• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الثورات والأفق الديمقراطي العربي

د. الحبيب الجنحاني *

الثورات والأفق الديمقراطي العربي
◄برهنت جميع التجارب الديمقراطية الحديثة بوضوح على أنّ مفهوم الديمقراطية مرتبط وثيق الارتباط بثلاثة مفاهيم أساسية: الحرية، المواطنة، الدولة المدنية. وأثبت كذلك أنّه كلما غاب ركن من هذه الأركان الثلاثة انهار البناء الديمقراطي، فلا يمكن أن نتصور إمكان تأسيس تجربة ديمقراطية حقيقية تقودها دولة دينية، أو حتى متأدينة، أو في دولة يحكمها العسكر، يستطيع أي جيش وطني أن ينقذ في حالات معينة تجربة ديمقراطية من السقوط، ولكنه غير قادر على بنائها. أود الإلماع في هذا الصدد إلى أنّ مفهوم الديمقراطية، والمفاهيم الثلاثة التي مثلت التربة الخصبة كي ينمو ويينع هي من ثمرات عصر الحداثة الذي أطل من عباءة عصر الأنوار منذ القرن السابع عشر. إنّ التاريخ للديمقراطية يقيم الدليل على مرورها بمراحل متعددة، وبتجارب متنوعة، ولم تترسخ إلا نتيجة صراع فكري سياسي مرير، ينبئ في الآن ذاته بأنّ الدعامة الصلبة لكل التجارب تمثلت بالأمس واليوم في المثلث المفهومي المذكور. إنّ مفهوم الديمقراطية، والمفاهيم الحاضنة لها هي دخيلة على الفكر السياسي العربي الإسلامي، لكننا لا ننكر في هذا الصدد جهود رادة الفكر الإصلاحي منذ القرن التاسع عشر، فقد حاولوا نشر بعض المفاهيم الحديثة، أو القريبة منها فربطوا الحرية بحب الوطن، وربطوا بين الحكم الاستبدادي وخراب العمران مستنجدين في ذلك بابن خلدون في فصله الشهير في المقدمة "الظلم مؤذن بخراب العمران"، وتنبت نخبة من المثقفين مفاهيم الثورة الفرنسية، ولكن كل هذه الومضات بقيت محدودة التأثير، ولم تتجاوز بعض النصوص التي صدرت هنا أو هناك. مع بداية النضال ضد المحتل الأجنبي انصهر مفهوم الحرية في مفهوم التحرر في تاريخ حركات التحرر الوطني، وأمل المواطن العربي أنّه سيحتفل بعرس الحرية في ظلال الدولة الوطنية المستقلة، ولكن سرعان ما خاب الظن، إذ تحولت إلى دولة قامعة يجلس في قمتها العسكر، أو زبانية نظام الحزب الواحد الشمولي، ورزح المواطن العربي في بعض الحالات تحت نير المحنتين! استمرت مرحلة الاستبدادية العربية نصف قرن عنوان البارز كبت الحريات، وقمع أي معارضة مهما كان لونها، ولم يقف الأمر عند الاستبداد السياسي، بل تولدت عنه في العقدين الأخيرين ظاهرتان جديدتان: ظاهرة تفشي الفساد في القمة، واعتبار الوطن "بستانا لقريش"، وظاهرة التوريث، فليس من الصدفة إذن أن تنتشر الشرارة في الأقطار التي تفشت فيها الظاهرتان: تونس،مصر، ليبيا، اليمن، سورية، وليس من الصدفة كذلك أن يتضمن شعار الثورة في تونس ثلاث كلمات "الحرية – الكرامة – التشغيل"، فكلمة الكرامة جاءت تعبيراً عن الحقد الدفين ضد ظاهرتي الفساد، والتوريث، إنني أميل إلى الاعتقاد بأنّ الفساد، وبخاصة مخططات التوريث هما القشة التي قصمت ظهر البعير. إنني حريص في هذا المقام على التلميح إلى المسألتين التاليتين: أوّلاً: إنّ كلّ ثورة لها ظروفها السياسية والاجتماعية، ولها منطقها الخاص. ثانياً: كلّ تجربة ديمقراطية ستمر بظروفها الخاصة، وسيكون لذلك أثر جلي في مستقبلها، وكي نستطيع التنبؤ بالمستقبل لابدّ أن نضع أمام أعيننا القضايا المعقدة التي قذفت بها الثورات إلى السطح، وقد كانت مقموعة. هذه القضايا تكاد تكون واحدة في أقطار الثورات العربية، ويمكن أن نلخصها في النقاط التالية: - انتعاش الروح الطائفية والمذهبية الدينية. - إذكاء الروح الطائفية والمذهبية الدينية. - بروز الحقد الطبقي بإيديولوجية دينية. - انقسام النخبة السياسية والفكرية إلى تراثيين ماضويين، وحداثيين ديمقراطيين.   المواطن العربي والدولة: إنّ مواجهة هذه القضايا الجدية والمعقدة تحتاج إلى دولة مدنية قوية يحترمها المواطن ويهابها، ولكن من المعروف أنّ سنوات الاستبداد جعلت المواطن العربي يخاف من الدولة، ولا يحترمها، ملاحظاً أنّ الدولة مفهوم هش في الفضاء العربي الإسلامي، فالدور الأساسي يعود اليوم إلى قوى المجتمع المدني لدعم الدولة الديمقراطية، وإعادة الاعتبار إليها، مذكرا هنا بما يلي: 1-    المجتمع المدني ليس "موضة"، بل هو ضرورة للوقوف سداً منيعاً أمام موجات الردة والرداءة، وللتصدي لكل محاولات احتكار السلطة، والانفراد بصنع القرار في قضايا مصيرية تمس مصلحة الوطن، وشئون المجتمع، فلابدّ أن تسعى إذن قوى التحرر والتقدم في جميع المجتمعات، وخصوصاً في المجتمعات العربية لدعم قوى المجتمع المدني، وصيانة هذا المفهوم وقيمه. 2-    المجتمع المدني ليس بالضرورة نقيضاً للدولة، أو معادياً لها، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هو صبغة هذه الدولة؟ فإذا كانت دولة ديمقراطية تقوم على مبدأ الشفافية، واحترام القانون، والمؤسسات الدستورية، فإنه يتم التعاون والتكامل بينها وبين قوى المجتمع المدني، أما إذا كانت دولة قامعة، فإنّ قوى المجتمع المدني تتحول بالضرورة إلى قوى معارضة. 3-    تقف قوى المجتمع المدني بالمرصاد لكل جماعة تحاول احتكار السلطة العليا باسم حزب سياسي، أو طائفة، أو مذهب، وتتصرف في شئون الدولة، وكأنها بستان خاص، كما هو الحال في كثير من المجتمعات النامية، ولذا فإنّه من الخطأ عزل المجتمع المدني عن الصراع السياسي الذي يدور في مجتمع ما، فمن أبرز أهدافه النبيلة إلجام السلطة التي تحاول تجاوز الحدود، وتجاهل المصلحة العامة للمجتمع، فهو الذي يعوض صراع أصحاب المصالح، أو أجنحة البلاط من أجل السلطة وامتيازاتها بالصراع من أجل الذود عن الحق، والقانون والمؤسسات. 4-    تزعم القوى المعادية للمجتمع المدني أنّ القيادة العليا هي التي تقوم بالإصلاح، ويعنون ضمنياً أنها تقوم مقام المجتمع المدني، ولكن جميع التجارب التاريخية الحديثة قد برهنت أكثر من مرة أنّ الإصلاح لا يتم برغبات شخصية، بل لابدّ من إشراك المجتمع بكل فئاته في ترشيد مسيرته، وتعزيز خطاه، وهذا يقتضي إزالة جميع العوائق السياسية والقانونية والأمنية التي تمنعه من المشاركة في عملية الإصلاح. ألمحت قبل قليل إلى القضايا المعقدة التي طرحتها بحدة الثورات العربية، فهل يمكن الصمت هنا عن الظاهرة الأبرز، والأشد تعقيدا، والأكثر خطرا عن مستقبل الديمقراطية في الوطن العربي، وأعني الإسلام السياسي، وقد أوصلته الثورات إلى سدة الحكم عبر صناديق الاقتراع، وفرح المواطن العربي بقبول "الحركات الإخوانية" اللعبة الديمقراطية، وسرّ كذلك بإنصاف جمع كبير من المواطنين لقوا ظلما وعنتا شديدين من الاستبدادية العربية، وأمل أن يكونوا دعامة صلبة من دعائم بناء الديمقراطية بمفهومها الكوني الحداثي، وليس التراثي الماضوي، ولكن سرعان ما بدأت تتلبد سحب داكنة في الأفق الديمقراطي العربي نسفت الآمال، ونشرت روح الريبة والارتياب. لماذا بدأ شبح الظلام يلف الأفق الديمقراطي العربي، وبدأت أحلام الأمس القريب تتهاوى اليوم؟ يكمن السبب الرئيسي في تنكر حركات الإسلام السياسي لمفهوم الدولة المدنية، وهي التي تمثل الرمز الأسمى والأسنى لكل تجربة ديمقراطية، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك لما شرعت، ولما يمر على تسلمها السلطة سوى بضعة شهور، في بناء قواعد الدولة الدينية. ماذا يعني أن تتبنى السلطة العليا في بلد مثل مصر تطبيق الشريعة؟ أليس يعني ذلك الزج بالبلاد في أتون الفتنة! قد بدأت فعلا، وأصبحت القوى الموحدة التي أسقطت النظام السابق تتقاتل اليوم في صفين متقابلين، إذ إنّ الانزلاق لم يكن ذا طبيعة سياسية، وهو مقبول في مثل هذه الحالات، ولكنه جاء أخطر، ومنذراً بتقسيم المجتمع إلى جبهتين متصارعتين، فهو انزلاق ذو طابع ديني يخفي أهدافاً سياسية، ولا علاقة له بثورة الشعب، ولا بالقضايا التي ثار من أجلها.   هل حدث ذلك صدفة؟ أشك كلّ الشك، إذ إنّ كثيراً من المؤشرات تبَرهن على أنّ هنالك مخططاً قد دبر بليل، وهو نفس الخطر الذي يهدد اليوم كثيراً من الأقطار العربية والإسلامية، مخطط يهدف بالأساس إلى تهميش قوى المجتمع المدني، والإطاحة بالدولة الحديثة، ونقل حيوية الصراع المجتمعي من حلبة الصراع السياسي والفكري إلى ساحة الصراع الديني.   ما العمل؟ الخطوة الأولى هي أن تتضافر جميع القوى الوطنية على اختلاف رؤاها لمنع الانزلاق في مستنقع الصراع الديني ليبقى الصراع سياسياً فكرياً، ورفض كل محاولات الخلط بين السياسي والديني، والتمسك بالشعار الذي أنقذ كثيراً من الشعوب من المجازر والويلات: "الدين لله والوطن للجميع". هنا يطرح نفسه السؤال التالي: ما الحل للخروج من المأزق الجديد، وإنقاذ أقطار الثورات العربية من الفوضى والتفكك؟ يكمن الحل أولاً وقبل كل شيء في ضرورة التمسك بفصل الدين عن السياسة حتى لا يوظف الدين من أجل أهداف سياسية، ولا السياسة من أجل أهداف دينية.   قد يتساءل القارئ: كيف ذلك؟ عندما توظف حركة سياسية المساجد والإعلام الديني في حملة انتخابية، فهو توظيف للدين من أجل أهداف سياسية، ومن المعروف أنّ النظم الاستبدادية غارقة للأذقان في توظيف الدين، وقد سخرت رجاله، وبخاصة مؤسسات الإفتاء لتحريم المظاهرات الشعبية ضد السلطة. أمّا توظيف الدين للسياسة فقد برز بوضوح في المجلسين التونسي والمصري بعد فوز الإسلام السياسي بالأغلبية للمطالبة بأن تكون الشريعة مصدراً أساسياً من مصادر التشريع، والأمثلة كثيرة من التوظيف بالمعنيين. إنّ إيماني بضرورة النضال من أجل فصل الدين عن السياسة ليس نابعاً من موقف نظري بحت، بل من قراءة نقدية للفكر السياسي الإسلامي. لا مناص في نهاية هذا النص من الإشارة السريعة إلى ما يجري اليوم في أكبر قطر عربي، مصر فعندما يمعن المرء النظر فيه يلمس مخططاً غريباً، فلما تصدى المجتمع المدني لمحاولات بناء نظام استبدادي جديد بمقولات إسلامية، وخشي الحكام الجدد أن تزلزل الأرض تحت أقدامهم هرولوا إلى واشنطن لتشاور مع الحليف القديم المتجدد. من يدري لعلنا نفاجأ غداً بمخطط إسلامي أمريكي ينظر له بمقولة: "الديمقراطية المتأسلم" بمباركة أمريكية؟ * كاتب تونسي المصدر: مجلة العربي/ العدد 657 لسنة 2013م

ارسال التعليق

Top