• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العقل والمجتمع

د. هاني عبدالرّحمن مكروم

العقل والمجتمع

حركة المجتمع هي مجموع (محصلة) نشاطات أفراده، للأمام أو للخلف، لأعلى أو لأسفل. والإنسان المتواضع العقل والعزيمة يحاول – بتلقائية واستسلام – أن يتشكل بشكل المجتمع الذي يعيش فيه. وهذا النوع من السلوك الحرباوي – نسبة إلى الحرباء – لا يُنتظر منه تطوير أو نهوض، بل هو أقرب إلى الهبوط، وبمثل هذا السلوك ترسخت العادات والتقاليد. ومثل هذا الصنف من الناس ينتظر تغير المجتمع ثمّ يغير سلوكه بعد ذلك؛ ليتأقلم مع الواقع الجديد. والخطورة في ذلك أنّ هذا الصنف من الناس يمثل الغالبية العظمى من المجتمع، يُحسن إن أحسن الناس، ويسئ إن أساءوا، وهذا هو نموذج الإمعة.

العقل المريض يسبب العدوى لمن حوله، والمجتمع المريض يُمرض عقول أبنائه، في تبادل تلقائي استطراقي وطبيعي عند الدهماء. ما أسرع انتقال العدوى وما أطول مراحل الشعور بأعراض الداء وتشخيصه والسيطرة على أسبابه، والبحث عن الدواء ثمّ الصبر عليه أملا في الشفاء. إنها سلسلة طويلة إن صدق العزم، ومستحيلة النجاح إنّ غرقت في الكذب وألاعيب السياسة. والمجتمع المريض لا يمكن أن ينهض قبل تشخيص الداء والالتزام بأصول العلاج. وأغلب أمراض المجتمع – إن لم تكن كلها – هي في الأساس صناعة بشرية فاسدة بسبب البضائع المسمومة والأساليب المغلوطة.

وأغلب الأخطاء ترجع إلى مفاهيم خاطئة غُرست فينا بقصد أو بدون قصد. فحسب النشأة التقليدية تجد العواطف غالبة على العقول، وتجد الذاتية غالبية على الموضوعية؛ بسبب تورم الذات (الأنا) وتهميش حقيقة الموضوع. هكذا تربى الكثيرون، وما أكثر الأمثلة الدالة على ذلك في الدول والمؤسسات المتخلفة، فترى الخلط السائد بين شخصية الحاكم والدولة، فالنقد العام يحتسب كأنّه نقد لذات الحاكم! ومناقشة سلبيات المؤسسة يحتسب كأنّه هجوم موجه لشخص سعادة المدير!

وفي الماضي كانت مهمة العلماء والدعاة هي قيادة فكر المجتمع نحو الأفضل، أما اليوم فقد ضاقت فرصة أهل الفكر النزيه في توجيه المجتمع، وأصبحت الأجهزة القاسية هي صاحبة الصوت العالي، والإمكانات العضلية المتوحشة هي المسيطرة على جسد المجتمع وتفترس عقله. وهذا لا ينفي ولا يلغي دور العلماء لكن فقط صَعّب مهمتهم ما داموا لم يُمكنوا من وسائل السيطرة والتأثير التي تحتكرها السلطة، أو على الأقل من أن يُسمع رأيهم. وواجب على أولى الأمر أن يسمعوا للعلماء؛ لأنّ الأجهزة الحاكمة – في العادة – تتعامل بصرامة وشدة للضرب على يد الخارجيين على النظام والمناوئين له؛ خشية أن تفلت الأمور من أيديهم، ولذلك يلاحظ فيهم العصبية الزائدة وقصر النظر والمبالغة وسرعة نفاد الصبر في تصرفات أغلبهم. وفي العادة فإنّ توفر السلطة يغري باستخدامها ويكون كلّ ذلك على حساب التقييم العقلي للأمور.

أمّا العلماء وأصحاب الفكر الراقي فهم أهدأ أعصاباً وأكثر حياداً وأبعد نظراً وأعمق تفكيراً، ولذلك تجدهم أقل ذاتية وأكثر موضوعية من غيرهم، ولديهم الفرصة الأفضل للتفكير والتحليل واستنتاج الحل الأفضل، وهم ليسوا طرفاً في الصراعات المادية، ولا أصحاب مصلحة ولذلك فهم أقرب إلى الحكمة، ومن مصلحة الحاكم الواعي ومصلحة المجتمع أن يسمع لرأيهم؛ فهذا هو أهم أدوارهم، نحو مجتمعاتهم، وسيسألون عنه أمام ربهم.

 

المصدر: كتاب العقل تنظيمه وإدارته

ارسال التعليق

Top