• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العبرة والتربية.. بواعث وأهداف

أ. عبدالسلام ياسين

العبرة والتربية.. بواعث وأهداف

العبرة من العُبُور، جمعتهما المادة اللغوية. والاعتبار الذي أمر الله به عزّ وجلّ تربيةً لنا هو النظر في مصائر أمم طغت في البلاد وأكثرت فيها الفساد، فصب عليهم ربّك سوط عذاب، إن ربّك لبالمرصاد.
انظر إلى مصائر المستكبرين، آحاداً كانوا أو قُرىً، ثمّ اعبُر من ضفّة التاريخ إلى ضِفّة نفسك، وضِفة قريتك، وضفّة ما تعانيه أمتُك، لتعمل بالحكمة الاعتبارية في إصلاح مصيرك الأخرى أولاً، ومصير أمتك، لأنّ إصلاح مصير أمّتك عمل يرضاه الله.
وجَسْرُ العبور في رسالتنا هذه يصل بين شاطئ تاريخي وُلدت فيه الوطنية مسلمة شعارها الإيمان، والإيمان وحده، وشاطئ حاضري الوطنية فيه استحالت نضالاً له رصيدٌ أو أنت في الساحة دعي دخيل، واستحالت ديمقراطية مطلوبة ممتنعة، والدين فيها بدعةٌ.
ما يغني العاملين لمستقبل الأُمّة وَصفُنا للتاريخ وشواطئه وجسوره وعابري الجسور إلا كما يُغني العطشان وصف الهواجر وحمارة القيظ. لعل وصف المياه الجارية، والعيون النابعة، والأقداح الباردة كان يُسليه ويُلهيه.
لا يطفئ الوصفُ غلّته، بل يُلهب الوصف عطشه إن تناول الصحاري ورمالها والفيافي وقحولتها. وما في حصيلة خالدٍ من كسب زيد شيءٌ في حسابات الدنيا وحقائلها، ولا في سجله يوم القيامة نقيرٌ أو قطميرٌ مما جناه زيد من المآثم واقترفه، أو عمله من المبرّات والطاعات وصرفه.
العبور في حد ذاته تربية إن راقبت الجسور لكيلا تهوي بك خُشُبٌ مسندة، أو تعثر بك قدم في حُفر لا ممهدةٍ ولا مُعبّدةٍ.
أثناء الاعتبار وبعد الاعتبار تغني التربية فقط. والتربية عمل يسبقه علم. التربية تنمية وارتفاع: إسلام، فإيمان، فإحسان.
التربية صلاة، جماعة تلتقي خمس مرات في اليوم. هذا أولاً. التربية خطبةُ واعظ الجمعة. خطبته هي الحد الأدنى الواجب وجوباً مؤكّداً من السّماع المربي. ومن الجمعة للجمعة مجالس إيمان، وشُعب إيمان.
التربية مُرَبٍّ بحاله ومقاله. التربية مسجد وحلقات علم وذكر. التربية أم مؤمنة، ومدرسة، وجامعة، وتلفزيون وإذاعة وصحافة. التربية عضوٌ في جماعة المسلمين يُحبُّ ويُحبّ، ينصر ويُنصَر، يشارك في عمل كل خير، ويجفو وينكر بالقلب واللسان واليد كل منكر. التربية قرآن يُتلى ويعمل به.
الاعتبار في المسألة أنّ السياسة لها إرادة ولا تربية. والدعوة طموحٌ إلى ما عند الله، وإلى مقعدِ صدق عند الله، والعملُ السياسي لإمساك وازع السلطان بقَصْدِ إخدامه القرآن وسيلةٌ شريفة شرفَّها القصدُ والنيةُ، ويشرفها الاستقامة إلى أهدافٍ شرعية وغاية إحسانية.
إنّ حقيقة تاريخ الأُمم الحية تكمن في عُمق حركيتها الاجتماعية، وتَماسك اندماجها في وجه الأعاصير، وقدرتها على الاقتحام الإيجابي للمستقبل بإرادة لا تنظل إلى الوراء.
وروح الحركية والقدرة إنما هو الباعث المتجذر في قلوب الرجال، من غضبٍ على عدوٍّ غاشم، أو مطمَح تعلقت به آمال، أو إرادةٍ ألهمَتْها عقيدة، أو زحفٍ نهضت له أمة لها في الكون رسالة.
إنّ سؤالنا المتكرر عن الفرق بين السياسي ورجل الدعوة في البواعث والأهداف والوسائل يقودُنا إلى الجواب عن طبيعة اللحمة الجامعة الحافزة. ما يُحرك الناس؟ من يحرك؟ ماذا في ضمير الرجال الذين يقودون الحركة؟ ما يدور في جذع الأدمغة المفكرة؟ ما سرّ صحة الصحيح وعلة العليل في الحركة؟ أي مثالية تُلقي بظلالها على الموكب المتحرك؟ ما يعطل حركة هذا وهؤلاء فيتأخرون خطوة وخطوات عن الركب؟
ما يجمع الناس في العمق؟ ما يفرقهم؟ تجمعهم وطنية؟ وتجمعهم طبقة؟ مصالح؟ فكر؟ عقيدة ونية استشهادية؟
لكل مستوىً من الإدماج حركية تناسبه، وقِرانٌ خارجي يتحكم في اتجاهه ويصارعه، ونظام في المجتمع قائم يفرض على الحركية الإرادية حدوداً.
هذا النظام في المجتمع الذي يُراد تغييره لايمكن نسفُه ضربة لازبٍ، ولا يمكن تنفيذ حُكم الإعدام فيه. وقد أعطت الحلول الثورية الناسفة العنيفة الدليل على أنّ إعدام طبقةٍ ظلمت واستحقّت المقت لا يعني إلا تغييب وجوه لتبرز وجوه. ويبقى حبل الغرائز البشرية غير المهذبة واصلاً بين طبقة أُعدِمَت وطبقةٍ أعْدَمَتْ. والمتأمّل فيما خلَفَ الاستقراطيةَ الروسية بعد الثورة البلشفية يجدُ مقنعاً.

المصدر: كتاب "حوار الماضي والمستقبل"

ارسال التعليق

Top