◄الأسرة هي الخلية الأولى في المجتمع، هي نواته الصغرى التي يقوم عليها كيانه، وأي خلل يصيب الأسرة ينعكس على المجتمع سلباً، وأي صلاح وصواب يمس الأسرة إنما يعود على المجتمع بالإيجاب، لذلك فتقدم مجتمع ما مرهون بسلامة الأسرة فيه، وتخلف مجتمع ما وانحطاطه مرهونان بفساد الأسرة فيه.
لقد اهتم الإسلام بـ"المجتمع" في أسرته، واهتم بـ"الأسرة" فيه، فنظم قوانينها وأرسى دعائمها على أسس مستقرة ثابتة ورصينة، وشرّع الزواج كوسيلة لوجودها، واهتم به بأن جعل أصله ميثاقاً يربط جميع الأطراف، وحدَّد لهم حقوقاً وجعل عليهم واجبات.
مرّ المجتمع ومرّت الأسرة معه بأدوار وأطوار تاريخية، يهمنا أن نقول عنها إنها كانت "مشرقة"، لكن اليوم وأمام التردي الذي وقع فيه المسلمون، والتخلف الذي جنوه لأنفسهم، أمام هذا كلّه ينهار الإنسان يوماً بعد يوم، وتكثر التحديات ساعة بعد أخرى، وتتعدد الأزمات وتتفاقم، لذلك أولينا العناية لهذه التحديات بصفتها تحديات جارفة تمس الأسرة في جميع أطرافها: الأب والأُم والطفل، بحثنا أنواعها وألوانها، أقسامها وتياراتها، عارضين لأعلامها وبناة حقلها، معرجين على أصولها ومصادرها، راصدين لمناهجها وطرق عملها، متوقفين عند الغايات التي تنشدها والمرامي والأهداف التي تقصدها.
إنّها تحديات خارجية وداخلية، حضارية وتربوية وقانونية، تتطلب يقظة شاملة ووعياً كاملاً، ولا يتحقق ذلك إلا بالاعتصام بالمقومات وبالمبادئ والأصول مع العمل المشترك الناجح والتربية الهادفة: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران/ 79).
نعلم أنّ للأسرة مفهوم مشترك بين جميع الأطراف، الكلّ اليوم يتكلم عن الأسرة: يسار ويمين، شرق وغرب، نساء ورجال.. وهذا يوضح ما يلي:
أ) إنّ وضع الأسرة غير طبيعي. حينما يكثر الكلام على قضية ما يشتد، فليعلم أنّ في القضية إشكال ما؛ إما لها أو عليها.
ب) إنّ الموضوع المتكلم فيه هو خاصية مشتركة بين الجميع، خاصية موحدة على مستوى البحث والدرس والكلام، ومن ثمّ تتأكد أهمية الأسرة لدى الجميع.
ج) أصبحنا اليوم أما موضوعين لا موضوع واحد، موضوع الأسرة كمجال للبحث، وهذا (الكلام) المتعدد والمتلون – والذي أصبح هو في حد ذاته عائقاً أمام التوصل إلى نتيجة سليمة في موضوع (الأسرة) – حين يتحول من موضوع إلى موضوعات بحث، تتضاعف الأزمة وتتركب.
كما يحتضن المجتمع الإسلامي من الأمراض الشيء الكثير، ولكي يكون البناء سليماً ينبغي بيان هذه الأمراض، وبيان الوسائل المؤدية إليها، ومن ثَمَّ العمل على علاجها، وأقوى هذه الأمراض هي في الناحية المعرفية والإنتاجية، ووسائلها هي العلوم والمعارف؛ بما فيها العلوم التي يطلق عليها (العلوم الإنسانية)، والأخرى التي تنعت بـ(العلوم الطبيعية)، وقد جلب كلّ هذا تحت وابل من الشعارات الكاسحة باسم العلم والتطور والتقدم والعصرنة، وباسم الاندماج في العولمة وفي النظام الدولي الجديد.
وبما أنّ هذا القانون مستمد من الفقه الإسلامي، كان التوقف عند الشريعة الإسلامية طويلاً فقد وُجّهت إليها مناهج عصرية تستخدم أدوات جديدة في الفهم تتماشى مع طبيعة التفكير الغربي وطموحاته الاستعمارية ورغباته الاستعلائية المدمرة لكلّ كيان محترم، وهكذا بدأت أوّل حملة على شريعة الإسلام على يد جماعة من الباحثين الأكاديميين أوجدتهم الدول الوطنية في الغرب لغرض فهم الآخر وتقريبه، وفي مرحلة أخرى للتشويش عليه وتشويه صورته، هؤلاء هم الذين أطلقوا عليهم صفة (مستشرقين)، كان أول ما فعلوه هو التشويش على مصادر الشريعة: القرآن والسنة، فالقرآن عندهم هو كلام بشري لا إلهي، والسنة النبوية لا قدسية لها لا في التشريع ولا في العبادة. وهكذا جنّدوا أنفسهم لدراسات مدخولة عن الأحكام الشرعية، واختلفت أبحاثهم كماً وكيفاً، فمنهم من باشر موضوع الأسرة وأحوالها في دراسة مستقلة، ومنهم من تكلم عليها في سياق أبحاثه عن الفقه الإسلامي بصفة عامة، كما اختلفوا من جهة الأحكام فمنهم من بالغ في النسف وتشدد في الحكم، ومنهم من اعتدل وتوسط، نذكر من ألمانيا "جوزيف شاخت" (Joseph Schacht 1902-1969)، الذي اهتم في إنتاجه بالفقه الإسلامي؛ بتحقيق عدة نصوص والتعليق عليها، وبخصوص الأسرة في الإسلام نشر مقالات كثيرة في الميراث والنكاح والطلاق وأم الوليد والوصية، وكلها كانت في سنة 1914م.
وجاء بعده "إروين كريف" (Erwin Crof 1976)، وهذا المستشرق كان اهتمامه بالفقه الإسلامي بصفة عامة، فله بحوث عن الأسرة المسلمة، نذكر منها البحث الذي أصدره بعنوان: "النظرة الجديدة إلى الأسرة المسلمة في التشريع الإيراني الحديث الخاص بالزواج والطلاق والميراث". وهذا البحث نشره عام 1966م، ورام فيه التوسط تارة والانحراف تارة أخرى. وذلك حين تساءل قائلاً: "كيف يمكن أن يقوم تصور للأسرة المسلمة الحديثة؟" فأجاب: "إذا كان للمسلم أن يبقى على هويته؛ فلا ينبغي له أن يتحرر من المصادر الفقهية الشرعية، إنّ الشريعة الإسلامية ليست قوة معادية للحياة، بل ينبغي اكتشافها من جديد لمواجهة الحياة الجديدة، وأن تتكيف بواسطة التأويل وقياس النظير".
وفي سنة 1967م أصدر بحثاً آخر تحدث فيه عن تنظيم النسل وتحديده من منظور الشريعة الإسلامية، سمّاه: "موقف الشريعة الإسلامية من تنظيم النسل وتحديد النسل".
ومن فرنسا نذكر "ليون برشي" (Lion Bercher 1889-1955)، الذي ترجم كتاب (الرسالة) لابن أبي زيد القيرواني، وعلق عليها باللغة الفرنسية، وكان تركيزه على أحكام الأسرة وأحوالها متميزاً جدّاً. ►
المصدر: كتاب الطفل في الإعلام
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق