◄تُعرّف القيادة بأنّها: "عملية تحريك مجموعة من الناس باتجاه محدد ومخطط، وذلك بتحفيزهم على العمل باختيارهم"، وعرّفها بعضهم بأنّها: "فن معاملة الطبيعة البشرية والتأثير في السلوك البشري وتوجيهه نحو هدف معيّن وبطريقة تضمن بها طاعته وثقته واحترامه".
مما سبق يمكن القول: إنّ المحاور الأساسية في العملية القيادية هي:
أ- القائد، وهو الموجه لمجموعة من الأشخاص نحو هدف معيّن. لتميزه بمجموعة من الصفات تؤهله للقيادة.
ب- الأفراد وهم الأشخاص الذين يوجههم القائد.
ت- هدف يبتغى الوصول إليه.
ث- أساليب تضمن الوصول لهذا الهدف، من تحفيز، وتأثير في السلوك، وطاعة، وثقة،...
والناظر في آيات قصة ذي القرنين، يرى أنّها كشفت عن تلك المحاور الأساسية في تعريف القيادة فأظهرت ذلك القائد بصورته الجلية وصفاته التي تحلى بها أثناء قيادته لمجموعته نحو الهدف، قال سبحانه وتعالى واصفاً ذي القرنين: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) (الكهف/ 83-84)، "فلقد مكّن له في الأرض، فأعطاه سلطاناً وطيد الدعائم، ويسر له أسباب الحكم والفتح، وأسباب البناء والعمران، وأسباب السلطان والمتاع.. وسائر ما هو من شأن البشر أن يمكنوا فيه في هذه الحياة" فكان قائداً عظيماً سطر له القرآن بين طياته آيات تتلى إلى يوم الدين.
ثمّ تحدثت الآيات عن المحور الثاني من محاور القيادة، ذلك هو: الأفراد، وهم تلك الفئات من البشر الذين وجههم ذو القرنين نحو الخير في شرق الأرض وغربها، فأحق الحقّ بينهم وأبطل الباطل، قال تعالى عن أولئك الأقوام، وكيف وصل بهم ذو القرنين إلى الهدف: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا) (الكهف/ 86-91)، وبعدها استمرت الآيات في الحديث عن هذا المحور، مبيّنة حال أولئك القوم الذين وجههم ذو القرنين نحو هدف منع يأجوج ومأجوج من الإغارة عليهم، فقال سبحانه: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) (الكهف/ 92-95).
وقد تناولت الآيات على بيان المحور الثالث للعملية القيادية، وهو أن يكون للقائد وللأفراد هدف يسعون إلى تحقيقه، وقد كان في الرحلات الثلاث إحقاق الحقّ وإبطال الباطل، ففي الأولى والثانية أقام العدل وحكم بشرع الله وهو قمة الحقّ، وفي الثالثة منع الاعتداء الظالم على القوم من قبل يأجوج ومأجوج.
وكذلك فإنّ الآيات لم تغفل المحور الرابع، وهو الأساليب القيادية المستخدمة من أجل الوصول إلى الهدف، فنراها تارة تعرض أسلوب الحزم والقوّة وتارة أسلوب القدوة، وأخرى أسلوب المبادرة، والحكمة، والتحفيز.. وغيرها من الأساليب التي أتقن ذو القرنين استخدامها في رحلاته الثلاث ليصل بمن يقودهم نحو تحقيق الأهداف المرجوة.
وسنتعرّض – بإذن الله – إلى صفات القائد التي تعدّ من زاوية أخرى وسائل قيادية يستطيع أن يتعامل معها لتحقيق الأهداف، كما سنأتي على المهام القيادية التي تعدّ أهدافاً – يجب على القائد أن يقوم بها خير قيام.
ولا يخفى مدى الحاجة الماسة لأُمّتنا اليوم في أن تربي أبناءها تربية قيادية تحت ظل هدي القرآن، لكي تَخرج وتُخرج الناس من الظلمات إلى النور، فالقيادة عملية تربوية، لأنّ كشف وتنمية المواهب القيادية بالشكل الصحيح يحتاج لمربين يكتشفون ويوجهون من فيهم هذه الصفات الوجهة الصحيحة.
