◄تصنّف القِيَم إلى فئات، فثمَّة قيمٌ للحكم والسياسة، وقيمٌ للاقتصاد إنتاجاً واستهلاكاً، وقيمٌ للمجتمع والأسرة، وقيمٌ للعِلْم والتعلّم، وهكذا.
ونؤكِّد هنا أنّ الرؤية الإسلامية تفرضُ التوازنَ والتكامل في أهمية هذه الفئات، وعلى هذا فإنّ عملية التصنيف لا تُعلي فئةً من القيم على حساب أخرى، وإنما تفيد في تعيين موضوع البحث وحدوده، لوَضعه في بؤرة الاهتمام أثناء دراسته. وعندما يتمُّ اختيارُ موضوعٍ للدراسة يتمُّ تسويغُه عادةً بالإشارة إلى أهميته في مرحلة محددة، والأولوية التي حملها بالموازنة مع موضوعات أخرى، وخطورة التقصير في شأنه، والنتائج المترتبة على الجهد المبذول في الاهتمام به.
وفضلاً عن محاولة فهمنا للقيم في نظام الإسلام في مجالات عديدة، فإنّنا نستطيع أن ننظر إليها في مستويات متعددة؛ وبذلك نحدد مجموعة من القيم في المستوى الأعلى، وتنبثق عنها مجموعات من القيم في مستوى أدنى، وهكذا. فشيخنا طه جابر العلواني مثلاً رأى أنّ القيم الحاكمة العليا في الإسلام هي: التوحيد والعمران والتزكية؛ توحيد الخالق، وعمران الكون المخلوق، وتزكية الإنسان المستخلف في الكون.
فالإنسان، المخاطب بالوحي المُنَزَّل من الإله الخالق الواحد، يؤمن بوحدانيته، ويقر بالعبودية له، ويوظف طاقته العلمية والعملية في إعمار الكون، وبناء الحضارة، وترقية الحياة البشرية على الأرض، وهو بذلك يتحقق بمقصد التزكية، تطهيراً وتنميةً لنفسِه ومالِه وعلاقاته.
وإذا كان توحيد الله الخالق يقتضي تنزيهه عن التعدد والمثيل، فإنّ الإنسانَ المخلوق، مثله مثل سائر المخلوقات، يتعدّد في خصائص وصفات كثيرة، منها اللون والعرق واللغة، لكن أهم خصائص التمايز والتعدّد في خَلق الإنسان وسائر الأحياء تمايز الذكور والإناث، فالإنسان ذَكَرٌ وأنثى، والحياةُ البشرية على الأرض قامت وتواصلت أجيالها عن طريق العلاقة الزوجية بين رجل وامرأة، وإنجاب الأولاد والبنات، في أُسَر تتوالى جيلاً بعد جيل، دون أن تخرم التوازن العددي بين الذكور والإناث.
فكيف نفهم القيم التي أعلَت إنسانية الإنسان، وحفظت تَوَاصُلَ المجتمع البشري وانتشاره على سطح الأرض، وإقامته للعمران والحضارة؟
تحدّث القرآنُ الكريم عن بداية خلق الكون، وتحدّث عن خلق الإنسان ذكراً وأنثى، وتحدّث عن التزاوج وتكوين الأُسر والقبائل والشعوب، وتحدّث عن التكوين النفسي للرجل والمرأة وعن المشاعر المتبادلة بينهما، والقيم التي ينبغي أن تحكم هذه العلاقة. ومع أنّ حديث القرآن الكريم يوفر للباحث صورة عمّا كان يحدث في تاريخ البشر، تكفي لفهم منظومة القيم التي سادت في مراحل هذا التاريخ البشري، أو التي كان يجب أن تسود، فإنّ الفكرَ البشري المدوَّنَ قد رصد نظريات عديدةً في تفسير طبيعة القيم والأخلاق، ومعظمها نظرياتٌ ضَرَبَتْ في متاهات الضلال، وملأت مجلدات من الكُتب، وشغلت قاعات التدريس في المدارس والجامعات ولا سيما تحت عنوان الفلسفة، من عهد اليونان، ومروراً بالقرون الوسطى، وانتهاء بنظريات الحداثة وما بعد الحداثة!
