملك حسّاً مرهفاً واستعداداً لتقبل التغيير بمجرد شعوره بكراهية الآخرين لمواقفه وعدم رضاهم بأفعاله.. ولا يصلح هذا الأسلوب إلّا في حالة الإصلاح الفردي، ذلك لأنّ أثره يتقلص في مجال التأثير الاجتماعي.. فليس بإمكان فرد أو أفراد أن يؤثروا على المجتمع والسلطة والمؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية باستعمال هذه الوسيلة.. ذلك لأنّ أثر هذه الوسيلة محصور تقريباً بحدود الأفراد.

2-     التوعية والتوجيه الفكري والثقافي واستعمال الكلمة والفكرة كسلاح لمقاومة المنكر، ونشر المعروف في صفوف المجتمع إذا ما فشل الموقف الأوّل. فللكلمة أثرها ودورها الذي كثيراً ما تعجز القوّة والسلطة عن تحقيقه.. فالكتابة والشعر والخطابة والتعليم والإرشاد.. عن طريق المدارس والجامعات ووسائل الإعلام والكتاب والصحيفة والمجلّة والمسرح.. إلخ كلّها وسائل فعّالة في توجيه الأفراد والجماعات وأساليب ناجحة في خدمة الإصلاح والتغيير. وقد وجّه القرآن الكريم الأنظار إلى أهمية هذه الوسيلة بقوله: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء/ 114).

3-     العزل والمقاطعة: أمّا المرحلة الثالثة فهي مرحلة العزل وفرض المقاطعة وتطويق من يمارس المنكرات.. فالسلطة الجائرة والتاجر المحتكر، والشخص المتحلل المستهين بالقيم والمبادئ الخيّرة، وشارب الخمر والمرتشي.. إلخ إذا فرضت عليه المقاطعة، وشعر بالطوق الاجتماعي ويضيِّق عليه الخناق.. فإنّه يضطر إلى التراجع أو السقوط الاجتماعي.

فالسلطة الجائرة عندما يقاطعها أبناء الأُمّة، ويرفضون التعاون معها وتنفيذ مقرراتها، أو استلام الوظائف والمناصب في أجهزتها.. تضطر إلى السقوط أو تتلافى الأمر بإصلاح أوضاعها.. وكذا التاجر والمؤسسة الاقتصادية، ومشروع الإنتاج الذي يمارس الاستغلال والجشع والأضرار بمصالح الآخرين، حينما يقاطع فلا يُشترى منه، ولا يُباع إليه، ولا يتعامل معه يضطر إلى الفشل والسقوط.. أو يعيد النظر في مواقفه فيغيّر أوضاعه وأصول تعامله. وهكذا يشكل الرأي العام سلاحاً فعّالاً في خدمة التغيير الاجتماعي وتنفيذ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. في مجال المجتمع والسلطة والمؤسسات المختلفة.

4-     استعمال العنف والقوة: أمّا المرحلة الرابعة فهي مرحلة استعمال العنف والقوة كالضرب والقوة ضد من يصرّون على فعل المحرمات وترك الواجبات، ولا يستجيبون لأي وسيلة من وسائل الإصلاح والتغيير ويتمادون في الاستمرار على هذا الانحراف والتخريب والفساد، إلّا أنّ لاستعمال هذا الأسلوب شروطاً وأحكاماً قانونية، تجب مراعاتها، والالتزام بها، وهي:

أ‌-       أعطى الإسلام الأفراد حقّ ضرب فاعل الحرام وتارك الواجب بعد فشل الأساليب المتقدمة معه على أن لا يؤدي هذا الضرب إلى الجرح أو الكسر.. فإن أدّت عملية الضرب – خطأ أو عمداً – إلى الكسر أو الجرح فعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ضمان الضرر الواقع على المتضرر، وتطبق عندئذ بحق الفاعل قوانين الجناية العمدية، أو الخطئيّة حسب ظروف الفعل.

ب‌-  للسلطة الشرعية أو من ينوب عنها حقّ القتل أو الإِذن به ضد فاعل الحرام وتارك الواجب إذا كان الأمر يستوجب تطبيق مثل هذا الحكم.. وعندئذ ليس على السلطة الشرعية أو من ينوب عنها أي ضمان أو مسؤولية.

 

صفات الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر:

شيء طبيعي أن ليس بوسع كلّ مسلم أن يكون داعية خير ناجحاً في مهمته وعنصر تغيير مؤثراً في مجتمعه ومحيط عمله، ما لم تتوفر فيه مجموعة من الخصائص والصفات.

فعلى الشخص الذي ينهض بهذه المسؤولية الكبرى ويسير على طريق الأنبياء.. عليه أن يقتدي بسلوكه وأسلوب علمه برسول الله (ص) وبالأنبياء (ع) ولعلّ أبرز صفات الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر هي:

1-     الوعي والمعرفة بالشريعة الإسلامية وبالمحيط والظروف والأوضاع الفكرية والاجتماعية التي تحيط بمجال عمله.. ليتمكن من ممارسة عملية التغيير، وانتهاج الأسلوب والطريقة المناسبة.

2-     أن يكون قدوة في الالتزام والعمل ليتأثر الناس بسلوكه وشخصيته، قبل أن يحاول إقناعهم بالكلمة والحوار.. فقد ورد في الحديث الشريف:

"كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإنّ ذلك داعية".

3-     أن يتصف بالأخلاق العالية وبالصفات النفسية السليمة كالتواضع والحكمة والصبر، والشجاعة والثقة بالنفس وقوة الإرادة وصلابة العزيمة وعدم اليأس والتشاؤم والجشع.. إلخ ليتمكن من التفاعل مع الأفراد والجماعات ويتعامل مع الأحداث والظروف بنجاح وتفوّق.

4-     أن يكون مستعداً لتحمّل تبعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موطِّناً نفسه على تقبّل كلّ ردود الفعل السلبية ضده. فالداعي إلى التغيير، والقائم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا بد وأن يلاقي المتاعب والمشاق.. ولا بدّ أن يضحّي براحته وماله ونفسه إذا تطلب الأمر ذلك.. فهذا هو طريق المصلحين، وتلك سيرة الأنبياء والداعين إلى الخير. قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد/ 31).

هذه هي أهم خصائص الرسالي الناجح الذي يمارس عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. فلا بد لكلِّ عامل في حقل الإصلاح والتغيير أن يتصف بهذه الصفات وأن تتوفر فيه هذه الإمكانات.

وقد نستطيع التأكيد في هذا المجال على أنّ الرسالة الإسلامية لم تصل إلينا بهذا المستوى الكبير من القوة والوضوح والامتداد إلاّ بفضل المواقف الرسالية التي وقفها العلماء والمجاهدون في مراحل التاريخ في دعوتهم إلى الخير ومن أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ومواجهتهم القوى الكافرة والضالّة حتى سقط منهم الشهداء في خط المسيرة الطويلة..

وهكذا يظل الإسلام دين دعوة للفكر والإيمان، وتوجيه للعمل والتطبيق في عملية توعية وانفتاح.. ولا تفلح الأمة ولا تفلح البشرية إلاّ أنْ يسود الخير وإلاّ أن يكون المعروف معروفاً، والمنكر منكراً.. وهذا ما يقتضي سلطة للخير وللمعروف تأمر وتنهي.. وتطاع. ومن ثم فلا بد من جماعة تتلاقى على هاتين الركيزتين الإيمان بالله والأخوة في الله. لتقوم على هذا الأمر العسير الشاق. بقوة الإيمان والتقوى ثم بقوة الحب والألفة، وكلتاهما ضرورة من ضرورات هذا الدور الذي ناطه الله بالجماعة المسلمة، وكلفها به هذا التكليف وجعل القيام به شريطة الفلاح. وما كانت دعوة الله سبحانه إلى تكوين (أمة) للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.. والدعوة إلى الإسلام، إلاّ لتحديد مسؤولياتهم وتعريفهم بوسائل وأساليب الأمر بالمعروف والإصلاح والتغيير، ليتمكنوا من مجابهة قوى الضلال ومناشئ الفساد والانحراف في حياة الإنسان.

 

المصدر: مجلة الثقافة الإسلامية/ العدد 41 لسنة 1992م

ارسال التعليق

Top