لكلّ عقيدة دينية أو غير دينية، ولكلّ فلسفة من الفلسفات، نظرة محدودة إلى المال والعمل والإنتاج، وكلّ عقيدة وفلسفة تضع هذه الأشياء الاقتصادية في موقع معيّن في نظام القيم الذي تتخذه وتدعو إليه، أو بتعبير آخر: إنّ كلّ واحدة منها تُقَوِّم المال والعمل والإنتاج تقويماً خاصاً بها، وينتج عن ذلك: أنّ العقائد والفلسفات المختلفة ينشأ عنها أنظمة اقتصادية مختلفة، وأنّ وراء أي نظام اقتصادي فلسفة يقوم عليها، ويستمد مفاهيمه منها وينسجم معها.
فالمذاهب الروحية البحتة ترى في العمل عقوبة إلهية في الحياة الدنيا، كما ترى متعها أمراً مذموماً في الأصل، وتجعل المُثل الأعلى للإنسان أن يتخلى على اللذائذ الدنيوية كلّها، وعن الحياة الاجتماعية، ليصل - على زعمها - إلى الله ويتحد معه.
بينما المذاهب المادّية البحتة في مقابل ذلك ترى في الإنتاج هدف الحياة، وفي المادّة أصل الوجود. فالإنتاج والاستهلاك محور الحياة الإنسانية ومنطلقها الأساسي.
وهكذا فلكلّ نظرة من هذه النظرات أثرها الذي ينعكس على الحياة الاقتصادية تنشيطاً أو تعويقاً، ورعاية أو إهمالاً وتضييعاً.
إنّ البحث في الموقف العقائدي أو الفلسفي من عناصر النشاط الاقتصادي هام جدّاً، لأنّ هذا الموقف هو الذي ولّد الدوافع القوية الإيجابية أو السلبية بالنسبة للعمل والإنتاج، والنشاط الاقتصادي، وهو الذي يحدد أهداف النشاط الاقتصادي، فتكون أخلاقية أو لا أخلاقية، فتولّد عن ذلك نتائج اقتصادية هامة.
وعلى هذا يجب أن نبحث عن موقف الإسلام أوّلاً من مظاهر النشاط الاقتصادي: كالإنتاج والعمل والاستثمار والاستهلاك، وأن نعرف موقع هذه المظاهر والعناصر من نظرة الإسلام العامّة إلى الوجود وتقويمه لها، قبل أن نعرف تشريعات الإسلام في العلاقات الاقتصادية في هذا المجال.
والأسس العقائدية التي يقوم عليها النظام الاقتصادي في الإسلام هي كما يبدو لنا:
أوّلاً- الإنسان خليفة الله في أرضه:
يقرر الإسلام أنّ الإنسان بوجه عام مستخلف من الله في هذه الأرض، لعمارتها واستثمار خيراتها، سلطة الله عليها، فأعطاه القدرة على تسخيرها وتسخير سائر الكون لمنافعه، بما وهبه من الحواس والقدرات والعقل، وسائر الصفات الجسمية والعقلية التي تجعله أهلاً لذلك، على تفاوت بين أفراد البشر. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تفيد هذا المعنى:
كقوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة/ 30).
وقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) (الأنعام/ 165).
وفي الحديث: عن أبي سعيد الخدري (رض)، عن النبيّ (ص) قال: "إنّ الدنيا حلوة خضرة، وإنّ الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون".
ثانياً- تسخير ما في الكون للإنسان:
يقرر الإسلام أنّ الأرض خاصّة والكون وما فيه عامّة، مسخّر للإنسان ومذلل له، ليتمكّن من تحقيق هذا الاستخلاف. ويعبّر القرآن عن هذه الفكرة في آيات كثيرة، منها:
قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك/ 15).
(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً...) (لقمان/ 20).
ونرى بالإضافة إلى هذه الآيات التي يرد فيها التسخير عامّة آيات أخرى كثيرة، تشير إلى استفادة الإنسان مما خلقه الله من الأنعام والدواب والماء والنبات، ومن الظاهرات الكونية كالليل والنهار.
قال تعالى: (خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) (النحل/ 4-5).
وقال سبحانه: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (النحل/ 10-12).
ثالثاً- خيرات الدنيا رزق طيِّب ومتعة مباحة:
إنّ تسخير الأرض والكون للإنسان، واستخلاف الله له في الأرض، يقتضيان انتفاع الإنسان بما خلق الله في الكون، واستثماره لما في الأرض من خيرات وثمرات، على أنّها رزق طيِّب مَنَّ الله تعالى به على الإنسان، ومتعة مباحة أحل الله تعالى تعاطيها والتمتع بها، ولذلك أطلق القرآن على هذه المنافع لفظ (الطَّيِّباتِ) في آيات كثيرة، كقوله تعالى: (وَرَزَقْناهُم مِنَ الطَّيِّباتِ) (يونس/ 93) (الإسراء/ 70) (الجاثية/ 16). وقوله تعالى: (وَرَزَقَكُم مِنَ الطَّيِّباتِ) (الأنفال/ 62) (النحل/ 72) (المؤمنون/ 64). وسمّى العمل والسعي لتحصيلها ابتغاءً من فضل الله، كما في سورة الجمعة (10) والمزمل (20).
ولذلك يكون السعي في طلب الرزق، واستثمار ما خلق الله في الكون والانتفاع به، أمراً مستحسناً، بل امتثالاً لأمر الله، واستفادة من نِعَمه المعروضة، والإعراض عنها انحرافاً وشذوذاً. قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف/ 32).
وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة/ 168).
وهذا ما تشير إليه كذلك الآية الواردة في قصّة خلق آدم وهبوطه إلى الأرض (وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (البقرة/ 36). فإنّ كلمتي مستقر ومتاع تدلان على وصف حياة الإنسان الدنيوية بشيء من الاستقرار والمتاع المحدودين، ولكن في حدود زمنية محدودة (إلى حينٍ).
وبذلك تضع هذه الآية الفاصل الواضح بين موقف الإسلام وموقف المذاهب الروحية الخالصة، التي تنكر الحياة الدنيوية إنكاراً تاماً، وتعرض عنها إعراضاً كاملاً.
كما تضع الفاصل بينه وبين المذاهب المادّية التي ترى في الحياة الدنيوية الاستقرار الكامل والمتاع المطلق، فليس عندهم حياة أخرى وراءها، فهي عندهم المستقر والمتاع.
رابعاً- خيرات الدنيا والتمتع بها وسيلة لا غاية:
إنّ السعي في طلب الرزق والانتفاع بما خلق الله تعالى في الأرض والكون، أو بعبارة أخرى: إنّ النشاط الاقتصادي - عملاً وإنتاجاً واستثماراً واستهلاكاً - ليس غاية في ذاته في النظرة الإسلامية، بل هو وسيلة ضرورية تقتضيها طبيعة الإنسان وفطرته التي فطره الله عليها.
فالإنسان جسم مخلوق من تراب لابدّ من تغذيته، وهو من هذه الناحية أيضاً حيوان ذو غرائز، محتاج إلى الطعام والشراب، بل إلى ما لا يحتاج إليه الحيوان من لباس ومسكن، وقادر على الاستفادة من أنواع من المنافع والتمتع بضروب من المتع، أعلى وأوسع وأكثر تنويعاً مما عليه الحيوان.
فتحصل ذلك كلّه بالنسبة إلى الإنسان هو من قبيل الضروريات التي لابدّ منها، أو الاحتياجات المطلوبة، أو الكماليات المرغوب فيها.
والمهم في الإسلام أن يرى الإنسان في هذا النشاط الاقتصادي سعياً وكسباً، أو انتفاعاً واستثماراً، وسيلة لا غاية، فالغاية وراء ذلك هي إرضاء الله عزّوجلّ بعمل الخير، وبشكره على نِعَمه، ومراعاة حقوقه وحقوق عباده، والسعي في نفعهم ومعونتهم.
قال الله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص/ 77).
كما ذمَّ القرآن الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، فكنزهم للمال دليل على أنّهم اتخذوا المال غاية لذاته.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة/ 34).
خامساً- خلافة الإنسان عامّة:
إنّ استخلاف الله للإنسان في الأرض عام في بني البشر، لا يختص بفريق، فالناس كلّهم عباد الله، وتسخير الأرض وسائر الكون لهم جميعاً كذلك دون تخصيص، ولكن كلّ فرد يقوم بأمانة الاستخلاف، ويستفيد من تسخير الكون لمنافعه بقدر استطاعته وحسب قدرته، ويُحسن أداء هذه الأمانة فيقوم بحقوقها، أو لا يؤديها ولا يقوم بحقوقها، ويخون الأمانة، هذه الأمانة التي ذكرها الله عزّوجلّ بقوله: (إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) (الأحزاب/ 72)، أي إنّ تقصيره في أدائها دليل ظلمه وعنوان جهله.
سادساً- لا امتياز بالمال ولا نقص بالفقدان:
إنّ ما يقتنيه الإنسان نتيجة لكسبه من مال لا يعطي صاحبه امتيازاً خاصاً، كما لا يلحق به فقدان المال - أو الفقر - غضاضة، ولا ينقص شيئاً من حقوقه الإنسانية والاجتماعية فليس للأغنياء - باعتبارهم أغنياء فقط - أي امتياز أو حقّ زائد على غيرهم، ولا ينقص الفقر صاحبه حقّاً من حقوقه.
روى البخاري عن سهل بن سعد (رض) قال: مرَّ رجل على رسول الله (ص) فقال: "ما تقولون في هذا". قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع، ثمّ سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين: فقال: "ما تقولون في هذا". قالوا: حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يستمع. فقال رسول الله (ص): "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا".
وهكذا، وبهذا الأسلوب الحكيم، يعلم رسول الله (ص) أصحابه الفكر الإسلامي السليم، ونظرته إلى الإنسان وما يعلو به أو يخفضه، فيسألهم عن شخص مرَّ بهم ضعيف في دينه وخلقه وتقواه، ولكنّه غني بماله وجاهه وشخصه، وآخر غني في دينه وخلقه وتقواه، فقير في ماله ودنياه، فيجيبونه حسب ما تعارفوه من نظرات الناس وماقييسهم، فيصحح لم اعتباراتهم، ويقرر لهم الموازين القسط العادلة، التي قررها القرآن إذ يقول: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13). كما أكدها رسول الله (ص) إذ قال: "إنّ الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم - وفي رواية: لا ينظر إلى صوركم وأموالكم - ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
سابعاً- المسؤولية الشخصية:
يتحمّل كلّ إنسان نتيجة عمله ونشاطه، وهو المسؤول عنه مسؤولية دنيوية بالنسبة لغيره من الناس، ومسؤولية آخروية أمام الله عزّوجلّ.
فالمسؤولية الدنيوية أو الحقوقية تحددها أحكام الشريعة، سواء أكانت مسؤولية مدنية - في الاصطلاح الحقوقي الحديث - أم مسؤولية جزائية، فحقوق البائع والمشتري، والراهن والمرتهن، والمؤجر والمستأجر، الدائن والمدين، والشريك المضارب وصاحب المال، محدودة في الفقه الإسلامي المأخوذ - أو: المستنبط - من الكتاب والسُّنة.
وكذلك عقوبة السارق، والمتسبب لإضرار غيره، كلّ هذا وأمثاله تتحدد فيه المسؤولية المالية والجزائية في الأحوال الجنائية.
ولكن وراء هذه المسؤولية الدنيوية مسؤولية عُظمى أمام الله الخالق المهيمن في الحياة الآخرة التي يؤمن بها المسلم، فيستشعر في ضميره رقابة الله له، ويخشى عقوبته وحسابه.
قال الله تعالى: (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الأنعام/ 164).
وقال: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة/ 105).
المصدر: كتاب نظام الإسلام في العقيدة والأخلاق والتشريع
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق