لا يتجادل اثنان في كون الدعوة إلى حوار الحضارات تعتبر سمة من سمات النصف الثاني من القرن الواحد والعشرين الذي أفل ، وكأنما أدرك العالم بعد اكتوائه بلظى حروب عالمية مدمرة أن البشرية لا تستطيع أن تتحمل حروباً أخرى بعد أن حصدت ويلات كثيرة أسهمت في تفاقم المشكلات الجوهرية الكبرى التي ظل يعاني منها كل من الغالب والمغلوب، لذلك بادرت جهات ومؤسسات كثيرة في العالم إلى تبني الدعوة إلى حوار الحضارات أملاً في الالتقاء على مبادئ موحدة وقواسم مشتركة بين أتباع مختلف الحضارات حيث تكون كفيلة بفتح الطريق للتفاهم والتعاون والتعايش.
لقد دعت محافل ومنظمات كثيرة إلى حوار الحضارات منذ الستينيات من القرن المنصرم ثم انتهى الحوار إلى أوراق نشرت في كتب وأذيعت في صحف لكنها لم تثمر نتائج ملموسة حتى الآن، وعندما ترددت في أرجاء العالم السياسية والفكرية نظرية (هانتغتون) عن (صدام الحضارات) كان البديل المنطقي الذي تمت المسارعة إلى استدعائه هو (حوار الحضارات) الذي تمت الدعوة إليه بقوة في جميع المحافل والملتقيات وعُملَ على إنجاحه قصد تجنيب العالم ويلات الصراع، وكوارث الصدام الحضاري، وإذا كانت جهات غربية كثيرة قد دأبت على الدعوة إلى حوار الحضارات وفق شروط وضوابط معينة أملتها ظروف التفوق والاستعلاء الغربي، فإن الطرف الاسلامي لم يكن بعيداً عن فكرة تنظيم مؤتمرات وملتقيات دولية لترسيخ آليات الحوار الحضاري من طرف مؤسسات ومنظمات ثقافية إيماناً منها بأن (حوار الحضارات) يعتبر مطلباً إسلامياً مُلحاً يدعو إليه القرآن الكريم وتبشر به السنة النبوية الشريفة.
وبقدر ما تعظم الحاجة إلى حوار جدي بين الثقافات والحضارات لإقامة جسور التفاهم بين الأمم والشعوب ولبلوغ مستوى لائق من التعايش الثقافي والحضاري تقوم الضرورة القصوى لتهيئ الأجواء الملائمة لإجراء هذا الحوار ولإيجاد الشروط الكفيلة بتوجيهه الوجهة الصحيحة، إن نقطة الانطلاقة الأولى لأي استجابة فعالة تبدأ من خلال فهم الذات وفهم الآخر، فالبداية يجب أن نتعرف إلى واقعنا كما هو بالفعل من دون رهبة أو خجل ومن دون تهوين أو تهويل، ثم التعرف إلى الآخر وفهمه وهو هنا الغرب وحضارته.
إن الانعزال والتقوقع والانغلاق على الذات في عالم اليوم الذي تحول إلى قرية صغيرة بحكم التطور التقني الهائل في تكنولوجيا الاتصال أمر مستحيل، كما أن الانسياق وراء الدعوة إلى حضارة عالمية واحدة هو بحد ذاته عملية تكريس لانتصار الحضارة الغربية الكاسحة وهو طريق التبعية الحضارية الذي يفقدنا خصوصيتنا الحضارية ويحولنا إلى جرد هامش لحضارة الغرب.
إن التقاء الحضارات معلم من معالم التاريخ الحضاري للإنسانية، وهو قدر لا سبيل إلى مغالبته أو تجنبه، وقد تمّ دائماً وأبداً وفق هذا القانون الحاكم (التمييز بين ما هو مشترك إنساني عام وبين ما هو خصوصية حضارية).
ولا شك أن الخيار البديل لصدام الحضارات هو أن تتفاعل الحضارات الانسانية مع بعضها بعضاً بما يعود على الانسان والبشرية جمعاء بالخير والفائدة، فالتفاعل عملية صراعية ولكنها متجهة نحو البناء والاستجابة الحضارية لتحديات الراهن، عكس نظرية (صدام الحضارات) التي هي مقولة صراعية تدفع الغرب بإمكاناته العلمية والمادية لممارسة الهيمنة ونفي الآخر والسيطرة على مقدراته وثرواته تحت دعوى وتبرير أن نزاعات العالم المقبلة سيتحكم فيها العامل الحضاري.
والاسلام كدين وحضارة عندما يدعو إلى التفاعل بين الحضارات ينكر (المركزية الحضارية) التي تريد العالم حضارة واحدة مهيمنة ومتحكمة في الأنماط والتكتلات الحضارية الأخرى، فالاسلام يريد العالم (منتدى حضارات) متعدد الأطراف، ولكنه مع ذلك لا يريد للحضارات المتعددة أن تستبدل التعصب بالمركزية الحضارية القسرية، إنما يريد الاسلام لهذه الحضارات المتعددة أن تتفاعل وتتساند في كل ما هو مشترك إنساني عام.
وإذا كان الاسلام ديناً عالمياً وخاتم الأديان، فإنه في روح دعوته وجوهر رسالته لا يرمي إلى تسنم (المركزية الدينية9 التي تجبر العالم على التمسك بدين واحد، إنه ينكر هذا القسر عندما يرى في تعددية الشرائع الدينية سنة من سنن الله تعالى في الكون، قال تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدةً ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات) (المائدة/ 84)، وقال أيضاً: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين. إلا مَن رحم ربك ولذلك خلقهم) (هود/ 118 ـ 119).
إن دعوة الاسلام إلى التفاعل مع باقي الديانات والحضارات تتبع من رؤيته إلى التعامل مع غير المسلمين الذين يؤمنون برسالاتهم السماوية، فعقيدة المسلم لا تكتمل إلا إذا آمن بالرسل جميعاً: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله) (البقرة/ 285). بيد أنه لا يجوز أن يفهم هذا التسامح الانساني الذي جعله الاسلام أساساً راسخاً لعلاقة المسلم مع غير المسلم على أنه انفلات أو استعداد للذوبان في أي كيان من الكيانات التي لا تتفق مع جوهر هذا الدين. فهذا التسامح لا يلغي الفارق والاختلاف، ولكنه يؤسس للعلاقات الانسانية التي يريد الاسلام أن تسود حياة الناس، فالتأكيد على الخصوصيات العقائدية والحضارية والثقافية، لا سبيل إلى إلغائه، ولكن الاسلام لا يريد لهذه الخصوصيات أن تمنع التفاعل الحضاري بين الأمم والشعوب والتعاون فيما بينها.
وفي سياق التفاعل الحضاري المنشود يمكن القول: إن احتمال أن تتقدم حضارة على أخرى بهذا الجانب أو ذاك كما هو الشأن بالنسبة للحضارة الغربية في عالم اليوم، ولكن القول بأفضلية حضارة على أخرى هو قول متهالك، فمن يستطيع إثبات أن هذه الحضارة أفضل من تلك أو أغرز ثقافة أو حكمة وإنسانية وتسامحاً، ولا يوجد في الواقع أي مقياس أو معيار نفيس به هذه الأفضلية في كل الجوانب؟
إن شرط ازدهار هذه القيم في أي حضارة يرتبط أساساً بمدى قدرتها على التفاعل مع معطيات الحضارات الأخرى ومكوناتها وبالتالي الاعتراف بهذه الحضارات ومحاورتها وقبول تعددية الثقافات وتفهم مفاهيم وتقاليد الآخرين، واعتبار الحضارة الانسانية نتاجاً لتلاقح وتفاعل هذه الحضارات لا صراعها فيما بينها أو استعلاء بعضها على البعض الآخر. والحضارة الاسلامية منذ نشوئها وتكونها لم تخرج عن هذا الإطار التواق إلى التفاعل مع الحضارات الأخرى أخذاً وعطاء، تأثراً وتأثيراً. لقد حمل العرب قيم الاسلام العليا ومثله السامية وأخذوا في نشرها وتعميمها في كل أرجاء الدنيا، وبدأت عملية التفاعل بينها وبين الحضارات الفارسية والهندية والمصرية والحضارة الأوروبية الغربية فيما بعد، ومع مرور الزمن وانصرام القرون نتجت حضارة اسلامية جديدة أسهمت في إنضاجها مكونات حضارات الشعوب والأمم التي دخلت في الاسلام، فاغتنت الحضارة الاسلامية بكل ذلك عن طريق التلاقح والتفاعل، وكانت هي بدورها فيما بعد عندما استيقظت أوروبا من سباتها وأخذت تستعد للنهوض مكوناً حضارياً ذا بال أمدّ الحضارة الأوروبية الغربية بما تزخر به من علوم وقيم وعطاء حضاري متنوع.
الشيء عينه يمكن قوله عن الحضارة الغربية التي لم تظهر فجأة، بل تكونت خلال قرون كثيرة حتى بلغت أوجها في عصرنا الحاضر وذلك نتيجة التفاعل الحضاري مع حضارات أخرى هيلينية ورومانية وغيرها، وبفعل التراكم التاريخي وعمليات متفاعلة من التأثر والتأثير خلال التاريخ الانساني الحديث. إن أكبر دليل على أن الحضارة الاسلامية لم تسع في أي وقت من الأوقات إلى التصادم مع الحضارة الغربية كما ينذر بذلك أصحاب نظرية الصدام الحضاري هو أن العرب والمسلمين لم يضعوا في أي زمن من الأزمان صوب أهدافهم القضاء على خصوصيات الحضارة الغربية وهويتها الحضارية، كما نجد الفكر العربي والاسلامي قد اتجه بانفتاح وقوة صوب التراث الغربي للاستفادة منه وتطويره، لقد كان هنالك فعلاً استجابة سريعة للحضارة العربية الاسلامية في تفاعلها مع الحضارة الغربية، وهذا ما لا نلمسه في الحضارة الغربية التي لا تسعى إلى الاستفادة من تراث ومعطيات الحضارات الأخرى.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق