◄يراهن عشّاق الديمقراطية على حياة مثالية في المجتمع السياسي حين تمارس وتتبنى الديمقراطية، لأنّها النظام السياسي الذي يتيح فرصاً دستورية منتظمة لتغيير الفئة الحاكمة، وكذلك تُهيئ تنظيمات اجتماعية تُسمح بأن يكون للسواد الأعظم من السكّان تأثير في القرارات الهامة، وذلك عن طريق الاختيار بين المتنافسين على المراكز السياسية، في حين تعرّف الديمقراطية في المجمع الراقية بأنها نظام سياسي يتيح فرصاً دستورية دورية لتغيير المسؤولين الحكوميين، وميكانيزيا اجتماعية تسمح لأوسع قطاعات السكان بالتأثير في القرارات الكبرى بالاختيار بين المتنافسين على المناصب السياسية[1].
والفهم المعاصر المألوف للديمقراطية يراها في حرية الإعلام والتعبير عن الرأي الحر الذي يتجرّد من الاتصال المباشر بالحكومات ومؤسساتها، وإن كان هذا معلم من معالم الديمقراطية الحديثة.
وتحاول الديمقراطية من خلال مختلف الأساليب تجنّب الممارسات الاستبدادية والدكتاتورية في ممارسة السلطة وفي الوصول إليها، بل أنّها جاءت لتقضي على الاستبداد والدكتاتورية، اللذين كانا يتمثّلان في الحكومات الأتوقراطية والارستقراطية المدعومة من قبل الكنيسة. ولكن في الواقع لازالت الديمقراطية عاجزة عن الحيلولة دون بروز أنواع من الديكتاتورية والاستبداد في إطار أنظمتها السياسية.
ويبدأ هذا الاستبداد بالعملية الانتخابية وينتهي بممارسة الجماعة الفائزة للسلطة. ففي العملية الانتخابية لا يرشح سوى المنظّمين إلى جماعات السياسيين المحترفين وأصحاب رؤوس الأموال والقادة الحزبيين في قوائم حزبية لا تمثل طبقات الشعب مطلقاً، بل تمثل تلك الجماعات، التي هي شكل أكثر تعقيداً من أشكال الارستقراطية السياسية والاقتصادية. وبالتالي فإنّ الاستبداد الديمقراطي يبدأ من الترشيح للانتخابات إذ لا علاقة للشعب بإقرار هؤلاء المرشحين، بل قوى الاستبداد التي تقف إمّا خلف الكواليس أو على المسرح وخلال عملية التصويت تمارس هذه القوى أشكالا أخرى من الاستبداد[2].
ومهما كان السحر الديمقراطي الذي خلب الألباب، فإنّ الديمقراطية لم تستكمل صورتها المثالية في أذهان الغربيين أنفسهم، وكأنّها تمرّ بمرحلة التشكّل والتأسيس، فهي مازالت وكأنها بطور التشكّل النظري، شأنها شأن الحداثة الأوربية[3] التي غزت الآداب والفنون الأوربية وطبعت الفكر الأوربي بهذه النظرية، فالاطمئنان والاسترسال لمفاهيم ومسلّمات هذا المدّ الديمقراطي، الذي يدعو ويروّج للفكر الديمقراطي لا يمكن قبوله والوقوف عليه كثيراً كحقيقة نظرية اكتسبت صفتها العلمية.
واعتبر العالم الأمريكي صموئيل هنتجتون أنّ الديمقراطية ظهرت في العالم وفي الغرب الليبرالي بثلاث موجات، الموجة الأولى كما حدّدها تكمن جذورها في الثورتين الفرنسية والأمريكية وما صاحبهما من تبلور مؤسسات ديمقراطية خاصّة بهما بعد فترة من الزمن (ق 19)، ولقد انتشرت هذه الموجة من الولايات المتحدة وفرنسا إلى سائر الدول الأوربية الأخرى، حيث بريطانيا وإيطاليا ثمّ إيرلندا وإيسلندا وبعض دول أمريكا اللاتينية كالأرجنتين وشيلي، وقد وصلت هذه الدول إلى ثلاثين دولة.
والموجة الثانية والتي بدأت في منتصف أربعينيات القرن العشرين وانتهت في أوائل الستّينات منه، شملت بعض الدول مثل ألمانيا الغربية وإيطاليا والنمسا واليابان وكوريا والأرجنتين وكولومبيا وبيرو وفنزويلا وبعض الدول الأفريقية، ثمّ أخيراً الموجة الديمقراطية الثالثة والتي بدأت كما حدّدها في منتصف السبعينات 1974، وشملت انهيار النظم الدكتاتورية الشيوعية، بدأ بالبرتغال 1974 ونهاية بالاتحاد السوفيتي 1989م[4].
وإذا كانت صورة الديمقراطية لم تستكمل بعد، فإنّ شعاراتها وخيالاتها أكثر وأكبر من واقع وحياة الإنسان التي يعيشها وعاشها في تاريخه الموغل القديم وإلى الآن، لأنّ وضع وخلق حياة سياسية ومثالية يبدو غير متحقّق وغير قابل للتحقّق، لأنّ تصادم الإنسان مع أخيه الإنسان لا ينفكّ ولا ينتهي، لكثرة طموحات الإنسان وغلبة الشهوات عليه وحبّه لنفسه، والأنانية المفرطة التي يتقوقع حولها الإنسان لا تتيح له أن يتنازل عن شهواته المفرطة ونزعاته اللامحدودة فيمسي أسير الأفكار الاستبدادية التي تعصف بها الرؤى والأحلام الفردية، فيعتقد صواب هذه الأمواج من الأفكار التي يخلع عليها ثوب الديمقراطية، وهي أفكار وهمية لا تنتسب إلى الديمقراطية الدعاة بل إلى الدكتاتورية والفردية أقرب.
وقد لا نغالي إذا قلنا: إنّ الليبرالية الحديثة قد اشتطت كثيراً وتجاوزت حتى القيم الديمقراطية التي تنادي بها بل تنكّرت لها، وأصبحت تقدّس الذات المنفلتة التي لا تستطيع أن تدرك الحقائق بغيّها وعتوّها.
وقد نرى من طرف خفيّ تحذيرات علي (ع) التي استبق بها الزمان والمكان، وذلك يتراءى لنا حين يتحدث علي (ع) عن عيوب التصورات والأوهام الديمقراطية – مجارةً للغة العصر – فيقول: أيها الناس خذوها عن خاتم النبيين (ص) أنّه يموت من مات منّا وليس بميّت، ويبلى من بلي منّا وليس ببال، فلا تقولوا بما لا تعرفون، فإنّ أكثر الحقّ فيما تُنكرون، وأعذروا من لا حجّة لكم عليه – وهو أنا – ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر، وأترك فيكم الثقل الأصغر! قد ركزتُ فيكم راية الإيمان، ووقفتكم على حدود الحلال والحرام، وألبستكم العافية من عدلي، وفرشتكم المعروف من قولي وفِعلي، وأريتكم كرائم الأخلاق من نفسي، فلا تستعملوا الرأي فيما لا يُدرك قعره البصرُ، ولا تتغلغل إليه الفكرُ[5].
وتأمّل مثل هذا النصّ الذي يحذّر الناس من الاندفاع نحو الشعارات البرّاقة والأفكار الهدّامة في قوله (ع): "أكثر الحقّ فيما تنكرون" يساعد الباحث على الوقوف على سلبيات وعيوب الأفكار الديمقراطية الحديثة.
الهوامش:
[1]- موسوعة الثقافة السياسية الاجتماعية الاقتصادية العسكرية: 732.
[2]- علي المؤمن، مجموعة مقالات المؤتمر العاشر للوحدة الإسلامية: 363.
[3]- الحداثة مصطلح استخدم لوصف ظواهر عديدة في عصور مختلفة، وهو اتجاه عام في الغرب شمل معظم الآداب والفنون، فالحداثة حركة تعمل على حماية عنصر الجمال الشكلي ضد التهديد الذي توجهه العناصر المذهبية الفكرية والاجتماعية والسياسية. معجم مصطلحات عصر العولمة ص77 رقم 479.
[4]- أحمد حسين حسن، الجماعات السياسية والمجتمع المدني: 121.
[5]- نهج البلاغة، ص120، خطبة رقم 87.
المصدر: كتاب معالم الفكر السياسي ونظرية الدولة في الإسلام
ارسال التعليق