• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التوكل والطريق الشائك

زهير الأعرجي

التوكل والطريق الشائك

◄في حياة الإنسان أيامٌ صعبة شاقة، فيها الكثير من الأشواك.. أيامٌ يضطهد فيها الإنسان لدينه أو عقيدته أو إيمانه.. أيامٌ تكون فيها عقيدة الإنسان على المحك، فيُختَبر ويمحَّص، وهذه هي سنَّة الحياة.. اختبارات فاختبارات فاختبارات..

وليس أمام الإنسان المبتلى في دينه إلّا اختياران، أمّا البقاء وتحمُّل مصاعب العمل، والاكتواء بنار التعذيب والفتنة.. وامّا الهجرة إلى ديار أخرى، حيث الأمن والطمأنينة، حيث ينطلق الإنسان من جديد ليتحرك على نطاق الدعوة إلى الله سبحانه، والعمل الجاد لتثبيت أسس الدين وعقيدة التوحيد.. وهذا ما اختاره المسلمون الأوائل في هجرتهم إلى الحبشة، وهجرتهم الثانية إلى المدينة.. يقول تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ[1] فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (النحل/ 41-42). فالتوكُّل والصبر والهجرة في سبيل الله، أمور على الإنسان أن يضعها في حسابه عند الدخول في دائرة الإيمان والإسلام، لأنّ عقيدة التوحيد تربّي الإنسان دائماً على المعاناة والشدة، فتصوغه صياغة جديدة، فيها الكثير من صفاء السريرة، ونقاء الضمير..

ويذكر لنا القرآن الكريم أنّ النعمة التي أنعم الله بها علينا، وهي نعمة الإيمان والهداية، تستوجب منا نحن البشر أن نتوكل عليه سبحانه، وأن نصبر على أذى المشركين، في سبيل الدعوة إليه.. يقول تعالى في حديث عن قوم موسى (ع): (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (إبراهيم/ 11-12). والمعنى: أنّه إذا كان من الواجب أن نتوكَّل عليه ونحن مؤمنون به وقد هدانا سبلنا فلنصبرنَّ على إيذائكم لنا في سبيل الدعوة إليه متوكلين عليه حتى يحكم بما يريد ويفعل ما يشاء من غير أن نأوي في ذلك إلى ما عندنا من ظاهر الحول والقوة.

وفي موضع آخر يصف القرآن الكريم، حالة المجتمع خلال نزول الرسالة الإسلامية ويجملها.. إنّها كانت أمة كافرة بالرَّحمن، أمّة جاحدة لنعمة الله.. وما على الرسول إلّا أن يتوكّل على الله ويبلّغ رسالة السماء، فلعلَّ الله هادي تلك الأُمّة الكافرة.. يقول تعالى: (كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ) (الرّعد/ 30)، فالتوكُّل على الله سبحانه قرينة لكلِّ المصاعب والمشاق التي يتحملها الرسول في تبليغ رسالته إلى الناس.. فذكْر الله والاعتماد عليه سبحانه بلسم يشفي النفوس المتعبة من أذى الناس وجحودهم وجهلهم..

وفي معركة بدر، والموقف الصعب الهائل، حيث الفئة القليلة المؤمنة تجابه الفئة المشركة، القوية العُدّة، الكثيرة العدد.. كانت هناك فئة من قريش أسلموا بمكة واحتبسهم أباؤهم، واضطروا إلى الخروج مع المشركين إلى بدر حتى إذا حضروها وشاهدوا ما عليه المسلمون من القلة قالوا: مساكين هؤلاء غرهم دينهم، فأجابهم القرآن أنّ التوكل على الله سبحانه، هو الذي يمنح الإنسان المؤمن القوة والعزيمة، وأنّ قوة المؤمن وثباته، إنّما هو امتداد لإيمانه الراسخ بالله سبحانه وتوكله عليه.. يقول تعالى في هذا الصدد: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال/ 49).

وهكذا يعلّمنا القرآن الكريم أنّ التوكل على الله سبحانه في وسط الطريق حيث الأشواك والمعاناة والطريق الدامي، هو العنصر الأساسي في استمرار الدعوة لعقيدة التوحيد.. وأنّ الصلة التي تصل الإنسان بالله سبحانه لابدّ وأن تكون في أوثق ما تكون أيام المحن والشدائد.. وأنّ المدّ الإلهي للإنسان المؤمن هم أعظم عدّة يتسلّح بها الإنسان في مواجهة الشرك والكفر والإلحاد.. (قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الملك/ 29).►

 

الهامش:


[1]- لنبوئنهم: من بوّأت له مكاناً أي سوّيت وأقررته فيه.

 

المصدر: كتاب الأخلاق القرآنية

ارسال التعليق

Top