أ.د. محمود عباس
◄من خلق المسلم أن يحسن وداع الضيف كما أحسن إستقباله.. فإذا إستقبل ضيفه بصدر رحب، فمن حسن الخلق أن يودعه وداع الحبيب، والضيف إن أحسنت إستقباله ثمّ ودعته وداع مَن ضاق صدره بزمن الضيافة أو ودعته توديع البخيل للضيف الثقيل فقد أسأت إلى ضيفك وأسأت إلى نفسك؛ إذ لا يذكرك بخير ولا يثني عليك ثناءً مستطاباً.
وأكرم ضيف يحل بديار المسلمين هو رمضان.. فودِّعوه بأحسن النيّات، واسألوا الله أن يتقبّل منكم، وأن يكون شاهداً لكم عند ربّكم.. ودِّعوه بالرَّجاء وبحسن الدُّعاء (رَبَّنا تَقَبَّل مِنّا إنّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم) (البقرة/ 127).
والناس يختلفون في توديع رمضان، كما إختلفوا في إستقباله تبعاً لنياتهم. فمنهم مَن يودعه زمناً وسلوكاً وعملاً، فيهجر القرآن بعد أن حمل مصحفه في رمضان، ويعود إلى دائرة المتهمين في قضية الهجر لكتاب الله، وهي القضية المرفوعة من رسول الله (ص) إلى ربّه (وقالَ الرَّسولُ يا رَبِّ إنّ قَومِي اتَّخَذُوا هذا القُرآنَ مَهجُوراً) (الفرقان/ 20). ومن المسلمين مَن يودِّع رمضان فيودع معه الصلاة أو يتكاسل عنها، فلا ترى له في بيوت الله موقعاً بين القائمين والركع السجود، ومنهم مَن يودِّع رمضان فيودع معه البذل والسخاء والعطاء، وفينا مَن يودِّع رمضان بفرحة المشتاق إلى الشهوات المحرمة وكأننا نصوم إبراءً للذمّة وأداءً للواجب، فأجلنا المخالفات والممنوعات إلى ما بعد رمضان.. فإذا تهيأ الشهر للرحيل ودَّعناه بفرحة المشتاق إلى المؤجل، ويا حسرة المؤجل إن وافاه الأجل، ولم يصلح العمل، فلا تودِّعوا رمضان بنيّة المشتاق إلى المحرّم ولا بنيّة المدمن الذي أقلع عن الإدمان في رمضان، فلمّا إنقضى الشهر صاح من شدّة الفرحة:
رمضان ولّى هاتها يا ساقي/ مشتاقة تسعى إلى مشتاقِ
ولكن ودِّعوا رمضان بنيّة مَن هداه الله إلى التوبة (ثُمَّ تابَ عَلَيهِم لِيَتُوبُوا إنّ اللهَ هوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (التوبة/ 118).. ودِّعوا رمضان كما يودِّعه الكون كلّه.. يودِّعه الكون الذي إستضاء بأنوار الشهر الكريم.. تودِّعه السماء التي نزل منها جبريل بوحي الله في رمضان.. تودِّعه الأرض التي إستقبلت النبأ العظيم في رمضان.. يودِّعه الليل والنهار فيبكيه ليل القائمين ونهار الصائمين.. يودِّعه المؤمنون بلوعة المشتاق إلى عودة الحبيب وفي قلوبهم حنين وعلى ألسنتهم دعاء يتضرّعون به إلى مَن يملك الآجال "أللهم بلغنا رمضان"، وقد آذن الشهر الكريم لكم فيما بقي من أيامه وساعاته (ولِتُكمِلُوا العِدَّةَ ولِتُكَبِّرُوا اللهَ على ما هَداكُم ولَعَلَّكُم تَشكُرُونَ) (البقرة/ 185).
مَنْ عرف ماذا يعني رمضان لأُمّة الإسلام، فلا تلمه إذا ودَّعه بالدموع كما يودِّع الحبيب حبيبه المفارق. فكم من حبيب ودَّعناه والعيون تنهمر لأنّنا لا ندري متى أو كيف نلقاه؟ وكم من أناس ودَّعوا رمضان وهم يردِّدون "أللهم بلغنا رمضان" ولكن فات الأجل ومات الأمل تحت التراب؟
ونحن اليوم رجالاً ونساء، صغاراً وكباراً، نودِّع رمضان والله يعلم هل يتحقق الأمل في لقاء جديد، وهلال يعود أم يوافينا الأجل فلا نبدئ ولا نعيد (وجاءَت سَكرَةُ المَوتِ بِالحَقِّ ذلكَ ما كُنتَ مِنهُ تَحِيدُ) (ق/ 19).. فالمسلم الذي يودِّع رمضان بهذا الإعتقاد هو المسلم الذي يحب لقاء الله بأخلاق رمضان ومكاسب رمضان وبالمهارات الإيمانية التي حصلها في رمضان.. فعسى أن نلقى الله في أي شهر من الشهور بأخلاق رمضان.. سماحة في السلوك، وأدباً في المقال، وسخاء في النفس.. ودِّعوه ولا تودِّعوا موائد الرحمن ولا إطعام الطعام وإفشاء السلام.
ودِّعوه ولا تودِّعوا إجتماعكم في بيوتكم على طعام واحد ومائدة واحدة، وتلك فضيلة لا تعرفها البيوت إلا في الشهر الكريم.. فإذا رحل عنّا تفرّقنا فلا بركة في طعام أو شراب.. قيل: يا رسول الله إنّا نأكل ولا نشبع، فقال (ص): "فلعلّكم تفترقون" (أي تأكلون فرادى ومتفرقين)، قالوا: نعم، قال (ص): "فاجتمعوا على طعامكم، وإذكروا إسم الله عليه يبارك لكم فيه"[1].
أكبر خسارة أن نودِّع رمضان فنودِّع معه زمن الطاعات، فلا نرى الأفواج الزاحفة إلى منازل الهدى والرحمة (في بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أن تُرفَعَ ويُذكَرَ فِيها اسمُهُ) (النور/ 36).. لا تهجروا مجالس العلم في غير رمضان، واجعلوا القرآن كما كان لكم في رمضان روحاً وريحاناً ونوراً وبرهاناً (يَهدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) (المائدة/ 16).. لا تودِّع رمضان وداع المستهين بعطاءات الله، فما نعمله من خيرات رمضان وعطاءات الله فيه أقل بكثير مما أخافه الله علينا. وهذا ما يشير إليه المصطفى (ص) في قوله: "لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنَّت أُمّتي أن تكون السنة كلُّها رمضان"[2].
ومَن يدري فلعلك – أيُّها الصائم – قد سُجلت في سجل الفائزين بالجنّة في رمضان فاحرص على هذا الفوز العظيم، وكن رمضاني السلوك والخلق في غير رمضان. فلا تودِّع شهر وداع الشامتين، بل ودِّعه وداع مَن تخرَّج في جامعة القرآن والصيام ولسان حالك ومقالك يتضرّع إلى الله بهذا الدعاء (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعدَ إذ هَدَيتَنَا وهَب لَنا مِن لَدُنكَ رَحمَةً إنّكَ أنتَ الوَهَّابُ) (آل عمران/ 8).►
[1] - أخرجه أبو داود (3/ 346)، برقم (3764) من حديث وحشي بن حرب.
[2] - أخرجه أبو يعلى في مسنده (9/ 180)، برقم (5273) من حديث ابن مسعود.
ارسال التعليق