وسوف لن ننشغل في هذا المقام باستعراض التاريخ الطويل لهذه الدراسات، ونكتفي بإشارة سريعة إلى لون من الدراسات الحديثة في موضوعات القيم والأخلاق، تصنَّفُ ضمن تيارات ما بعد الحداثة، وهي تلك المعبرة عن الاتّجاه النسوي (Feminism). ويرى هذا الاتّجاه أنّ النظريات الأخلاقية السائدة، مثل الأخلاق الكانتية، والنفعية، وأخلاق الفضيلة الأرسطية، تعجز عن تفسير طبيعة القيم والأخلاق الإنسانية؛ ذلك أنّ معظم هذه النظريات في أحسن الأحوال يخدم نظريات أخلاقية جاءت نتيجة "تفاعلات قانونية وسياسية واقتصادية، بين ناس غرباء بعضهم عن بعض - نسبياً - حالما توجد ثقة كافية تؤهلهم لأن يشكّلوا كياناً سياسياً.
وترى هذه النظريات أنّه "كلّما ازداد تفكيرنا في قضايا القيم والأخلاق تجريداً ازدادت صحّة هذا التفكير ونزاهته". ومن ثمّ فإنّ النظرية الأخلاقية في الاتّجاه النسوي تعيب على النظريات الأخلاقية السائدة المشار إليها مفهومها المتطرّف للقواعد العقلانية الكليّة وللفرد الأناني، كما تعيب عليها طابعها الذكوري الذي يتجاهل التجربة النسوية.
والمعروف أنّ الحركة النسوية ظهرت في نهاية القرن العشرين في صورة "حركة ثورية تهدف إلى قلب ما يَعُدُّه كثيرون أقوى هرم محصَّن في أيّ مكان، هرم الجنس، ولاؤها الأوّل هو لمساواة النساء"، وتفترض أنّ الاهتمام بـ"التجربة النسوية أدّى إلى نقد جوهري للنظريات الأخلاقية التي كانت سائدة، وإلى حد كبير مازالت سائدة، وإلى اتجاهات نسائية بديلة للأخلاق".
صحيح أنّه "ليست هناك نظرية أخلاقية نسوية واحدة فقط، ولكن يوجد عدد من الاتجاهات تشترك في وَعد أساسي للتخلص من الانحياز الجنسي في التنظير الأخلاقي وغيره". و"من بين أوضح المواقف التي تتبناها النظرية الأخلاقية النسوية القول بأنّ حذف تجارب النساء الأخلاقية غير معقول.. وأنّ البحث النسوي في مجال الأخلاق قد طوّر ما يمكن أن نضعه بأفضل وصف على أنّه أخلاق العناية".
ولعلّ "أخلاق العناية" هو أحدث المفاهيم التي أصدرها الاتّجاه النسوي في مسائل القيم المتعلقة بالعلاقات بين أفراد الأسرة. وهذا المفهوم يجعل هذه العلاقات مثل سائر العلاقات الأخرى في المجتمع، بما في ذلك علاقة الطبيب والمريض، والدائن والمدين، والحاكم والمحكوم؛ فهي علاقاتُ أفراد يحتاجون إلى العناية، وآخرين يستطيعون تقديم هذه العناية، وبذلك تتحقق مصالح الجميع، وترى "أنّنا سنتحمل كثيراً من مسؤولياتنا من دون حرّية، لكنّها تُفرض علينا عن طريق المصادفة نتيجة لانغراسنا في سياقات عائلية واجتماعية وتاريخية".
أخلاق العناية إذن هي منظومة القيم التي تعتني بالعلاقات بين الأفراد، وتعرَّف بوصفها نظاماً من التصوّرات والأفكار التي تنشأ عن ممارسة العناية "وهي جزء عضوي من هذه الممارسة، واستجابة لمتطلباته المادّية، وبصورة بارزة تلبي الحاجات".
وقد خضعت النساء على مدار التاريخ لصور قاسية من استغلال صفة الأنوثة فيهنّ، وكُنَّ يَقُمْن بمعظم أعمال العناية من دون أجر، ذلك "أنّ الأنوثة (Femininity) تجعل من النساء كائنات اعتنائية (Carers)، وهذا يساهم في تقييد المرأة ويدفعها إلى أن تقبل توزيع العمل وفق الجنس". وتتضمن الثورة النسوية رفض السيطرة الذكورية، ولذلك فإنّ "أخلاق العناية يجب أن تمارس في ما بعد المجتمع الأبوي".
وإذا كانت النظريات الفلسفية الحداثية قد سلكت مسالك خبط عشواء في تحديد علاقة الرجل بالمرأة، بعيداً عن مقتضيات الفطرة التي فطر الله عليها كلاً منهما، وبعيداً عن متطلّبات التكوين الأسري الذي يمثل الوحدة الأساسية في بناء أي مجتمع بشري، فإنّ نظريات ما بعد الحداثة من: بنيوية، وتفكيكية، وعدمية، وتأويلية وغيرها، فضلاً عن النسوية التي أشرنا إليها آنفاً، قد أعادت بناء مفهوم الزوجية في الحياة البشرية وأعادت تعريف الأسرة بصورة تتجاوز فيها متطلّبات البقاء والتواصل البشري، مما يهدد صورة ذلك الكيان الأسري الذي عرفته البشرية على مرّ العصور، منبعاً لكلّ القيم الفاضلة.
فلقد كانت الأسرة كما أرادها الله منذ بدء الخلق، قيمةً في حدّ ذاتها، تختزن أرفع القيم وأزكاها، حين خلق الله سبحانه من النفس الإنسانية الأولى زوجَها، ليسكُنَ إليها، وجعل بين الزوجين قيم المودة والرحمة، ثمّ كان منهما البنون، عنصراً أساسياً في زينة الحياة الدنيا، وجعل قيم البر، والإحسان، والقول الكريم، وخفض الجناح من الرحمة، أُسس العلاقة بين الأبناء والوالدين.
وحين يبدأ تكوين الأسرة، من لقاء رجل بامرأة، تأخذ قيم الرجولة والأنوثة بالتحقق من هذا اللقاء، فللرجولة في الأسرة قيَمُها: قيمُ العناية والرعاية، وقيم القوامة والمسؤولية، وقيم القوّة والمروءة، قيمٌ كامنة في شخصية الرجل لا تأخذ حظها من النمو والظهور والاكتمال إلّا بلقاء الرجل بالمرأة، في بيت الزوجية وفي رحم الكيان الأسري. فهذا الرجل تكتمل عناصر الرجولة في شخصيته عندما يمرّ بمراحل التكوين الأسري كلّها؛ فيكون ابناً لتنمو قيم البنوة في شخصيته، ويكون أخاً لتنمو قيم الأخوة في شخصيته، ويكون أباً لتنمو قيم الأبوة في شخصيته، ويكون كذلك عمّاً وخالاً وجدّاً، فهل ثمّة مكان لتنمو قيم الرجولة هذه إلّا في داخل الأسرة الصغيرة، والأسرة الممتدة؟
وكذلك هي أنوثة المرأة، منبع لقيم عظيمة الشأن، فهذه الأنوثة مستودع للقيم الجمالية والأخلاقية والاجتماعية؛ قيم جمالية مادّية ومعنوية، وقيم أخلاقية تفيض بالرحمة والحنان، وقيم اجتماعية تفيض بالرعاية والحماية والتدبير. ولا تكتمل عناصر الأنوثة في شخصية المرأة حتى تمرّ في مراحل التكوين الأسري كلّها، فتكون ابنة، وتكون أختاً، وتكون أُمّاً، وتكون عمّة وخالة وجدّة، فكيف تكتمل عناصر الأنوثة إذا لم نكن في داخل الأسرة الصغيرة والأسرة الممتدة؟
وكلّ عنصر في الأسرة مصدر عظيم للقيم، فالأنوثة قيمة، والرجولة قيمة، والبنوّة قيمة، والعمومة قيمة، والخؤولة قيمة، وهكذا.
وهكذا تختزن الأسرة قيم النسب في صلات البشر ببعضهم، فللرجل نَسَبُهُ وللمرأة نسبُها، ويلتقي النَسَبان في تكوين الأسرة الجديدة. ثمّ تتسع دائرة النسب بالمصاهرة، فتمتد علاقات الناس لتكوين القبيلة، وتستمر علاقات النسب والمصاهرة في داخل القبيلة، وبين القبائل، لتكوين الشعوب، وكلّها عمليات امتداد واتّصال بين أفراد الجنس البشري، انطلقت من لقاء رجل وامرأة فتعارفا، ربما في عرفات، فكانت الأسرة الأولى، أسرة آدم وحواء، ثمّ كانت القبائل والشعوب والأقوام والأُمم على اختلاف أعراقها وألوانها ولغاتها، وما كان كلّ ذلك إلّا لأجل التعارف.
وصدق الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/ 13).►
المصدر: كتاب إسلامية المعرفة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق