• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

صورة النبي نوح بين القرآن والتوراة

د. محمد كريم كوّاز

صورة النبي نوح بين القرآن والتوراة

لنتفحص الآن، شخصية أو صورة النبي نوح على سبيل التمثيل، لنرى مراحل تكونها بحسب نزول القرآن، ونضع اليد على الأجزاء المستبعدة منها، والأجزاء التي تم التركيز عليها، والأجزاء المستحدثة التي تفيد في واقع الدعوة المحمدية. وعندما نقول "المستحدثة" فإننا نقصد سرد الأجزاء من خلال ثقافة العصر، مفاهيمها وعاداتها وآدابها وطبيعة علاقاتها، أي أنّ السرد هنا، يراعي وجهة النظر التي استحدثها القرآن، وهو ينزل في عصر يختلف عن العصر الذي وقعت الأحداث فيه.
في المواضع الأولى التي ذُكرت فيها قصة نوح، إشاراتٌ إلى الأقوام التي كذبت رسلها، على سبيل الإجمال، وأوّل تفصيل للقصة يأتي في "سورة الأعراف": 59-64 (تس 39): (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ).
تبدو عناصر القصة على الشكل الآتي:
1- إرسال الله نوحاً إلى قومه.
2- دعوة الرسول إلى توحيد الله وإنذارهم بعذاب الآخرة.
3- صدود قومه عنه ومجادلتهم في دعوته.
4- كشف تعجبهم من إرسال الرسول رجلاً منهم.
5- النهاية بعذاب المكذبين ونجاة المؤمنين.
"سورة الشعراء" (تس 45) تضيف أوصافاً أخرى:
6- أمانة الرسول.
7- إنّه لا يطلب أجراً أو ثمناً لدعوته.
8- إنّه لا يستطيع رد من آمن به من المستضعَفين أو الأراذل كما يسميهم الخصوم، بمعنى أن من آمن به جمع غفير لا يقوى على مخالفة إرادته.
9- تهديد الرسول بالرجم.
10- توجّهه إلى الله بعد أن ضاقت به سبل الدعوة.
وتكرر السورة "سورة الشعراء" موجزاً لنجاة نوح ومن معه في الفلك المشحون وإغراق الآخرين. (الشعراء: 105-120).
وفي "سورة الإسراء" (تس 48):
11- إشارة إلى أن بني إسرائيل هم من ذريته، ممن كان محمولاً مع نوح. (الإسراء: 3).
ويأتي في سورة هود تفصيل آخر، سنترك المواضع المكررة المذكورة في ما سبق، ونركّز على الملامح الجديدة:
12- استخفاف قوم نوح به، لأنّه يدّعي أنّه رسول نذير، وهم يرونه بشراً مثلهم، ليس له من فضل عليهم.
13- عجزه عن إفهامهم دعوته، وهم كارهون.
14- تأكيد بشريته وكونه رسولاً من الله فحسب، فليس عنده خزائن الله، ولا يعلم الغيب، ولا يدّعي أنه مَلك، ولا يستطيع الحسم في إيمان المؤمنين به.
15- عجزهم عن جداله وطلبهم أن يأتيهم بما يهدد به، أي مطالبتهم بشيء معجز.
16- العودة إلى الله، فهو الذي أراد أن يغويهم، لأنّه ربهم وإليه يرجعون.
17- إعلان مسؤوليته عن دعوته وبراءته من كفرهم.
18- الإيماء إلى نوح بأنّه لن يؤمن من قومك إلا من آمن.
19- الإيحاء إليه بصناعة الفلك وبيان سخريتهم منه.
20- مجيء الأمر الإلهي بالطوفان، وبأن يحمل زوجين اثنين من كل مخلوق وأهله والمؤمنين به وهم قلة.
21- وصف أمواج الطوفان، ونداء نوح ابنه وعصيان الابن بصعوده إلى جبل.
22- ذهاب الماء ورسو السفينة على "الجودي".
23- مناجاة نوح ربه بشأن ابنه وردع الرب له.
24- الهبوط بسلام. (هود: 25-48).
وفي "سورة يونس" (تس 51):
25- تفصيل حوار نوح مع قومه.
26- هو مأمور بأن يكون من "المسلمين".
27- أنّ الله بعث من بعده رسلاً إلى أقوامهم. (يونس: 71-74).
وفي سورة "الصافات" (تس 53):
28- أن إبراهيم من شيعة نوح. (الصافات: 83).
29- تسويغ تكذيبهم له لأنهم يرون أنّ الله يُنزل ملائكة لا بشراً مثلهم، فهو – إذاً – مجنون. (المؤمنون: 25).
وفي "سورة الأنعام" (تس 69).
30- من ذرية نوح، وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون. (الأنعام: 84).
وفي "سورة نوح" (تس 71):
31- تفصيل الحوار وبيان أدلة جداله مع قومه.
32- تفصيل عنادهم وصدودهم.
33- ذكر آلهتهم وأصنامهم: "ود" و"سواع" و"يغوث" و"يعوق" و"نسر".
34- دعاء نوح إلى قومه. (نوح: 1-28).
وفي "سورة العنكبوت" (تس 83):
35- بقاء نوح في قومه تسعمئة وخمسين سنة. (العنكبوت: 14).
وفي "سورة القمر" (تس 85):
36- وصف نوح بالجنون من قبل قومه.
37- آية نوح هي السفينة التي بناها بعناية الله. (القمر: 9-16).
وعندما تأتي المرحلة المدنية من الوحي، تختلف القصة اختلافاً بيّناً عما في المرحلة، المكية، فلم يعد فيها تفصيل، فيرد نوح ضمن مجموعات الأنبياء التي يشار إليها في قضية معينة، يجري الكلام فيها، كأخذ الميثاق أو الوحي أو علاقات الأنبياء في ما بينهم.
يندرج اسم "نوح" ضمن كتاب مواليد بني آدم الذي بدا الإصحاح الخامس من "سفر التكوين" به، وهو يذكر عمر آدم قبل أن يلد ابنه شيثاً، ثمّ عمره بعد ولادته. وكذلك الأمر مع سلسلة طويلة من المواليد، فمثلاً "وعاش شيث مئة وخمس سنين وولد أنوش، وعاش شيث بعد ما ولد أنوش ثماني مئة وسبع سنين وولد بنين وبنات فكانت أيام شيث تسع مئة واثني عشرة سنة ومات". وتتوالى السلسلة:
أنوش، قينان، مهلائيل، يارد، أخنوخ، متوشالح، لامك، نوح.
لقد حرصت التوراة على التنصيص على عمر كل شخص في هذه السلسلة، وتفصيله قبل ولادة الابن وبعدها وبعبارات مكررة، ولم يحرص القرآن على ذلك. ربما هناك أسباب كثيرة لذكر التوراة التفاصيل، إلا أنّنا يمكن أن نقول إن سلاسل النسب ومدد الأعمار، لم تعد ذاته فائدة في القرآن، لأن غاية القرآن، من ذكر قصص الأنبياء والأُمم السالفة، هي أخذ العبرة والموعظة، فكانت وجهة النظر القرآنية تتجه نحو مَعْلم خاص من معالم القصة، وتجعله محوراً لها، في حين تترك المعالم الأخرى.
وذكرت التوراة لنوح ثلاثة أبناء: سام وحام ويافث، لم يذكرهم القرآن. وتعرض التوراة أسباب الطوفان الذي يمثل غضب الرب: "وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض وولد لهم بنات. أن أبناء الله (أو أبناء الآلهة) رأوا بنات الناس أنهن حسنات. فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا. فقال الرب لا يدين روحي في الإسلام إلى الأبد لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا. فقال الرب لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد لزيغانه هو بشر وتكون أيامه مئة وعشرين سنة. كان في الأرض طغاة في تلك الأيام. وبعد ذلك أيضاً إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولاداً. هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم. ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض. وأن كل تصوّر أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم. فحزن الرب أنّه عمل الإنسان في الأرض. وتأسف في قلبه. فقال الرب أمحو عن وجه الإنسان الذي خلقته. الإنسان مع بهائم ودبّابات وطيور السماء لأني حزنت أني عملتهم. وأما نحو فوجد نعمة في عيني الرب.. وفسدت الأرض أمام الله وامتلأت الأرض ظلماً. ورأى الله الأرض فماذا هي قد فسدت. إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه على الأرض".
والقرآن لم يعرض هذا في أسباب الطوفان، فقد وصف قوم نوح بـ: (إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى) (النجم/ 52). (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) (الذاريات/ 46).
وعلى مستوى آخر، تبدو صورة الرب في التوراة مختلفة عنها في القرآن. الصورة التوراتية تجعله قريباً جدّاً من الإنسان، يحزن ويتأسف وينتقم، ويبيد مخلوقاته التي يفترض أنه خلقها. ولهذه الفكرة مجال آخر، نريد من ذكرها هنا أنّ القرآن قدّم صورة أخرى للرب (الله) متطورة عما هي عليه في التوراة، وكذلك عما هي عليه في الإنجيل، أي في طورها الأخير من أطوار التجريد والإطلاق.
يقابل وصف نوح التوراتي "وأما نوح فوجد نعمة في عيني الرب"، وصف القرآن له:
(إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) (الإسراء/ 3). (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (الصافات/ 81).
وأمر الله نوحاً بصناعة الفلك "اصنع لنفسك فلكاً من خشب جفر. تجعل الفلك مساكن. وتطليه من داخل ومن خارج بالقار. وهكذا تصنعه ثلاث مئة ذراع يكون طول الفلك وخمسين ذراعاً عرضه وثلاثين ذراعاً ارتفاعه. وتصنع كوى للفلك وتكمّله إلى حد ذراع من فوق. وتضع باب الفلك في جانبه مساكن سفلية ومتوسطة وعلوية تجعله".
والقرآن يخلو من تفاصيل صناعة الفلك، ومن بيان أطواله، وموضع بابه، وكيفية السكن فيه. ما جاء في القرآن يصوّر أنّ الله أوحى إلى نوح، بصناعة الفلك بوصف موجز جدّاً: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا) (هود/ 37). (فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (الشعراء/ 119). (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ) (القمر/ 13).
ولكن شأن الفلك، بالنسبة إلى العلاقة بين الله ونوح في القرآن، على درجة كبيرة من الأهمية، إذ إنّ الفلك في القرآن آية، أي معجزة منحه الله إياها، إشارة إلى أنّه رسول من عند الله: (جْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر/ 14-15).
وهذا يعني أن هناك تفاصيل كثيرة أُهملت؛ تفاصيل الصناعة التي قدمتها التوراة، مما لا يعني شيئاً مهماً بالنسبة إلى المخاطَبين بالقرآن. المهم أن تكون هناك معجزة؛ آية من الله، وقد تحقق الإعجاز في قصة نوح، في الفلك التي صنعت بوحي الله ورعايته، ولها القدرة على حمل نوح وأهله وزوجين من كل المخلوقات، أي أنها لا تجري بسبب مادي، بل بأسباب إلهية.
وفصلت التوراة كذلك، في أمر الراكبين في الفلك، وكررته: "فتدخل الفلك أنت وبنوك وامرأتك ونساء بنيك معك. ومن كل حي من كل ذي جد اثنين من كل تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك. تكون ذكراً وأنثى. من الطيور كأجناسها ومن البهائم كأجناسها ومن كل دبابات الأرض كأجناسها. اثنين من كل تدخل إليك لاستبقائها. وأنت فخذ لنفسك من كل طعام يؤكَل واجعله عندك. فيكون لك ولها طعاماً".
ثمّ في موضع لاحق: "في ذلك اليوم عينه دخل نوح وسام وحام ويافث وامرأة نوح وثلاث نساء بنيه معهم في الفلك. هم وكل الوحوش كأجناسها وكل البهائم كأجناسها وكل الدبابات التي تدبُّ على وجه الأرض كأجناسها وكل الطيور كأجناسها كل عصفور وكل ذي جناح. ودخلت إلى نوح إلى الفلك اثنين اثنين من كل جسد فيه روح حياة. والداخلات دخلت ذكراً وأنثى من كل ذي جسد كما أمره الله وأغرق الرب عليه".
وقد تُركت في القرآن، كل التفاصيل، إذ لم تعد إليها حاجة، فلم تذكر فيه أسماء أبناء نوح، ولا نساؤهم ولا الوحوش والبهائم والدبابات والطيور، ولا الذكر والأنثى منها. لقد جاء في القرآن: (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ) (هود/ 40). (فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) (المؤمنون/ 27).
واعتمدت التوراة على تفاصيل عُمر نوح، وجعلته تقويماً يستند إليه تاريخ الطوفان، ومع ذلك كان التفصيل في ذكر الحوادث ملازماً لكل حدث من أحداث الطوفان. سنأخذ أمثلة مختصرة من كل ذلك: "ولما كان نوح ابن ست مئة سنة صار طوفان الماء على الأرض، فدخل نوح وبنوه... وحدث بعد السبعة أيام أن مياه الطوفان صارت على الأرض في سنة ست مئة من حياة نوح في الشهر الثاني في اليوم السابع عشر من الشهر في ذلك اليوم انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم... ثمّ ذكر الله نوحاً وكل الوحوش وكل البهائم التي معه في الفلك وأجاز الله ريحاً على الأرض فهدأت المياه. وانسدت ينابيع الغمر وطاقات الأرض فامتنع المطر من السماء. ورجعت المياه عن الأرض رجوعاً متوالياً. وبعد مئة وخمسين يوماً نقصت المياه واستقرّ الفلك في الشهر السابع في اليوم السابع عشر من الشهر على جبال أراراط. وكانت المياه تنقص نقصاً متوالياً إلى الشهر العاشر. وفي العاشر من أوّل الشهر ظهرت رؤوس الجبال... وكان في السنة الواحدة والست مئة في الشهر الأوّل في أوّل الشهر أنّ المياه نشفت عن الأرض. فكشف نوح الغطاء عن الفلك ونظر فإذا وجه الأرض قد نشف. وفي الشهر الثاني في اليوم السابع والعشرين من الشهر جفّت الأرض... وعاش نوح بعد الطوفان ثلاثاً وخمسين سنة. فكانت كل أيام نوح تسع مئة وخمسين سنة ومات...".
ولم يرد ذكر لهذه التفاصيل في القرآن، فمن حيث الأحداث جاء فيه: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (هود/ 44).
ومن حيث عمر نوح: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) (العنكبوت/ 14-15).
وإذا كان القرآن لا يعتمد على عمر نوح، كما اعتمدت التوراة، فإنّه كذلك لم يفصل الأحداث تفصيلاً، ولم يصف جزئياتها كما وصفت التوراة، وترك أحداثاً تقع ضمن قصة الطوفان التوراتية، من ذلك إرسال نوح الغرابَ والحمامةَ لفحص الأرض، وبناء نوح مذبحاً للرب، وبدء حياة نوح الفلاحية وما جرى مع أبنائه.
إنّ ما قدمناه يبين أنّ القرآن، وهو يعرض قصة نوح، ترك أحداثاً منها وردت في التوراة، وأهمل كذلك، كثيراً من الجزئيات والتفاصيل، وعني بالدرجة الأولى، بالمفاصل القصصية التي رآها مهمة في تاريخيته، وهو يتنزل في زمان ومكان معيّنين.
بقي جانب آخر؛ وهو الجانب الذي عرضته قصةُ نوح القرآنية، وهو ملاصق للواقع التاريخي للوحي القرآني. وهنا نقول إنّ القرآن وظَّف القصة لمنفعته، بجعلها إطاراً رتّب تفصيلاته الجديدة بحسب الواقع التاريخي. إنّ الغاية من سرد القصة؛ قصة نوح، تتجلى في أخذ العظة والعبرة منها، فيجب التركيز على تقديمها بشكل يلائم الواقع التاريخي الذي عليه قصة النبي محمد (ص)، فتكون قصة نوح بهذا، معبرة عن الواقع الجديد، بتحول أحداثها، أو تفصيلات أحداثها من الماضي السحيق إلى الحاضر الحي المعيش.
ومن يُلقِ نظرة إلى عناصر القصة التي قدمناها، يكتشفْ بسرعة، أنّ العناصر مشتركة بين الماضي والحاضر، بين نوح ومحمد، فكأنها موظّفة أصلاً للتعبير عن تفصيلات الدعوة الجديدة، ولا سيما ما يتعلق بشخصية النبي محمد، فهي تقدم كشفاً بمسيرة النبي منذ إعلانه النبوة إلى الهجرة، أو تمثل انعكاساً لتاريخ النبوة في المرحلة المكية.
سنتتبع العناصر التي كشفناها آنفاً، في قصة نوح التوراتية، لندلَّ على أنّ المقصود بها عناصر قصة النبي محمد:
1- عن ابن عباس أنّه قال: صعد رسول الله (ص) ذات يوم على الصفا، فنادى: يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش، فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أنّ العدو مصبحكم أو ممسيكم، أكنتم تصدقونني؟ قالوا: بلى، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
2- ولما نزلت الآية (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) (الشعراء/ 214)، قام رسول الله (ص) بالأبطح ثمّ قال: يا بني عبدالمطلب، يا بني عبد مناف، يا بني قصي... حتى مرَّ على آخرهم، إني أدعوكم إلى الله، وأُنذركم عذابه.
ولما نزلت الآية (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر/ 94)، صدع رسول الله بأمر الله، وبادى قومه بالإسلام. فلما فعل ذلك لم يبعد عنه قومه، ولم يردوا عليه بعض الرد، حتى ذكر آلهتهم وعابها. فلما فعل ذلك ناكروه، وأجمعوا على خلافه وعداوته، إلا من عصم الله منهم بالإسلام، وهم قليل مستخفون.
3- ولم يزل رسول الله مقيماً مع قريش في مكة، يدعوهم إلى الله سراً وجهراً، صابراً على أذاهم وتكذيبهم إياه واستهزائهم به، حتى أن كان بعضهم يطرح عليه رحم الشاة، وهو يصلي.
4- عن ابن عباس أن جماعة من قريش اجتمعوا عند الكعبة، فقالوا: يا محمد، إنا دعوناك لنعذر إليك، فإن كنت جئت بهذا لتطلب مالاً أعطيناك، وإن كنت تطلب شرفاً سودناك علينا.
وقد نزلت آيات تحكي أقوالهم، وتفصل حوارهم وجدلهم، ثمّ عقبت القصة بالآية: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا) (الإسراء/ 94-95). وقد دخلت عليهم الشبهة في أنّه لا يجوز أن يبعث الله رسولاً من الملائكة.
وهكذا، نستطيع إعادة ملامح كثيرة من السيرة النبوية من خلال عناصر قصة نوح القرآنية، وهذا يدل على ما سبق أن ذكرناه: توظيف قصة نوح لمعالجة قضايا الحاضر، ولا سيما ما يتعلق بشخصية الرسول محمد في المرحلة المكية من دعوة الإسلام، ويبدو أنّ الأمر نفسه ينطبق على قصص الأنبياء الآخرين، ولا سيما المذكورون في التوراة.

المصدر: كتاب كلام الله.. الجانب الشفاهي من الظاهرة القرآنية

ارسال التعليق

Top