لا شك أنّ الانفعالات قد أصبحت من أخطر الظواهر التي تهدد حياة الإنسان المعاصر، وكلما زادت الحياة تعقيداً كلما كثر تعرض الإنسان للخبرات الانفعالية الحادة، وكلما احتدم التنافس والصراع بين الإنسان وأخيه الإنسان، كلما زادت حدة الانفعالات التي يتعرض لها. كذلك فإنّ الحياة العصرية تتميز بتعرض الإنسان لكثير من مواقف الفشل والإحباط في تحقيق رغباته وإشباع حاجاته، ونتيجة لذلك ينفعل ويتألم. كذلك فإنّ ما تحمله ظروف الحياة للإنسان من الانتصارات والمفاجآت السارة تجعله ينفعل.
وإذا كانت الانفعالات ظاهرة عامة وطبيعية في الإنسان، إلا أنّها تختلف من مجتمع إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى. ولموضوع الانفعالات أهمية كبيرة، لا لأنّه السلاح الذي أصبح يهدد إنسان العصر وحسب، ولكنه أي الانفعال يمثل دافعاً قوياً يكمن وراء جميع الإنجازات الإنسانية في العلم والفن والشعر والأدب والابتكار والخلق والإبداع، فالعالم أو الفنان لابدّ له من لحظة انفعال تقدح ذكاءه وتلهم عبقريته وتؤكد موهبته وحماسته. والميراث الإنساني كله إن هو إلا أثراً للانفعالات الوردية والحماسة والأمل والرجاء. ومن دواعي الفخر والاعتزاز بتراثنا الإسلامي الحنيف أن له فضل السبق على العلم الحديث في فهم طبيعة الانفعالات ومعرفة آثارها النافعة والضارة، ومن ثمّ كانت دعوة إسلامنا الحنيف لتجنب الانفعالات الضارة أو السلبية، كالغضب والكره والانتقام والحقد والحسد والغيرة والبغض والضيق والسخط والضجر والتبرم والتمرد والعصيان والنفور. بينما كانت هناك الدعوة للأمل والرجاء والتفاؤل والتوكل والاعتماد على الله والشكر والقناعة والزهد والصبر والتقوى والورع والخشوع والطاعة والمحبة والمودة والرأفة والرحمة والشفقة والعطف والحنان والجهاد والرفق وطلاقة الوجه. وطيب الكلام والحياء والتواضع والسماحة؛ وغير ذلك من الانفعالات الإيجابية ذات الأثر الطيب على صحة الفرد العقلية، وعلى سلامة المجتمع، وحسن تماسكه وتضامنه وتآخيه. وفي هذا البحث المتواضع نستعرض مع القارىء الكريم وجهة نظر العلم الحديث في مسألة الانفعالات ثم نبين موقف الإسلام الأغر من هذه المسألة، ولا شك إنّنا في حاجة للعودة لإسلامنا الحنيف لمزج ثقافة العصر وعلومه بتراثنا الأصيل بغية الوصول بمجتمعنا وأبنائه إلى أفضل صور العيش وأكملها. - موقف العلم من الانفعالات: يعرّف الانفعال عالم النفس جورج ميلر G. A – Miller بأنّه أي خبرة ذات شعور قوي، يصاحبها تغيرات جسمية كتغير الدورة الدموية والتنفس وإفراز العرق، كما يصاحبها أفعال قهرية عنيفة، ويعد الانفعال مقابلاً لحالة الهدوء والاسترخاء والسكون. ويذهب جيمس درفر J. Drever للقول بأنّ الانفعال حالة معقدة وليست حالة بسيطة. ومؤدي ذلك أنّ فيها تداخل وتشابك للعديد من العوامل العقلية والنفسية والجسمية والعصبية والغدية. ويرى سان فورد أنّ الخبرة الانفعالية تحتوي على خبرة شعورية، ولها جانبان جانب داخلي وآخر خارجي، وأنّ هذه الخبرة قد تسهل سلوك الإنسان وقد تؤدي إلى إعاقته. ذلك لأنّ المعروف أنّ الانفعالات الحادة تصيب وظائف العقل كالتفكير بالاضطراب. ويدرك علماء النفس صعوبة تعريف الانفعالات تعريفاً جامعاً مانعاً، ولكنهم يتفقون حول بعض الظواهر التي يعتبرونها من قبيل الانفعال كالخوف والغضب والثورة والتهيج والضيق والقلق والفرح والسعادة والتقزز والنفور والاشمئزاز والشفقة والتعاطف والحب. والواقع أن علماء النفس يجدون صعوبة في دراسة الانفعالات وإجراء التجارب عليها ومعرفة أسبابها أو مثيراتها في الإنسان أي لماذا نغضب أو نثور. ولذلك يجد العلماء صعوبة في وضع نظرية علمية لتفسير الانفعالات الإنسانية، وذلك لنقص المعطيات المستمدة من التجارب الواقعية فالاعتبارات الأخلاقية والإنسانية تمنع إجراء التجارب على الانفعالات العنيفة كالكره أو الحزن أو الانتقام أو الإثارة الجنسية، وذلك لاستحالة إحداث هذه الانفعالات صناعياً في معامل علم النفس ومختبراته. ويشك كثير من علماء النفس في أن يحاكي الانفعال "الصناعي" الذي يحدث في المختبر تجريبياً الانفعال الطبيعي الذي يتعرض له الإنسان في مواقف الحياة العادية. يضاف إلى هذا أنّ المنهج المستخدم في دراسة الانفعالات هو منهج الاستبطان أو التأمل الباطني، وهو منهج يعتريه الضعف من وجوه عدة، حيث يعتمد الباحث على ما يرويه المفحوص عما يشعر به أو يوجد بداخله من انفعالات. وتتأثر هذه الرواية بشخصية الراوي وعوامله الذاتية. وللانفعالات تاريخ طويل في العلم، فلقد اهتم اليونانيون بدراسة الانفعالات وربطها بعناصر الدم في الإنسان كالصفراء أو البلغم أو السوداء ورأوا أنّ الانفعالات تزداد حدة أو ضعفاً تبعاً لغلبة أحد هذه العناصر في دم الإنسان. وفي العصور الوسطى دعا المفكرون والفلاسفة إلى التحكم في الهوى غيرالمرغوب فيه، وشجعوا الانفعالات النبيلة كالحب الإلهي. واعتبرت الفلسفات القديمة أنّ الانفعالات تمثل الجانب الحيواني في الإنسان، ومن ثمّ كانت الدعوة لقمع هذه الانفعالات، أما وجهة النظر الحديثة فتتسم بالتسامح تجاه الانفعالات وغيرها من الجوانب اللامعقولة في الإنسان، على اعتبار أنّ الانفعالات ضرورية في الإنسان ولابدّ من تصريفها أو التعبير عنها. - ما هو أثر الانفعال على سلوك الإنسان: يتساءل علماء النفس عما إذا كان الانفعال يسهل السلوك أم يعوقه "بمعنى هل يساعد الفرح أو السعادة أو الغضب أو الغيرة على أداء العمل المطلوب من الفرد أم يعوقه؟ لقد وجد أنّ الانفعال المعتدل والوردي يساعد على السلوك، ويحدث هذا بالنسبة لكافة الأنشطة. فلاعب الكرة حين يبدأ وهو مملوء بالشعور بالأمل في النصر والتحمس والتفاؤل، فإنّه يبذل قصارى جهده. أمّا الشخص الثائر الغاضب المملوء بالعنف فإنّه لا يستطيع أن يحل مشكلة رياضية أو يعيد تركيب ساعته. ومؤدي هذا أنّ السلوك الذي يتطلب القوة العضلية قد ينفعه الانفعال كالملاكم في حلبة الملاكمة أو المصارع. أمّا السلوك الفكري أو الحركي الدقيق الذي يتطلب مهارة الأصابع أو اليدين وتأزرهما، فإنّ الانفعال يعوقه. وعلى كل حال، تلعب الانفعالات في بعض الأحيان، دور الدافع على الإتيان بالسلوك، فانفعال الخوف مثلاً يدفع الإنسان للهرب. ولقد أجريت تجارب عديدة على مجموعات مختلفة من الناس وهم في حالة انفعال، وإن كنا بالطبع لا نستطيع أن ندرس الانفعالات عند الحيوانات لأنّها غير قادرة على التعبير اللفظي عن انفعالاتها الداخلية. ومن التجارب التي أجريت لدراسة الانفعالات دراسة انفعال الطيارين بعد هبوطهم مباشرة من العمليات الحربية، كذلك يمكن دراسة الانفعالات عند الطلب أثناء الامتحانات وعند اللاعبين أثناء اللعب وبعده، وكذلك أمكن دراستها في حالات الحوادث والمشاجرات والأفراح والحروب وتجارب الموت والانتصارات. ولقد أسفرت التجارب عن وجود الكثير من التغيرات التي تحدث من جراء تعرض الفرد للانفعال، من ذلك سرعة تجلط أو تكتل الدم، وارتفاع ضغط الدم وزيادة سرعة النبض، واتساع الممرات الهوائية المؤدية إلى الرئتين، واتساع حدقة العين إلى جانب زيادة إفراز العرق وزيادة ضربات القلب ومعدلات التنفس. ومن أخطر آثار الانفعالات إصابة الفرد بما يعرف باسم أمراض العصر وذلك نظراً لكثرة انتشارها في هذا العصر، ونعني بذلك مجموعة الأمراض والأعراض السيكوسوماتية. - الأمراض السيكوسوماتية Psychosomatic Disorders: إذا استمر تعرض الإنسان لفترات طويلة من الانفعال الحاد – فإنّ التغيرات الفسيولوجية المصاحبة للانفعال تؤدي إلى إصابة الفرد بنوع أو آخر من الأمراض السيكوسوماتية. أي تلك الأمراض التي ترجع لأسباب نفسية، بينما تتخذ أعراضها شكلاً جسمياً. ولقد أسفرت التجارب التي أجراها برادي Brady على القردة التي عرضها لحالة شديدة من التوتر والقلق، أسفرت عن إصابتها بقرحة المعدة فالضغوط النفسية التي يتعرض لها الإنسان تؤدي إلى إصابته بالأمراض السيكوسوماتية كالربو Asthma، والصداع النصفي Migraine، والسمنة Obesity وارتفاع ضغط الدم High blood pressure، والتهاب الجلد Neurodermaitis، والتهاب الغشاء المخاطي أو القولون Colitis، والقرح Ulcers. وهناك دراسات حديثة أسفرت عن وجود بعض أمراض الفم والأسنان وأمراض العيون ترجع إلى ضغوط نفسية. هذا هو موقف العلم الحديث من قضية الانفعالات، بقي أن نسوق للقارىء الكريم موقف إسلامنا الحنيف من هذه القضية العلمية. - الموقف الإسلامي من الانفعال: تخلص النظرية الإسلامية في الانفعالات في الدعوة لتحريم الانفعالات السلبية كالغضب والكراهية والحسد والانتقام، واستحباب الانفعالات الإيجابية كالرحمة والشفقة والتوادد والتوكل والرجاء والأمل. وبذا يكون لإسلامنا الحنيف فضل السبق على العلم الحديث، فالنبي (ص) ينهانا عن الغضب. فعن أبي هريرة (رض) أن رجلاً قال للنبي (ص): "أوصيني، قال: لا تغضب فردد مراراً، قال: لا تغضب" رواه البخاري. والمسلم مدعو لكي يكظم غيظه لقوله تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 134). فالعفو من شيم المسلم، ومن شأنه أن يبعد عنه انفعالات الحقد والانتقام والبغضاء ويقول تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف/ 199). فالبعد عن الجاهلين وأرباب السوء يساعد الفرد على التحلي بالعفو. ويدعونا القرآن الكريم للتعامل بالحسنى. ومن شأن هذا أن تتحول العداوة إلى مودة يقول تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت/ 34-35). ومن شأن التحلي بالصبر أن يبعد عادة سرعة الانفعال يقول تعالى: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ) (الشورى/ 43)، وعن النبي (ص): "إنّ الله تعالى يحب في الناس خصلتين هما: "الحلم والأناة" رواه مسلم. وعنه (ص) قوله في الدعوة للرفق: "إنّ الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه" رواه مسلم. والمعروف، وفقاً لعلم النفس الحديث، أن مظاهر العنف ترتبط بالانفعالات الحادة. وفي استحباب الرفق أيضاً يقول النبي (ص): "إنّ الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شأنه" رواه مسلم. والإسلام الحنيف يدعو إلى اليسر في التعامل مع الناس، ومن شأن هذا أن يخفف من احتمالات التعرض للانفعال، "يسروا ولا تعروا وبشروا ولا تنفروا" متفق عليه. وما أجمل أن نتأسى، نحن المسلمون، بنبينا (ص) في فضائل الحلم والرفق واليسر. فعن عائشة (رض) قالت: "ما خير رسول الله (ص) بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، وكان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله (ص) لنفسه في شيء قط، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله تعالى، متفق عليه. والمسلم مدعو للصفح لقوله تعالى: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر/ 85). وليس هناك أبلغ، في الحض على الحلم وكبح الجماح، من قول نبينا (ص): "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" متفق عليه. والإسلام يدعو لطلاقة الوجه، يقول الحديث النبوي الشريف: "لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق" متفق عليه. والمسلم مدعو أن يتوكل على الله، وأن يقتدي نبينا (ص) وعنه كان يقول: "اللّهمّ لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت اللّهمّ أعوذ بك بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون" رواه مسلم. والمسلم مدعو، عندما يقع عليه جور، أن يقول حسبي الله ونعم والوكيل بدلاً من أن يترك نفسه فريسة للانفعال الفتاك. والمعروف الآن، علمياً، أنّ الوضوء والصلاة والذكر تسبب الراحة النفسية العميقة للمسلم كما تسبب شعوره بالهدوء والسكينة والاسترخاء. ومن ثمّ لا يقع فريسة للانفعال فضلاً عما للوضوء من الشعور بالطهر والطهارة. يقول النبي الكريم: "مَن توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره" رواه مسلم.
المصدر: كتاب (الإسلام والإنسان المعاصر.. دراسة نفسية)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق