- نظرتان للموت:
ما زال مفهوم الموت عند الإنسانية جمعاء معضلة كبيرة تقلق فكر الإنسان، وتهز مشاعره، وتهيج أحاسيسه. بل لا يزال الموت معضلة المعضلات، ومشكلة المشاكل التي تواجه جميع الناس. فمن الناس من يتعامى عن حقيقة الموت، ويغفل عنه، وكأنّه غير موجود، ولا يهمه أمره، ومنهم من يتهرب من ذكره، بل هو لا يحب الموت وذاكريه في مسيرة حياته كلها... وهؤلاء هم السواد الأعظم من الناس، والصنف الثاني من الناس يحاول أن يتدبر هذا المفهوم القديم – الحديث في الوقت نفسه. القديم: منذ نشوء أول خلق دبّ على وجه الأرض، وأصابه الموت. والحديث: منذ أن بدأ الإنسان يكشف بعض أسراره، ويتعرف على بعض غوامضه شيئاً فشيئاً، خلال المسيرة البشرية الطويلة، ويبحث بتأمل عن سرّه وكنهه... وهذا الصنف من الناس الذي يتعامل مع الموت بهذا الشكل الواعي، هم خواص الناس، بل هم خواص الخواص منهم. فالطائفة الأولى من الناس، الذين يمثلون الكم الأكثر من البشرية، هم على خطأ في تعاملهم السلبي مع حقيقة الموت، لأنّ الموت حق وقد فرضه الله سبحانه وتعالى. فالموت هو من المقادير الإلهية الموزونة، ومن الآجال الربانية المحسوبة، الدقيقة. وإلى هذا يشير القرآن الكريم بذكر قانون التقدير المتوازن العام بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (الطلاق/ 3). وهو أيضاً مشيئة الله تعالى وقد كتب وحتّمه على عباده. وليس هو – كما يراه البعض – بخس لحقوق العباد في الحياة! - الموت صديق الحياة: والموت – في حقيقته – ليس ضداً للحياة، وإنما هو إنماء لها، وتوسيع لمعنى الحياة، ولولا الموت لما امتدت الحياة، وتوسعت وظهرت قيمتها في الوجود، فيكون "الموت" نعمة من نعم الله عزّ وجلّ على ماهيّة الحياة وديمومتها، وعلى مسيرة جميع الأحياء، في كل زمان ومكان. لذلك يتخذه الصنف الثاني من الناس[1]، وهم المتفكرون في الموت، وفي ما سيؤول حال الإنسان – كل إنسان – إليه، يتخذونه مدرسة تربوية معنوية من مدارس العلم، والمعرفة، والثقافة المصيرية للإنسان، والتي قد تكون من أهم وأفضل المعارف الإنسانية العامة. والموت: لا تنفع معه كل وسائل الابتعاد منه، والتغافل عنه، والتهرب من ساحته، فلا يخدم الإنسان أسلوب الانهزامية في التعامل معه. وكلما تتقدم لتتعرف عليه، وتتقرب منه، أعطاك الموت نفحات جميلة، وكشف لك عن بعض سرّه، فتبدأ تهواه وتحبه! والعكس صحيح، أي كلما تبتعد عنه، وتجهل كنهه، منع الموت عنك سبل التعرّف عليه، ووضع حواجز سميكة فيما بينك وبينه، ومنعك من التقرب إليه، لذلك تقوم ببغضه، وفي المقابل يحصل معك الانجرار إلى حب الدنيا والتعلق بها، "وحبّ الدنيا رأس كل خطيئة"[2]. فتكون طريقة الحب له، والعلامة معه، والعلم به، والتعرف عليه... أنفع بكثير للإنسان من طريقة البغض، والجهل، به، والابتعاد عنه... لأنّ "الموت" قدر مقدر، وحكمة بالغة، تحدده الإرادة الربانية، وتحكمه القدرة الإلهية، وتديره ضوابط حركة السنن الإلهية في المسيرة الحياتية للمخلوقات أجمع. فالموت – أو ملك الموت – لا يتعدى، ولا يتجاوز، ولا يظلم، ولا يجور، ولا يغدر، ولا.. ولا.. ثمّ إنّه (أي الموت) – أيضاً – رفيق الحياة، والعامل معها، وكأنّ الحياة تكشف عن معناها، ولا يتوضّح معنى الحياة إلا عن طريق صاحبها "الموت"! فيكون الموت وكأنّه صديق الحياة، بل هو الكائن المتآلف مع الحياة، والحياة بدورها أيضاً متآلفة معه. وهنا ينبغي التوقف قليلاً عند أبعاد هذه الفكرة، ونتأمل فيها شيئاً ما لآن فيها – على ما يبدو – سرّاً من أسرار الموت، وحقيقة من حقائقه اللطيفة، والدقيقة. فنقول: لا يألف الإنسان صاحبه إلا إذا كان هناك قرائن تشده نحو الألفة، لذلك قيل: "لا تسل عن المرء بل سل عن قرينه". فيمكن معرفة مستوى الإنسان، واتجاهه الفكري والعقيدي، ونضوجه العقلي... وذلك من معرفة قرنائه وأصدقائه الذين يألف لهم، وينسجم معهم، وكذلك – وبالطريقة نفسها – يمكن معرفة حقيقة الحياة من خلال معرفة القرينة المتصلة بها، والكائن الرئيس المنسجم معها، ألا وهو "الموت"! ولا تحصل الألفة والصداقة بين الشيئين إلا على أسس واعتبارات معيّنة.. فيكون الموت الصديق الأقرب إلى الحياة، بل هو العنصر المتآلف الأول مع الحياة، لأنّه عدل الحياة، وقيمة وكرامة الأحياء... وإذا اعتبرنا "الموت" ضد الحياة ظاهراً، فإنّه – في الحقيقة – أخو الحياة باطناً. والشيء لا يظهر قيمته إلا الضد. فمثلاً: لا تظهر للنائم قيمة النوم إلا عند التعب، ولا يعرف الإنسان قيمة الصحة إلا عند المرض، ولا يتوضّح للإنسان قيمة العدل إلا عند مواجهة ألم الجور.. وهكذا. وكذلك "الموت" فلا يمكن أن نتعرف على قيمته، وأهميته إلا عن طريق الحياة نفسها، "والعكس صحيح"، أي أنّ الإنسان لا يمكن أن نتعرف على قيمتها وأهميتها إلا عن طريق الموت نفسه! فيكون الموت عنوان الحياة، والحياة عنوان الموت! ولا يمكن أن يتعرف الإنسان على أسرار الحياة إلا إذا بدأنا أوّلاً بالتعرف على حقيقة الموت، وإنّ الذي يحب الحياة ثم يكره صديقها "الموت"، فإنّه سوف يحب أحد الصديقين المتحابين، المتعاونين، والمتقاربين... ويكره الصديق الآخر، فسوف يقع في الحالة المتناقضة غير المقبولة عقلاً. والذي يحب الحياة ويكره الموت – أيضاً – تراه يعيش أنصاف الحياة!!، أي يعيش الحياة غير المستقرة، وغير المطمئنة، وغير الهادفة، وغير الواعية.. حياة عقيمة من كل إبداع، وبعيدة عن الأصل المعنوي والروحي في الوجود. - علاقة قهرية ولكنها منسجمة: إذا اعتبرنا أنّ الموت ضد الحياة ظاهراً، فهو كما تراه العيون المجردة – صحيح – ضد الحياة، ولكن في الحقيقة والجوهر، والنظر البعيد هو صديق الحياة، ولكن الله تعالى جعل بينهما علاقة انسجامية قهرية، قسرية، موضوعية، تبنى على المصلحة الخاصة والعامة معاً، وعلى المدى القريب أو البعيد من الزمان... والقرآن الكريم يشير إلى ذلك إشارة سريعة بقوله تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) (الأنعام/ 18)، فالله تعالى قهر الروح في تعاملها مع الجسد، وقهر الحياة في تعاملها مع الموت... وهكذا. فهذا الجانب القهري، القسري، الموضوعي، المنسجم بين علاقة الحياة مع الموت، مثله كمثل العلاقة القهرية، القسرية، الموضوعية، المنسجمة بين غازين مختلفين تماماً، متضادين ظاهراً، متفقين باطناً، كغاز الأوكسجين (O²) المساعد على الاشتعال، وغاز الهيدروجين (H²) الذي يشتعل، وباتحادهما وتفاعلهما في معادلة متوازنة، وعلى جانب من القهر الموضوعي الإلهي القسري المتزن بينهما، نتج عنهما الماء (H²O) السائل الذي لا يشتعل! قهر الله سبحانه الأوكسيجين بأن يتحد مع الهيدروجين، حتى ينتج من اتحادهما "الماء" السائل الذي هو ينبوع الحياة، وأساس الأحياء. قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء/ 30). كذلك "الموت" الذي هو في الظاهر ضد الحياة، ولكن عندما قرنه الله تعالى بالعمل المشترك المنسجم مع حركة الحياة، وقهر حركة الحياة به، يعني أن هناك مصلحة كبرى بهذه المقاربة، والمفاعلة، والمقاهرة، الموضوعية المتزنة. فمثلاً: نباتات الصيف لا يمكن أن يحلّ محلها نباتات الشتاء، إلا إذا انتهى دور نباتات الصيف، وانتهت منافعها وحياتها. وكذلك لا يمكن أن تتعاقب الأجيال، جيلاً بعد جيل على مساحة الكرة الأرضية إلا إذا رحل جيل، وغادر الحياة، وحلّ محله جيل آخر. حتى قيل لأحد العلماء الكبار، ما الحياة؟ فقال: إنها محصورة بين كلمتين "بين أرحام تدفع، وقبور تبلع!" وهذه سنّة الحياة الطبيعية. وكأنّما هناك تنوع في الأدوار، وتناوب في المواقع وتبادل في الأهداف! ومن الجدير ذكره: أنّ حالة تناوب تسود حركة الموت مع حركة الحياة، في دائرتهما الكبيرة، ومساحتهما الواسعة، فما بحاجة إلى التوقف على معادلة متوازنة دقيقة[3]، في كيفية التعامل مع متطلبات الحياة النامية الواعية المنتجة على جميع الأصعدة، وفي الطرف الآخر من المعادلة، الاستعداد للموت، والتهيؤ للقاء الله سبحانه في كل لحظة، بحيث يبقى الإنسان محافظاً على توازن هذه المعادلة الحقة، فلا يبخس الإنسان المسلم حقه من متاع الحياة الدنيا المختلفة، فيبقى على استعداد لأن يملك كل شيء، ولا يملكنه أي شيء، إلا مالك الملك سبحانه، وينبغي عليه أيضاً أن لا يغفل عن الاستعداد للموت والتهيؤ للقاء الله سبحانه في كل لحظة، واستقبال الآخرة في كل الأوقات، "والعكس صحيح". وهذه المعادلة الدقيقة المتوازنة – في متطلبات الحياة ومتطلبات الموت – بحاجة ماسة إلى عقول رشيدة، تكون قادرة على تحصيل التوازن المستمر الدقيق بين متطلبات الحياة المختلفة، ومتطلبات الموت الواعي، وبين متطلبات الدنيا ومتطلبات الآخرة، وبين متطلبات الروح ومتطلبات الجسد.وتلك الحقيقة السامية يصرح الإمام علي (ع) ويوضّحها بقوله: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"!
الهوامش:[3]- التي طرفها الأول يكون في كيفية التعامل... إلخ (المصدر).
المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 39 و40 لسنة 1993م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق