• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإسلام.. دين السلام والمحبة

أ. محمد الغراوي

الإسلام.. دين السلام والمحبة

◄إنّ من دواعي الأسف أن يركز المؤرخون لحياة الرسول (ص) على موضوع الغزوات وقد اتخذوا هذا الموضوع حجر الرحى في بيان حوادث حياة الرسول (ص).

وقد يعطي هذا انطباعاً أنّ الرسول (ص) قد تحوّل فجأة إلى رجل شديد الجوع للحرب بعد هجرته على المدينة وهو ما حاوله المؤرخون الغربيون.

قالوا إنّ تعاليم الرسول (ص) كانت في مكة ذات مظهر ديني محض رافض للشر غير انّه بمجرد أن هاجر إلى المدينة تحوّل إلى سياسي متعطش للدماء لا يقف شيء في طريقه لبسط سلطانه المطلق وهكذا لم يعد حسب رأيهم نبيّاً.

  مطلق اللاعنف:

لقد اخطأ المؤرخون المستشرقون وقد تأثروا بالدين المسيحي فظنوا أنّ النبي يجب أن يدير الخد الأيسر لمن يلطمه على الخد الأيمن، واخطأوا فظنوا أنّ ذلك الفعل يجب أن يكون في كلِّ حال وظرف، أي أنّه حسب رأي المستشرقين يتصرف النبيّ كما سلك المسيح خلال السنتين والنصف التي قضاها في دعوته ولو دعا عشرات السنين وواجه أسوء الأعداء.

ولقد نسي المستشرقون أنّ النبي (ص) قد نجح أن يعيش في أعلى المثاليات المسيحية مدة جاوزت دعوة المسيح (ع) خمسة أضعاف.. فقد استمر العهد المكي ثلاثة عشر عاماً كان مطاولة في الصبر الجميل والدأب المستمر في مواجهة أبشع أنواع الاضطهاد...

ففي هذه المدة لم يترك مناوؤا الرسول (ص) وأعداؤه، لم يتركوا حجراً واحداً في جعبتهم إلا وقذفوه بها لكي يقظوا على دعوته، ولكنه (ص) لم يقابلهم بالمثل ولا مرّة واحدة في هذه المرحلة... وتزايد أتباعه كثيراً وكان بإمكانه القضاء على أعدائه وبكلِّ سهولة ولكنه لم يفعل ذلك أبداً، بل على العكس أمر أتباعه بالهجرة إلى الحبشة ليصونوا أنفسهم من اضطهاد الكفار... ولكن هؤلاء الكفرة لم يتركوا المسلمين وشأنهم في بلاد الحبشة فقد بذلوا جهدهم للنيل من المسلمين فطرحوا قضيتهم أمام النجاشي... ولابدّ أن نذكر أنّ النبيّ (ص) ما وقف الموقف السلبي في هذه المرحلة وهو يرى الظلم والطغيان وقد كان متفشياً في مكة فهو الذي منع حرباً دامية بين القبائل بسبب تنافسها على إعادة بناء الكعبة وتثبيت الحجر الأسود..

  جاذبية الإسلام:

لم يقتصرالرسول (ص) على تشجيع فكرة إيجاد لجنة من أجل السلام والعدل في الجزيرة العربية قبل الإسلام بل جعل الأمر واقعاً عملياً فكانت لجنة مؤلفة من ممثلي كلّ قبيلة من بني عبدالمطلب، بني أسد، بني زهرة، بني تميم.. وغيرهم..

وكانت أهداف هذا الحلف ما يلي:

1- التقليل من خطر الحرب.

2- حماية طرق المسافرين.

3- مساعدة الفقير.

4- منع القوى من السيطرة على الضعيف.

أمّا فيما بعد فقد ردّد النبيّ (ص) مراراً أنّه مستعد أن يدخل أي حلف أو جماعة لها أهداف مماثلة للأهداف المذكورة.

فهل يدل هذا الفعل أن هدف النبيّ (ص) كان الهيمنة السياسية قبل إرساء قواعد السلم والعدل؟

لقد أراد النبيّ (ص) أن يبني دولة قوية راسخة من أجل حماية السلم والعدل.. أن يبني دولة لا في المدينة فحسب، بل في كل شبه جزيرة العرب.

وممّا لا يستطيع أحد إنكاره أن إنعدام حكومة مركزية قوية في جزيرة العرب هو من أهم الأسباب التي أوجدت الظلم والعنف بين القبائل، ولذا كانت خطوة الرسول (ص) بعد هجرته إلى المدينة تأسيس حكومة قوية حازمة في المدينة فقط مؤملاً أن ستتوسع هذه الدولة فتشمل كلّ الجزيرة العربية حتى لا يبقى ركن فيها إلا ويضيئه نور الإسلام... كلّ هذا بفعل جاذبية الإسلام للنفوس لا بفعل الحرب الكريهة.

وكان بدهياً أن يعتقد الرسول (ص) أنّه بمجرد استقراره في ركن المدينة الآمن فإنّ دين الإسلام سيدخل إلى قلوب الناس في كلّ مكان منها.

فالإسلام الذي أخذ بمجامع القلوب فآمن به الناس وهم يواجهون أشد أنواع العذاب والاضطهاد لابدّ أنّه سيدخل في قلوب الناس وهم آمنون في المدينة وقد أنعم الله عليهم بالمأوى الذي تطمئن إليه النفس.

ويبدو أن قد حمل هذه الفكرة – جاذبية الإسلام – مشركوا مكة وعرفوا أن سيكون المستقبل للإسلام ولذلك هدفوا إلى اجتثاث هذه النبتة بأسرع ما يمكن وبيّتوا العزم وأوضحوا وبيّنوا ذلك للأنصار والمهاجرين بكل صراحة أنّهم لم يتركوهم يعيشون بسلام في دولتهم الجديدة، ولذلك نظموا حملة دعائية واسعة ضدّ المدينة قبل معركة بدر، فكتبوا رسائل لليهود والمنافقين في المدينة يحرّضونهم فيها على التمرد على الرسول (ص)، وهاكم مثالاً لإحدى رسائلهم (لقد أعطيتم رجلنا (صاحبنا) تأييدكم فعليكم الآن إما أن تشهروا عليه السلاح أو تطردوه من مدينتكم وإلا فقد استمرّ عزمنا على أن نهاجمكم هجمة رجل واحد فنقتل أبناءكم ونسبي نساءكم).

هذه الرسالة بعثها المشركون إلى عبد الله بن أبي رئيس المنافقين الذي حاول أن يتصيد بهذه الرسالة في الماء العكر – كما يقال – فيقاتل قومه ولكن الرسول (ص) فوّت على قريش هذه الفرصة وقال لعبد الله بن أبي أنّه لمن الحماقة والسخف أن تضع يدك في يد قريش وتثق بها وتقاتل أقرباءك وعشيرتك المسلمين.

وقد حاولت قريش فيما بعد أن تتآمر مع يهود المدينة لسحق المسلمين وهذا انذارهم الذي وجهوه للمهاجرين بعد مؤامرتهم مع اليهود (لا تفخروا كونكم قد نجحتم في الهروب من مكة فإننا سنبيدكم في نفس يثرب).

وهذا يعتبر حسب المصطلحات الحديثة إعلان صريح للحرب. ولم تكتف قريش بهذه الانذارات والمؤامرات فقد أرسلت في ربيع الأوّل من السنة الثانية للهجرة حملة إلى المدينة بقيادة (قويذ بن جابر) فوصلت مشارف المدينة المنورة وسلبت بعض قطعات الماشية، ولا شك أنّ هذا العمل هو مظهر من مظاهر العنف وإنذار للمسلمين أنّ المدينة لم تعد بعيدة عن متناول أيديهم وأنهم قد يتوقعون غزواً في أي لحظة.

وهنا يتبادر السؤال وهو ماذا يجب أن يعمل الرسول (ص) بعد كلّ هذه الدلائل وقد اقتنع من خبرته العملية أنّ وثنييي مكة سوف لن يتأثروا بسلوكه (ص) السلمي فيخجلوا ويكّفوا عدوانهم.

وكان نصب عينيه حقيقة لا يمكن تجاهلها وهو أنّ من الناس من لا تردعه إلا القوة، وكان (ص) عليه كافة الاحتياطات لإحباط مخططات أعدائه المكيين ولم تنقصه عقلية الحاكم إلى جانب عقلية النبيّ (ص).

فهل من الواجب عليه أن يقبل تحدّي مكة العسكري له وهناك الدلائل الكثيرة أن لابدّ لقيام حرب بينه وبين أعدائه لأنّ أئمة الكفر قد سدّوا الطريق لتعايش سلمي.. بالإضافة إلى أنّ المناوشات والإنذارات قد حددت أعداء الإسلام.

  الوقائع الحربية:

قد نوّهت كتب السيرة عن حدوث 82 واقعة ولكن ما يعتبر غزوة لا يتجاوز (12) اثني عشرة فقط كان معظمها للدعوة للإسلام أو الاستطلاع أو لمطاردة الغزاة، ولم يكن بعضها يحمل سمة الغزوة إطلاقاً إذ كانت مؤلفة من أفراد قلائل مثل سرية عمر بن أبيه (6هـ) وسرية عبد الله بن أنيس (4هـ) بل كان الكفار يطلبون أحياناً جماعة من المسلمين لإرشادهم حتى إذا جاؤوهم، قتلوهم غيلة وغدراً كما في حادث بئر معونة (4هـ) حيث قتل فيها 69 مسلماً فكم غريباً أن نعتبر مثل هذه الحوادث غزوات... على أنّ الغزوات التي يمكن أن تعتبر حروباً هي سبع فقط (بدر و أحد والأحزاب وغزوة تبوك)

ومن المناسب ذكره أن مجموع من قتل من المسلمين في كلِّ هذه الغزوات لم يتجاوز (259) مسلماً ومن قتل من الكفار لم يتجاوز (759) قتيلاً فيكون مجموع قتلى الطرفين (1018) فقط خلال عشر سنوات... فهل يجوز مقارنة هذه الحروب مع أي حرب دينية أخرى؟

يقول جون ديفينبورت John Devenport أنّه قتل بأحكام محاكم التفتيش في أوربا اثني عشر مليوناً من الأشخاص.

هذا ولو تذكرنا أنّ كثيراً ممن قتل في معارك المسلمين كان بسبب سوء فهم للأوامر وغدر المشركين فسيكون عدد القتلى بسبب الحرب أقل كثيراً.

فهل مثل هذا العدد القليل من الضحايا من أجل استئصال الفوضى والظلم في الجزيرة العربية يمنع أن يكون النبي (ص) رحمة للعالمين.

يجب أن نتذكر أيضاً أنّ المعاملة التي عومل بها أسرى رسول الله (ص) كانت مثالية وقد أطلق الرسول (ص) سراح (6337) أسيراً دون قيد أو شرط عدا اثنين منهم قتلوا بسبب جرائم لا تغتفر.

هذه المعاملة المثالية جعلت كثيراً من الأسرى لا يرضى بغير الإسلام ديناً.

أليس هذا كله كافياً أن يبرهن أنّ النبي (ص) كان رسولاً للسلام في المدينة كما كان في مكة.

  المصدر: مجلة الغري/ العدد 13 لسنة 2002م

ارسال التعليق

Top