• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الأديب الإسلامي والانتماء

علي المؤمن

الأديب الإسلامي والانتماء

أين تكمن إشكالية الأدب الاسلامي؟ في إنتاجه، في انتمائه أم في انفتاحه، أم في أصل التسمية؟ فتحديد مكمن الإشكالية، سيضعنا على بداية الطريق، ويوضح اتجاه الموضوع.
الحقيقة أنّ أصل الإشكالية ليس في الانتماء أو الانفتاح نفسيهما، إذ ليس هناك تقاطع بين انتماء الأديب الاسلامي وانفتاحه، فلا إشكالية. الإشكالية تكمن في المساحة التي يتحرك فيها الأديب الاسلامي بين انتمائه لمنظومة التصور الكوني التي يتبناها (الآيديولوجية الإسلامية)، وانفتاحه على الآخر، لأنّ الانفتاح في أطره المتوازنة لا يلغي الانتماء.
وللوصول إلى لب الإشكالية وتفصيلها، وإلى فهم مشترك، لابد للكلمة هنا من تحديد مفهومها ومعانيها للمصطلحات والألفاظ التي احتواها العنوان.
أول ما يواجهنا اصطلاح (الأديب الاسلامي)، وهنا تقفز إلى الأذهان الثنائية القديمة: أديب مسلم أم أديب إسلامي؟ ومرد الجدل هو (المسلم) الذي ينتسب إلى الإسلام بالاسم، و(الإسلامي) الذي يتبنى الإسلام مشروعاً لقيادة الحياة. وهو جدل ـ كما قلنا ـ قديم، تعرض له حتى الأجانب والمستشرقون، ولا نريد الخوض فيه هنا ولكن الذي لاشك فيه أن بين الاثنين اختلافاً مفهومياً واضحاً.
إلى جانب ذلك، هناك قيد (الإسلامي) إلى جانب (الأديب)، وهذا القيد له دلالات عقيدية وفكرية، فـ(الإسلامي) إطار يحدد اتجاه الأديب ورؤيته للحياة والكون، ويضع لإنتاجه الأدبي أسساً وقواعد مضمونية وشكلية نابعة من أصل العقيدة الإسلامية.
أما المعنى بالانفتاح والانتماء، فهو الأديب الإسلامي، وليس الأدب الإسلامي، لأنّ الأدب الإسلامي هو المدرسة وهو الانتماء، ويبقى على الأديب أن يحدد موقفه من هذا الانتماء، وموقفه من المدارس الأخرى. وتبقى جدلية مَن هو المعيار في تحديد الانتماء، أي مَن ينتمي إلى مَن؟ الأديب إلى الأدب أم الأدب إلى الأديب؟
في المدارس الأدبية الأخرى، لا شك أنّ المدرسة تنتمي إلى مؤسساتها وصانعها الأديب، ثم ينتمي الأتباع الأدباء إلى المدرسة. ولكن في المدرسة الإسلامية، النظرية لا يصنعها الأديب وحده، لأنّ فيها أبعاداً واسعة ـ عقائدية وشرعية وفكرية وفنية ـ لا يدخل كثير منها في اختصاص الأديب. فالنظرية الأدبية الاسلامية يتضافر على تأسيسها وتحديد معالمها ومساراتها المختلفة كل من الفقيه والمفكر والأديب معاً. وفي النتيجة يكون الأدب الإسلامي هو معيار الانتماء والالتزام، وليس الأديب، فإذا التزم الأخير في إنتاجه الأدبي ـ وليس في التزامه النظري والسلوكي العام ـ بنظرية الأدب الإسلامي، فإنّه يكون أديباً إسلامياً.
وهنا يقفز إلى الأذهان السؤال التالي: ماذا يعني أن يكون الأدب إسلامياً؟ فهل يكون مثلاً:
1 ـ منتجه إسلامياً (الأديب)؟
2 ـ يحتوي على تعبيرات ومظاهر إسلامية، أو تعابير ومظاهر تتوافق مع التصور الإسلامي (الشكل)؟
3 ـ يكون ذا مضامين إسلامية أو مضامين تلتقي بالتصور الإسلامي (المحتوى)؟
4 ـ يخدم أهدافاً إسلامية (التأثير)؟
لا نخالف أصحاب الاهتمام في هذا المجال، والذين يجمعون على أنّ الأساس الرابع هو الأهم، مع الالتزام بالأساسين الثاني والثالث دون الأول. وهنا يعني الأدب الإسلامي، الأسلوب الأدبي – الفني الذي يُعبَّر من خلاله عن الأهداف الإسلامية ويؤدي دوره المطلوب في إطار عملية التأثير على العقول والضمائر والمشاعر.
ولعل جزءاً من هذا يعني أنّ الانتساب الديني للأديب لا أثر له هنا، فقد يكون الأديب غير مسلم، ولكن له نتاجات أدبية إسلامياً، مثلاً جورج جرداق وبولس سلامة وعبد المسيح الانطاكي، هؤلاء نصارى، ولكن بعض نتاجاتهم تمثل أدباً إسلامياً يخضع للأسس والمعايير الدينية من حيث الشكل والمضمون والتأثير. وعلى العكس من ذلك حينما يصدر عن الأديب.. حتى ذلك المنتمي انتماءً عقائدياً متكاملاً إلى الإسلام، أدب لا يخضع للشروط الشرعية والعقائدية، فذلك أدب غير إسلامي قطعاً.
و(الانتماء) المراد به هنا، تبني الأديب للإسلام نهجاً يقود الحياة، أولاً، وتبني الأديب نظرية الأدب الاسلامي بصيغها العقائدية والشرعية، ثانياً. ويظهر هنا لونان من الانتماء يكمل أحدهما الآخر:
الأول: انتماء الأديب نفسه.
الثاني: انتماء الناتج الأدبي.
وهنا نعود إلى القول إلى أنّ ملاك التصنيف إلى أدب إسلامي أو غير إسلامي ليس شخص الأديب، إنما النتاج الأدبي نفسه. فيكون المراد بالانتماء هو الثاني، مع أخذ الأول بنظر الاعتبار، لمدخليته النفسية في تقبل المتلقي للنتاج الأدبي، ولا سيما في مجال التأثير وتحقيق الأهداف.
أما علاقة الانتماء بـ(الالتزام) والفرق بينهما، فالمرجح إنهما وجهان لعملة واحدة، فلا فارق بينهما في الجانب الاصطلاحي، ولكن من الناحية المفهومية، قد يقول بعضهم انّ الانتماء يعني انتماء الأديب للنظرية الإسلامية بالكامل، وانّه أصبح جزءاً منها، في حين أنّ الالتزام قد يعني التزام الأديب بالنظرية؛ لظرف معيّن، دون أن ينتمي إليها ويندك بها. وهذا القول على ما يطرح من تفصيلات، لا يعطي خصوصية للانتماء على حساب الالتزام.
المقدمة الأخرى التي توصلنا بهذه الإشكالية، الوقوف على قضية الأدب. ولا نريد هنا ـ أيضاً ـ تكرار الإشكاليات والمقولات والتساؤلات التي بقيت محل حوار ونقاش بين مختلف الاتجاهات: لمن الأدب أو الفن؟ للإنسان، للحياة، للأدب أو الفن، أم لشيء آخر؟ فهذه التساؤلات أُشبعت بحثاً، وأجاب عنها كل اتجاه ـ بما فيها النظرية الإسلامية ـ على وفق تصوره للحياة. ولكن نشير إلى بعض الملاحظات التي تقف على هامش هذه الإشكالية.
قضية الأدب ـ عموماً ـ جزء من قضية الثقافة (بمعناه الواسع).. ثقافة مجتمع ما، فمحتوى الأدب وشكله تفرضانه البيئة الثقافية للمجتمع ـ عادة ـ أي أنّه نابع من ثقافة المجتمع وبيئة الأديب، وبالنتيجة يدخل في المضمون الثقافي.
رغم هذا، فانّ المدارس الوضعية الأدبية تعتبر ـ كما يذهب زكريا إبراهيم ـ انّ الأدب مجرد مهارة فنية في تصوير الجمال وإرضاء الحس الباطني لدى الإنسان، دون وجود هدف معين أو منفعة أخرى، سوى المتعة الجمالية. أي انّه (صياغة فنية لتجربة بشرية). وبهذا فهي تنظر للأدب كقضية وجدانية صرفة لا مدخلية للانتماء العقيدي والفكري فيها. وهذا ما يدفعنا للحديث عن مفهوم الأدب المنتمي والأدب المؤدلج والأدب المستقل والثقافة المستقلة..
ابتداءً نتساءل: هل هناك أدب مستقل.. أدب محض.. يعمل للأدب فقط؟ ويعتبره مجرد إبداع، ولحظة وحي مجردة وتجربة وجدانية صرفة وخالية من أي مضمون؟ أي انّه تداعٍ ذهني ونفسي ذاتي لا يتدخل فيه أي عنصر خارجي، وخاصة الآيديولوجيا! قد تكون هناك ادعاءات تجعل الأدب قضية مستقلة وحرة للغاية بعيداً عن أي التزام أو انتماء، وتطلق على نفسها مدرسة الأدب للأدب أو الفن للفن. والمنسوبون لهذه المدرسة هم ملتزمون ومنتمون قطعاً.. منتمون لمدرستهم، التي تشكل ـ أيضاً تصوراً معيناً للحياة وذات مضامين أدبية محددة. وبالتالي فهي أقرب للمعتقد.
وربما يعتبر بعضهم أنّ العمل الأدبي لا علاقة له بسلوك الإنسان الأدبي وآيديولوجيته، لأنّ السلوك والآيديولوجيا عمليتان خاضعتان لحسابات كامنة في شعور الإنسان، أي خارج تداعياته الذهنية ولحظات انفعالاته النفسية، وبالتالي يكون السلوك الخارجي للإنسان (فكره وعمله) خاضعاً لمنطق الحظر والمنع آيديولوجيا، أما الإنتاج الأدبي فهو لحظة انعفال نفسي لا علاقة لها بأي منطق خارجها، وبالتالي فهي لا تخضع لذلك المنطق. وهذا خلاف ما أثبتته حقائق الأدب والإنسان. فكل الأدباء ملتزمون ومنتمون، ولا وجود لأديب غير منتم وغير ملتزم.. حتى في المفهوم غير الإسلامي للانتماء والالتزام. فالروائي الأمريكي (نورمان مالر) يعرف الالتزام بأنّه (بمثابة طوق النجاة في خضم القيم المتصادمة في عالم اليوم.. صداماً أفضى إلى الفوضى). فالالتزام ـ حسب مالر ـ هو الارتباط بشيء آخر خارج الذات والعمل في إطار ضوابطه، لتجنب العبث والفوضى. فعدم الالتزام والانتماء يعني الفوضى والعبث.
وإذا كنّا قد اعتبرنا الأدب جزءاً من قضية الثقافة، فهل هناك ثقافة لا منتمية أو فكر لا منتم أو تيار اجتماعي لا منتم؟ إنّ الثقافة اللامنتمية خرافة، لأنّها هي الانتماء.. الانتماء لمجتمع.. لتيار اجتماع. وإذا صح أن توجد ثقافة غير منتمية، صح أن يكون هناك أدب غير منتم.. غير مؤدلج، وعلوم إنسانية واجتماعية لا مؤدلجة، وفن لا مؤدلج، وصولاً إلى الرياضة والموسيقى! ومهما كان الأديب متمرداً على ثقافة مجتمعه أو بيئته الخاصة، أو كان منتمياً إليها، فانّ هذه الثقافة تلقي بظلالها عليه، فيكون نتاج الأديب متأثراً سلباً أ و إيجاباً بهذه الثقافة.
حتى طبقة (الانتلجنتسيا) التي تحاول أن تطرح نفسها طبقة غير منظمة تتكون من أفراد غير منتمين، فهي منتمية أيضاً، منتمية للانتلجنتسيا نفسها، التي تحولت بدورها إلى تيار فكري واجتماعي، قاعدته النقد ثم النقد، والنقد من أجل النقد، بهدف التغيير وايجاد التحول في المجتمع. وعلى العموم التصور الإسلامي وحقائق المجتمع الإسلامي تحول دون تشكيل طبقة (انتلجنتسيا إسلامية)، بينهم أدباء إسلاميون انتلجنتسيون، لأنّ المثقف الإسلامي منتمٍ وعضوي ويهدف إلى التغيير والبناء في إطار التصور الإسلامي، ولا يهدف إلى النقد المجرد، بعيداً عن أي انتماء بمعناه العام والخاص.
إنّ القومية والوطنية ـ كما يطرحونها ـ آيديولوجيتان، وعمل الإنسان لهما.. فكراً.. أدباً.. فناً، هو عمل آيديولوجي، ومدارس الفن والأدب مؤدلجة أيضاً. فإن تكن الثقافة للثقافة والأدب للأدب، فهي كينونة مستحيلة. والمدافعون عن تيار اللاانتماء يتلاعبون بالألفاظ فقط.
في المدرسة الإسلامية ـ وهو ما يعنينا ـ ليس هناك استقلال للثقافة والأدب والفن عن العقيدة، فالعقيدة الإسلامية هي المنطلق، وهي التي تحدد للمثقف والفنان والأديب أهدافهم.. المراد تحقيقها من الإنسان.. الخليفة، من خلال وجوده على الأرض، والمتمثل في معرفة الله في الدعوة لله.. ولدين الله.. ثم لتعبيد الإنسان لله تعالى. فكيف يمكن للمسلم العقائدي في فكره وسلوكه، أن يكون غير عقائدي في نتاجه، مهما كان نوع هذا النتاج فنياً أو أدبياً أو ثقافياً؟
والمنهج الإسلامي في النقد الأدبي لا يمكن ـ هو الآخر ـ أن يبقى فنياً وحسب، بل لابد أن يُخضع المادة الأدبية لحسابات الدلالة والمضمون، وليس للجانب الفني وحسب، أي دراسة النص وصوره ودلالاته الفنية دراسة علمية محضة. فحين يخضع النص للمعيار العقائدي. في الدلالة أو المضمون حينها يكون النقد الأدبي عقائدياً أيضاً.
ومن كل ذلك نستخلص بأنّ الأدب لا يقف على الحياد بين الدين واللادين. بل يفرض التصور الإسلامي (الديني) أن يكون الأدب الإسلامي خاضعاً له تماماً، شكلاً، مضموناً وهدفاً، إلى الحد الذي يتحول فيه الأدب الإسلامي إلى وسيلة من وسائل الدين. وككل القضايا التي للدين رأي فيها، فانّ للدين رأياً محدداً في الإنتاج الأدبي، ويتدخل في محتواه وشكله وتأثيراته، ولا يترك للأديب حرية التعبير المطلق عن كوامنه النفسية.وإذا كان الله (تعالى) يصرح في أكثر من آية قرآنية بأنّ الانسان مسؤول عن استخدام حواسه (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) (الإسراء/36) وانّه سيوقف ويحاسب عليها (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) (الصافات/24)، ويكون لكل كلمة مدخلية في احتساب الثواب والعقاب. فهل يستثنى الفنان والشاعر والأديب من ذلك، بحجة أنّ ما يقوله صادر من لحظة انفعال وجدانية، وإنّها مجرد تعبيرات وصور جمالية فنية، أي مجرد تعبيرات هدفها التصوير الفني وحسب، فلا تدخل ـ آنذاك ـ في اطار المنع والحظر الشرعي والعقيدي؟!
وإذا وقفنا على حقيقة أهداف الإسلام، وتحديداً بعدها الإنساني، فسنرى إنها تتلخص في تنظيم حياة الإنسان من خلال شريعة وقانون، يحصل من خلالهما على سعادة الدنيا وسعادة الآخرة. وفي إطار البعد الإنساني، فبما أنّ الإسلام يدعو للحق والفضيلة ومكارم الأخلاق والعفة والخير والمحبة والجمال والعدل والعاطفة الصادقة، فانّ أي نتاج أدبي يدعو لهذه المضامين فهو يصب في الهدف الإسلامي نفسه، مع مراعاة الأساليب والتعبيرات. وكل ما يخدم قضايا الإنسان الحقة والإنسانية، فهو أدب ملتزم ويلتقي مع الإسلام.
وهنا لابد من الالتفات إلى نقطة مهمة: صحيح أنّ مدرسة الأدب الإسلامي هي مدرسة (الإنسان) ولكنه ليس مطلق الإنسان، انّه الإنسان الذي يلتقي بمُثل السماء، الإنسان الإلهي وليس الأرضي وحسب. وبكلمة أخرى: إنّ الأدب الإسلامي لا يغرق في هموم الإنسان ومعاناته ويؤكد إنسانيته الأرضية وحسب، بل إنّه يهدف إلى منح الإنسان إنسانيته السماوية، أي الشخصية الربانية للإنسان ففي الأدب الإسلامي، ارتباط دائم بين الأرضي والسماوي.. سريان دائم صعوداً ونزولاً.
ومن منطلق عالمية العقيدة الإسلامية والخطاب الإسلامي والأهداف الإسلامية، فانّ الأدب الإسلامي هو ـ بالضرورة ـ أدب عالمي وإنساني، ليس محلياً أو قومياً. فهو يُنصِف صنفي الناس على كل الكرة الأرضية، مسلمين وغير مسلمين، ويدافع عن قضاياهم الحقة. يقول الإمام علي (ع) عن الناس بأنّهم (صنفان: أما أخ لك في الدين، وأما نظير لك في الخلق).
من هنا، فإنّ تعبيرات مثل: الأدب الموجه، الأدب الهادف، الأدب الإنساني، الأدب الملتزم، كلها تحكي عن مضمون واحد يصب في خدمة الإنسان.. الخليفة وقضاياه، وبالتالي تخدم الهدف الديني.


المصدر: مجلة التوحيد/ العدد 82/ حزيران 1996

ارسال التعليق

Top