◄اعتادت حكومات الدول غير الديمقراطية على احتكار السلطة، بعد انتزاعها بالقوة أو التآمر، وقمع المعارضة، والشعب أيضاً. وعندما تلجأ بعض الحكومات إلى الانتخابات تحت ضغط القوة تؤول العملية الانتخابية إلى ممارسة شكلية يحصل فيها الرئيس المنتخب، الذي هو الرئيس الفعلي والمرشح الوحيد، على 99.9% أو 99.8% من عدد الناخبين أو ربّما يفوز بالتزكية. وكثيراً ما يكون الرئيس مدى الحياة، الذي تهتف له الجماهير المرعوبة بالحياة، وتفديه بأرواحها ودمائها اتقاء لبطشه واضطهاده. وأما المقاعد البرلمانية فمحصورة بالحزب الحاكم، أو بعض مقاعد لما يسمى بالمعارضة، إلا أنها مهادنة للسلطة، فهي في الحقيقة معارضة شكلية، وكثير ما تكون صنيعة الحاكم نفسه، فلا تمثل رأياً مستقلّاً ولا يؤول لها الحكم أبدا. وأما الدول التي لا تعتمد نظام الأحزاب فعادة يكون لها جهاز أمن ومخابرات يحصي أنفاس الشعب ويتعقب المعارضة ليقضي عليها في مهدها، ويكون همه توفير الحماية للسلطة وعلى رأسها الملك أو الرئيس، فهي أجهزة أمن ضد الشعب وليس لحمايته وحماية حقوقه، وهي مصدر إنتاج العنف وإلقاء الرعب وتسويغ الاضطهاد. إذن فهذا النمط من الدول تعاني دوماً من دكتاتورية الرئيس أو الملك أو الحزب الواحد أو الأجهزة الأمنية. والغريب انّ الأحزاب الحاكمة تتحول بمرور الأيّام أداة مسخرة بيد الحاكم المستبد، لا تعارضه أو اتخاذ قرارات تقاطع إرادته، ويتحول إلى جهاز أمني لحمايته، وبالتالي تتلخص الدولة وأجهزتها المختلفة بشخص الرئيس، أو تتلخص بجهاز الأمن والذي يتلخص هو الآخر في رئيسه، المطيع لرئيس الدولة والحريص على تحقيق رغباته.
إلا انّ العملية السياسة في ظل المجتمع المدني والدول الديمقراطية تختلف جذرياً عنها في الدول الأخرى، فللشعب حضور حقيقي، في الدول الديموقراطية، من خلال المؤسسات والانتخابات، كما انّ التنافس بين الأحزاب السياسية على السلطة لا يتعرض لأي لون من ألوان الاضطهاد، وحينئذ لا يؤول الحكم إلا لمن من يكسب الانتخابات بطريقة شرعية ويختاره الشعب عبر الاقتراع، بينما يتراجع الآخر إلى صفوف المعارضة ويمارس دوراً حقيقياً من خلال البرلمان، يحاسب الحكومة، ويعلن عن وجهات نظر مغايرة، ويقوّم مشاريع الدولة. لذا فالحكومة تخشى المعارضة كخشيتها من الشعب، وربما أشد إذا أخذنا بنظر الاعتبار قدرة الأحزاب السياسية على تحريك الشعب. وحينما تحقق المعارضة نجاحاً في الانتخابات يتم تداول السلطة بطريقة سلمية لا ترافقها أي مظاهر للعنف، بينما ينسحب الحزب أو الأحزاب الحاكمة، إذا كانت مؤتلفة، إلى صفوف المعارضة.
وهذا الأسلوب في إدارة العملية السياسية بالطرق السلمية يتوقف على توافر الأمن والاستقرار، ويفشل مع ظهور أول بادرة للعنف تفقده مصداقيته في التداول السلمي للسلطة. لهذا يرفض المجتمع المدني وجود حق مطلق في السلطة كما هي دعاوى الحكومات الثيوقراطية، ويبقى صاحب الحق الوحيد هو الشعب، وهو المسؤول أوّلاً عن اختيار نوع الحكم، ملكي أو رئاسي، ديني أو مدني. وهو الذي يختار رئيس الدولة وأعضاء البرلمان، ومن حقه الموافقة على الدستور أو رفضه. فالحاكم يستمد شرعيته من الشعب، وليس له شرعية ذاتية أو ممنوحة من سلطة فوقية. وهذا لا يتعارض مع النظريات الإسلامية في الحكم سيما التي تذهب إلى ولاية الأُمّة على نفسها[1]. بل حتى غيرها من النظريات الأخرى[2]، ما عدا نظرية ولاية الفقيه التي ترى انّ الولاية والحكم منحصرة بالفقيه، المعيّن من قبل الله تعالى[3]. وتأتي الانتخابات لتفعل هذا الدور، فيكون دورها دور البيعة بالنسبة إلى الرسول أو الإمام. فالبيعة طبقاً لهذه النظرية لا تمنح الرسول أو الإمام الشرعية بل هي مكتسبة من الله تعالى، وإنما تأتي البيعة لتثبت ذلك وتجعله في أعناق الأُمّة، كي تتحمل مسؤوليتها تجاهه، وتكون خاضعة لسلطته.
ولما كان المجتمع المدني يشترط التداول السلمي للسلطة لذا يشكل العنف تحدياً كبيراً لإدارة العملية السياسية بشكل سلمي بحيث تتكافأ الفرص لجميع الأطراف، وتحفظ للجميع حقه في المشاركة السياسية والتعبير انّ وجهة نظره بالحكم. أي انّ العنف سيفضي إلى الاستبداد الذي هو الضد النوعي للديمقراطية، وبالتالي استحالة العملية السياسية السليمة، وانما استبداد وتسلط وقمع للمعارضة واضطهاد للشعب. كما أنّ تسلح الأطراف والأحزاب المشاركة في الساحة السياسية، بالعنف سيشعل فتيل الصراعات المسلحة، ويتحول التراشق بالألفاظ إلى تشارق بالنيران، وينقلب الحوار السياسي إلى مواجهات مسلحة. لذا نزع الأسلحة وحل كافة المليشيات المسلحة التابعة للأحزاب والحركات السياسية وغير السياسية شرط أساس في نجاح أطروحة المجتمع المدني وقيام نظام متعدد يحترم الرأي الآخر ويرفض الاستبداد بالحكم ويحفظ للفرد حرِّيته وكرامته بعد سيادة القانون وتفعيل الدستور. وإلا كيف يمكن تصور الأداء السياسي حينما تنتشر بين أفراد الشعب، كما في العراق اليوم، 7-8 ملايين قطعة سلاح[4]، فهل من المحتمل أن تسير العملية السياسية بصورة سليمة، دون أن تواجه أي نوع من أنواع العنف؟ لا شكّ إذا نجحت العملية السياسية في العراق بشكل سلمي فهذا يعني انّ الشعب، وهو أملنا جميعاً، يتمتع بوعي سياسي منقطع النظير، لا تؤثر فيه الظروف السياسية الصعبة، وانّه مصمم فعلاً على إثبات صدقيته وجديته وتحقيق أماله وطموحاته.
الهوامش:
[1]- انظر كتاب: نظام الإدارة والحكم في الإسلام، الشيخ محمد مهدي شمس الدين. 1992م، دار الثقافة، قم، ص419. إذ يذهب الفقيه – رحمه الله – في هذا الكتاب إلى ولاية الأمّة على نفسها.
[2]- انظر: كديور، الشيخ محسن، نظريات الحكم في الفقه الشيعي... بحوث في ولاية الفقيه، 2000م، دار الجديد، بيروت.
[3]- شمس الدين، نظام الإدارة والحكم في الإسلام، مصدر سابق، ص419.
[4]- كشف تقرير دولي في جنيف (31/5/2004)، كما أفادت ذلك جريدة الشرق الأوسط اللندنية الصادرة في 1/6/2004: انّ أكثر من ثمانية ملايين قطعة سلاح خفيفة موزعة في العراق منذ قرار سلطة التحالف السابقة حل الجيش العراقي.
المصدر: كتاب تحديات العنف
ارسال التعليق