والحقيقة أنّ الأخطاء التربوية في موضوع القيادة كثيرة، ولابدّ أن نقف منها موقف الحذر لنتجنبها، وخير سبيل لاكتشافها وعلاجها الرجوع إلى كتاب ربّنا؛ مدد التربية الإسلامية في كلّ محاورها، وما هذا البحث إلّا محاولة في هذا السبيل، محاولة للكشف عن صفات القائد ومهامه، علها تكون أسطراً فيها الخير والفائدة بإذن الله.
- صفات القائد الناجح:
عرضت الآيات عدة صفات للقائد الناجح، كان منها صفات مكتسبة وأخرى غير مكتسبة، وأظهرت بعض هذه الصفات – وبخاصّة المكتسب منها – على أنّها أساليب يجب على القائد أن يتعامل بها كي يحقق النجاح في العملية القيادية.
ولا شك أنّ القائد المسلم مطالب بهذه الصفات، كما ويجب على المربين الإسلاميين أن يعوا هذه الصفات المستخرجة من القرآن الكريم ويعملوا على إيجاد المكتسب منها في شخصية الأفراد، وينموا الصفات القيادية الأصيلة فيهم ليصلوا إلى عملية تربوية ناجحة في الزاوية القيادية.
أمّا الصفات القيادية التي أظهرتها الآيات القرآنية في قصة ذي القرنين للقائد المسلم فهي:
أوّلاً: الإيمان بالله
التي تعدّ أولى وأهم الصفات في القائد المسلم، كيف لا وهو يسعى إلى تحقيق أمر الله في ممارساته الإدارية مع رعيته، وأهدافه القيادية في فترة رئاسته، والتي تتمثل في نشر الإسلام، وبث روح الإيمان، ومحاربة الظلم والطغيان، ولا يكون هذا ممن لم يعمر قلبه الإيمان.
وقد عرضت هذه الصفة في كلّ محاور حياة ذي القرنين المعروضة في الآيات، التي تكشف عن المعية الإلهية له في مناسبات مختلفة تبدأ من قوله تعالى: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) (الكهف/ 84)، فالله سبحانه قد مكّن له في الأرض وآتاه من الأسباب ما جعله مؤهلاً للقيادة الربّانية وأوّل هذه الأسباب – بلا شك – الإيمان، فهذه العناية ما كان ليحصل عليها لولا تميزه الإيماني.
وتبيّن الآيات دليلاً آخر على إيمانه، تمثل في الكشف عن نوع الفكر الذي يحمله ذو القرنين؛ فكر إيماني يحارب الظلم والشر ويرسخ معالم التوحيد والإيمان، ويرتقي بروحانية الأتباع إلى أسمى المراتب، فها هو يرسخ الإيمان (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا)، بمكافأته للمؤمن أوّلاً، وثانياً ببيان أمر عقدي غيبي وهو: أنّ الجنة جزاء المؤمن، ساعيا بذلك للسمو بإيمان الأتباع، ومحرضاً لهم على ربط أهدافهم برضى الله لنيل جنته.
هذه أبرز صفة يجب على القائد المسلم أن يتحلى بها، ليشعر أنّه صادق في قيادته من خلال سعيه لتحقيق مبدأ الإيمان، وهذه الصفة سبب رئيس في تحقيق التقدم والوصول للهدف، لأنّها سبب في المعية الربّانية والعناية الإلهية للقائد ورعيته.
ثانياً: العلم
إذا لا يتصور أن يصل القائد بأتباعه إلى الهدف المنشود دون أن يلم بقضايا علمية مختلفة ودون أن يكون حكيماً في قراراته وأساليبه.
وقد تميز ذو القرنين في هذا الجانب، فكان عالماً في تخصصات مختلفة، ويظهر ذلك من خلال:
1- قول الله سبحانه (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا)، فمن أهم أُسس التمكين العلم، فلولا العلم لما كان له هذا التمكين.
2- قول الله سبحانه (فَأَتبَعَ سَبَباً)، وقوله سبحانه (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً)، وفي هذا بيان على قدرة ذي القرنين على اتباع الأسباب الموصلة إلى شرق الأرض ومغربها، وما هذا إلّا لقدرته العلمية على ذلك، مع معرفة الأسباب – العلوم – واتباعها ليصل إلى ما يصبو إليه.
والآيات الكريمة تحدّثت عن أنواع متعددة من العلوم التي كان يتقنها ذو القرنين – موجهة القادة المسلمين والمربيين إلى الاهتمام بهذه العلوم الضرورية لكلّ قائد – ومنها:
1- علوم في إدارة الناس من:
أ) القدرة على معرفة أحوال الناس، والتفريق بين الصالح والطالح منهم.
ب) استخدام الأساليب المتنوعة في إصلاح الرعية وإدارة شؤونهم، كأسلوب الترغيب والتعزيز والمكافأة التي منحها للمؤمنين.
ت) التميز في مهارات الاتصال بالجماهير، والحكمة في اختيار وانتقاء الكلمات المؤثرة.
وهذا هو ما كان من ذي القرنين؛ في خطابه، فكان متميزاً في إختيار الكلمات والأساليب ليربطها بالواقع المعاش، حتى يصل إلى مرحلة الإقناع الكامل، وهذا ما يجب أن يربى عليه القادة من إتقان فن الإتصال بالجماهير، لأنّه من أهم سبل التغيير التربوي المنشود.
2- العلوم العسكرية: من تسيير الجيوش وضبطها، والعلوم التابعة لذلك كالجغرافيا مثلاً، والتخطيط العسكري الفعّال، والقدرة على استثمار النصر لما فيه من الخير، والقدرة على التوظيف الاجتماعي للقوّة العسكرية، ويظهر كلّ ذلك من خلال، انتصاراته في الشرق الغرب، ومن خلال إشاعة العدل بعد تحقيق النصر، وكذلك من خلال تقديم العون لمن بين السدين من بناء الردم بينهم وبين يأجوج ومأجوج.
3- علوم تطبيقية: كعلم الكيمياء والهندسة، ويظهر ذلك من خلال بناء السد من اختيار المواد، ومواصفاتها، وطريقة البناء، واختيار الموقع، وكذلك من خلال معرفته بعلوم الأرض وكيفية استخراج المواد، كالحديد، منها، والاستفادة من الطاقات البشرية التي معه في هذه العلوم.
فالعلم من الصفات الأساسية للقائد الفعّال، ومن خلاله يشعر القائد بالثقة بالنفس، مما يزيد من فاعليته، وأهليته في القيادة، والقدرة على اتّخاذ القرار الحكيم في الوقت المناسب.
ثالثاً: القدوة
فيجب أن يراقب نفسه، ويعمل على بث ما يحمل من فكر ومنهج من خلال تصرّفاته التي يمحصها الأتباع للاقتداء به، "فالأفراد ينظرون دائماً ويتطلّعون إلى قادتهم كأمثلة حسنة يقتدون بها ويحذون حذوها، فسلوك القائد ونشاطه وحيويته وأخلاقه وأقواله وأعماله ذات أثر فعلي على عموم الناس".
وهذا ما كان عليه قائدنا الأوّل، نبينا محمّد (ص)، فقد سُئلت عائشة، عن خلق رسول الله (ص)، فقالت: "كان خُلقه القرآن".
أمّا ما كان من ذي القرنين في تحقيقه لهذه الصفة فالأمر بيِّن واضح ومن ذلك:
1- أنّه كان قدوة لهم في تطبيق منهجه الذي أعلن عنه في شرق الأرض وغربها من محاربة الظلم وإعلاء الحقّ فطبّق ذلك كما بيّنت الآيات في قوله الله سبحانه (كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا) (الكهف/ 91).
2- كذلك كان قدوة في إحقاق الحقّ وإبطال الباطل بين السدين، فدفع أذى يأجوج ومأجوج عن الناس بالردم عليهم، وقد اقتدى به أتباعه في البناء إذ كان يشارك في البناء والتخطيط، ويدل على ذلك قول الله سبحانه على لسان ذي القرنين: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) (الكهف/ 96).
3- كذلك كان قدوة لهم في الإيمان، من خلال بث الروح الإيمانية التي كان يتأثر بها، فيؤثر في غيره، كما في خطابه في نهاية قصته (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) (الكهف/ 98).
رابعاً: المبادرة
"من الأُسس الضرورية واللازمة للإدارة الناجحة أن يكون المسؤول قوياً إذا عزم الإقدام على تنفيذ ما يجب تنفيذه فلا يكون ضعيفاً ولا متردداً، لأنّه بالضعف والتردد تفوت مصالح كثيرة وبالقوّة والعزم يجتاز المسؤول العقبات ويحطم المعوقات ويجتهد في بلوغ الغاية وتحقيق المصلحة"، وقد مثل ذو القرنين مبادرة القائد الناجح خير تمثيل، فهو ابتداء بادر بالخروج بعد أن عزم عليه إلى مناطق حكمه، في الشرق والغرب، كي يحقق الخير ويصل إلى هدفه ومبتغاه.
وتلحظ المبادرة كذلك في بناء الردم، فبعد أن وعى المشكلة التي كان يعيشها القوم، بادر إلى إيجاد حل عملي لهم، فبدأ ببناء الردم الذي حماهم من تلك الهجمات.
فبالمبادرة يحقق القائد النجاح، لأنّه يصل إلى الإنتاجية وتحقيق الغاية والهدف، كما أنّ المبادرة تعمل على استنهاض همم الأتباع نحو العمل، فعندما يرى المقودون أنّ القائد يرفع شعاراً، ثمّ ما يلبث أن يتحرك مبادراً نحو تحقيق هذا الشعار عملياً حتى يندفعوا خلفه عاملين منتجين.
خامساً: الحزم والقوّة
إذ إنّ "شخصية القيادي تعتمد على الشجاعة والثبات والإقدام، والنجدة وإصدار الأوامر والأحكام، فإنّ القيادي الفذ ما كان حكيماً قوياً شجاعاً عند الحرب والدفاع عن الأُمّة والوطن" أمّا القائد الضعيف فلا يعدو أن يوصف بالفشل وعدم القدرة على القيادة، وإن قلنا إنّ القيادة والحزم والقوّة عناصر مترابطة فإنّنا لا نبالغ في ذلك.
والقوّة المنتظرة في القائد متعدّدة متنوّعة، منها كما بينتها الآيات:
1- القوّة في اتّخاذ القرار. ومن ذلك قول الله سبحانه عند وصول ذي القرنين إلى الغرب: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا) (الكهف/ 86)، فكان قراره حازماً قوياً عادلاً وهو: (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا) (الكهف/ 87-88)، دون أن يكون في قراره تردد، اتّخذ موقفاً واضحاً من القوم الذين دخل بلادهم فاتحاً منتصراً.
2- القوّة في العقوبة وإصدار الأحكام: كما أظهرت الآيات في قوله: (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ)، فهذا موقف قوي وقرار حكيم: إيقاع العقوبة على المعتدي الظالم، ولعلّ مثل هذه القرارات بحاجة إلى قوّة بالغة، خاصّة إن كان الظلمة أصحاب سلطة وجاه، لكن القائد الحكيم القوي لا يخشى في الله لومة لائم.
3- القوّة في النجدة: من ذلك ما كان منه بين السدين عندما استخدم قوته منجداً أولئك القوم من اعتداء يأجوج ومأجوج عليهم.
4- قوّة الإرادة: "التي تعدّ ركناً من أركان الشخصية القيادية والتي بها تذلل الصعاب، وبها تحل المشكلات، وبها تجتاز العقبات".
سادساً: الرحمة مع رعيته
فلابدّ كي يستمر حبّ الرعية للقائد أن يشعرهم بالعطف والرحمة في تعامله معهم، فالفظاظة والبطر لا يجلبان على القائد إلّا الكره والحقد الذي يملأ قلوب المقودين، مما يؤدي إلى الضعف في الطاعة وفي التحرّك الصحيح نحو الهدف.
ولا تعارض – عند القائد الناجح – بين القوّة والرحمة، بل إنّ الرحمة مظهر من مظاهر قوّة القائد، وقدرته الفائقة على التعامل مع جميع الأفراد كلّ حسب ما يناسبه، ومن جهة أخرى تعتبر دليلاً على ثقته بنفسه.
وهذا ما كان من ذي القرنين عندما طبّق العدل في الغرب وفي الشرق، فالناظر في كلامه، والذي سطرته الآيات في قول الله على لسانه: (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا)، يشعر بقوّته في تطبيق هذه الخاصية من الرحمة بمن يستحقها. "فلم تخرجه قوّته إلى البطر، بل كانت قوّته في خدمة دين الله ودعوته، وكانت سبباً في رحمته وشفقته برعيته المؤمنة"، فبالرغم من انتصاراته وفتوحاته للبلاد، قد عامل أهل تلك البلاد بما يستحقون من تعذيب للظلمة، ورحمة ورأفة للمحسنين.
ولابدّ أن نعلم أنّ رحمة القائد هي دليل إيمانه، لأنّها مستمدة من رحمة الله سبحانه، فهو يشعر بعظيم رحمة الله، فيكون لهذا الشعور أثر عملي في حياته فيعامل رعيته بكلّ أشكال الرحمة، (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) (الكهف/ 98)، وقد وصف الله سبحانه نبيّه (ص)، قائدنا ومربينا بهذه الصفة في أكثر من موقع فقال سبحانه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة/ 128).
سابعاً: التواضع
فلا يتكبر في معاملته مع رعيته، ولا يشعرهم بذلك، بل يجب أن يكون قدوة لهم في خفض الجناح للصالح منهم، وقد نبه الله سبحانه في العديد من الآيات على وجوب تحلي المسؤول بهذه الصفة، منها قوله سبحانه لمحمّد (ص) القائد الأوّل للمسلمين: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء/ 215)، وقوله سبحانه للمؤمنين موجها إياهم نحو هذه الخاصية بنهيهم عن التكبر والبحث عن العلو: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص/ 83).
وإن عدنا إلى آيات سورة الكهف ونظرنا إلى حديثها عن هذه الصفة في ذي القرنين، نجد أنّها قد بيّنت هذه الصفة بدقة، من حيث وجودها فيه، وكذلك تأثيره التربوي في غيره في إيجاد هذه الصفة في رعيته وأتباعه.
ثامناً: الزهد فيما عند الرعية
والزهد بين واضح في الآيات كصفة تميز بها ذو القرنين، "الذي زهد في المال واستعلى عليه، مقدماً لنا صفة من صفات الحاكم الصالح العادل الزاهد، وهو يدعو حكام المسلمين ليقتدوا به في هذه الصفة"، فقد قال سبحانه واصفاً زهده: (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) (الكهف/ 94-95)، فقد عرض عليه هؤلاء القوم مالاً كي يبني لهم سداً يحميهم من تلك الهجمات الوحشية، وقد كانوا في حالة شدة يقدمون لأجلها كلّ ما يطلبه ذو القرنين، لكنّه وهو القائد المؤمن صاحب الصفات علم أنّ هذا واجب عليه وليست منة منه عليهم، فالقائد مسؤول عن أحوال رعيته، فلم يستغل ظرفهم ليجمع ما معهم ويطلب منهم ما يشاء لمساعدتهم، بل زهد بما عندهم، وبيّن أنّه غير محتاج لما معهم من مال، وأنّ ما آتاه الله من التمكين وأسبابه خير له مما معهم.
فالقائد المسلم مطالب بأن يتحلى بهذه الصفات من: إيمان يصله بالله، وعلم يمكنه من الإدارة الناجحة، وحكمه تهيؤه من اتّخاذ القرار المناسب، وأن يكون قدوة لأتباعه ليستمر الإعمار والبناء، وأن يزهد عما في أيديهم ليبقى الود والحبّ والاحترام والطاعة، وأن يريهم من نفسه تواضعاً عالياً لترتفع مكانته في أعينهم، وأن يعاملهم برحمة، وأن لا يستخدم القسوة إلّا مع من يستحقها، وأن يظهر قوّته وقدرته الإيجابية في شتى المواقع والميادين، وأن يكون مبادراً للإنتاج.
- مهام القائد:
بيّنت الآيات الكريمة عدة مهام يطلب من القائد القيام بها على أحسن وجه، منها:
أوّلاً: إقامة الشرع.
ثانياً: الاهتمام بأحوال الرعية.
ثالثاً: تنشيط الهمم واستثمار الطاقات في الإنتاج. ►
المصدر: كتاب تعلّم الحياة مع قصص سورة الكهف
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق