◄معنى الحرية لغة وإصطلاحاً:
والحرية في اللغة كما ذكر ابن منظور[1]: هي مصدر من حَرِرَتَ تَحَرُّ. وحَرَّ يَحَرُّ حراراً إذا عَتَقَ، وحَرُّ يَحرُّ، حُرّيةً، من حُرَية الأصل وقال آخرون: إنّ الحرية مصدر من حَرّ يَحرُّ إذا صار حُراً والاسم الحرية. والحُرُّ بالضم نقيض العبد، والجمع أحرارٌ وحرارٌ، والحُرَّةُ نقيض الأُمّة، والجمع حرائر ويقال حَرَّرهُ أي أعتقه، والمُحَرَّرُ أي المُعْتَق[2].
يتضح من خلال التعريف اللغوي لكلمة الحرية أنّ اللفظ وما اُشتق منه يفيد المعني المضاد للرق والعبودية، فالحر من ليس بعبد، والعبودية والعبد اسم للآدمي المملوك لآخر.
والحرية في الإصطلاح تشمل عدداً من الوجوه:
فقد فسر كثير منهم الحرية أسوأ تفسير وأولوها على معنى امتثال داعية الهوى، بإطلاق وتنفيذ الإرادة حتى وإن مسّ غيره بأذى، أو حجم على أحد له حقّ ثابت فلا يعتره منازع، وكثير منهم لا يتصور لها معنى سوى حمل السلاح تحت لواء القوة، وإعمال هذا السلاح في اغتصاب أي شيء، أو يخيل للبعض أنّ للحرية حقّ يبيح من سوء وهجاء وأوصاف شائنة[3] فجعلوا مفهومها الإنطلاق بلا قيود أو عوائق.
فالحرية في أبسط معانيها هي (قدرة الفرد على عمل كلّ ما لا يضر بالغير) أو هي (أن يكون للفرد الحقّ أن يقول ويعمل ما يشاءُ مما لا ينافي العدل والقانون ولا يضر بالغير)[4].
المعنى العام للحرية:
والحديث عن الحرية بالمعنى المتداول في هذا العصر وهي (فعل الإنسان ما يريد فعله دون مدافع بمقدار إمكانه)[5].
فالحرية في هذا المعنى حقّ للبشر، لأنّ الله لما خلق للإنسان العقل والإرادة وأودع فيه القدرة على العمل، فقد أوجد فيه حقيقة الحرية، وسمح له بإستخدامها بالإذن التكويني المستقر في خلقه. والحرية كثيراً ما تحدد باختيار صاحبها بما يلتزم من الالتزامات والعهود والعقود والأعراف ونحوها مما يلجئه إلى تقييد حرية أقواله أو أعماله، أو كبت حرية تفكيره وإخفائه على حسب التزامها[6].
والحرية في الإسلام لا تتصور إلا مقيدة، لأنها ليست انطلاقاً من القيود، بل هي معنى لا يتحقق في الوجود الا مقيداً، ومن هنا كان معنى الحر، وهو الشخص الذي تتجلى فيه المعاني الإنسانية العالية، والذي يضبط نفسه، ويتجه بها إلى معالي الأمور، فلا تنطلق أهوائه ورغباته، ولا يكون عبداً لشهواته بل سيداً لنفسه.
وإذا كان الحر هو الذي يضبط نفسه ولا يذل ولا يأنف[7] من أن يهضم حقه، فهو بالتالي لا يعتدي على أحد، لإمتلاك السيطرة على نفسه من أهواء ورغبات وشهوات.
فالحرية الحقيقة لا يمكن تصورها إنطلاقاً من قيود وضوابط، لأنّ الإنطلاق من جانب تقييد من جانب آخر، فمخطئ من كان يتصور أو يفسر الحرية إنطلاقاً من القيود الإنسانية والأدبية.
وإذا كانت هذه هي معاني الحرية وما تقتضيه من صفات في الحر، فإنّ الحرية لا تتصور انطلاقاً من القيود، ولا تحكماً في الناس، ولا اعتداءً على العباد، بل لا تتصور الحرية إلا مقيدة غير مطلقة، فلا شيء في الوجود يكون مطلقاً من أي قيد[8].
والحرية بهذا المفهوم ليس ترك الحبل على الغارب، دون قيود أو شروط أو حدود، بل هي مقيدة بما ينظمها ويجعل منها عامل خير وسعادة، وبناء للفرد والمجتمع على حد سواء، بدلاً من أن تكون عامل شر وشقاء وهدم.
مفهوم الحرية في الفكر الإسلامي:
للحرية في كلِّ فلسفة مفهوم، ولها في الفكر الإسلامي أرقى مفهوم وأعمق مضمون، فالحرية بمعناها الشامل القائم على حماية حريات الآخرين في مفهوم الشريعة الإسلامية هي القدرة على عمل كلّ شيء دون إضرار بالغير.
والحرية حريات:
حرية ضد الرق، فلا يكون الإنسان مسترقاً أو مملوكاً لغيره، ولا تكون الأُمّة محتلة أو مستعبدة بل تملك حريتها، وحرية في حقِّ الدفاع عن النفس أمام القضاء، وحرية الرأي، هي التفكير والحكم على الأشياء.
وما يراه البعض لمعنى الحرية من عدم استغلال الإنسان للإنسان، هو جانب من جوانب مفهوم الحرية في الإسلام، ولكنها ليست الحرية كلها، وما أطلقه البعض من أنّ الحرية تكون بغير حدود، لا يقبله الفكر الإسلامي لأنّ ذلك دعوة لتحطيم قيم المجتمع التي تحميها الحرية.
والتوحيد في مفهوم الإسلام ما هو إلا أعلى مفاهيم الحرية، حيث تتحرر النفس البشرية والعقل الإنساني من القيود الوثنية وعبادة الفرد والعبودية لغير الله. إذن فالحرية في الإسلام هي ضد العبودية، وضد الرق والوثنية والظلم، وهي حرية الفرد والمجتمع على حد سواء، فلا حرية للفرد على حساب المجتمع، ولا حرية للمجتمع على حساب الفرد، فهي حرية الفكر المنطلق إلى طريق الحقّ وإلى الإبداع والتجديد والاجتهاد. ويأتي مفهوم الحرية في الفكر الإسلامي منطلقاً من أنّ الإسلام أشار للتحرر الفرد من كلِّ خوف وإعلاء عن كلِّ شرك، فجاء الإسلام ليحرر الناس من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، فكان تحطيم للشرك والإلحاد، وسراج منير لسبل التحرر الإنساني من ذل الرق والعبودية، فأوّل ما يثير إليه حرية الإنسان في اعتقاده ما يشاء، ويؤمن بما أراد دون جبر أو اكراه. ومع ذلك لم يتركه يتخبط ويضل، بل حباه بما أكرمه الله به من إنارة الطريق له، وبيان سبل الرشاد وطريق الشرك، ليفكر ويحكم عقله، ثمّ يختار أي طريق يسلك[9]. قال تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ[10] إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 3).
وما تضمنته الشريعة الإسلامية من أحكام يعد من أعظم صور ممارسة الحرية، فهي في الإسلام مكفولة ما دامت لا تحضن على الشر أو تنشر الشرك والإلحاد، وما دامت تحقق السلام والأمان للجميع والصالح العام بين أفراد المجتمع الواحد.
وقد استند الإسلام في تقريره للحريات على نصوص خالدة، وأحكام شاملة صالحة لكلِّ زمان ومكان، فلا تخضع هذه النصوص والأحكام لهوى، ولا تتغير بقانون، وهذه هي أحكام ضمانات الحرية التي تضمنتها آيات القرآن وأشار إليها الرسول (ص). واتجه علماء الأصول والفقه الإسلامي إلى تقسيم الحرية إلى عامة وشخصية واجتماعية، وهذا التقسيم جاء من خلال تقدير أصول الحياة في المجتمع وإمكانياته، وحقوق الفرد وتحقيق ذاته[11].
والحرية بعد هذا هي العنوان البارزة للعدالة والإخاء والمساواة التي تربط أجزاء المجتمع بأوثق الروابط من محبة وألفة وتعاون.
لفظ الحرية في القرآن: المتتبع للقرآن الكريم يرى أنّ لفظ (الحرية) لم يرد على الإطلاق، وإنما ورد لفظ (الحر) مرة واحدة في سورة البقرة، وليدل على وضع اجتماعي معيّن، وليس على وضع نفس أو على ما يدل عليه لفظ الحرية في حياتنا المعاصرة، وذلك في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ...) (البقرة/ 178). قال الطبري في تفسيره للآية الكريمة إنّ الآية نزلت في قوم كانوا إذا قتل الرجل منهم عبدُ من قوم آخرين، لم يرضوا من قتيلهم بدم قاتله من أجل انّه عبد حتى يقتلوا به سيده، وإذا قتلت المرأة من غيرهم رجلاً لم يرضوا من دم صاحبهم بالمرأة القاتلة، حتى يقتلوا رجلاً من رهط المرأة وعشيرتها[12].
كذلك ورد لفظ (التحرير) ثلاث مرات إلا أنّه لا يأتي مطلقاً بل يأتي مرتبطاً (.. وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ...) (النساء/ 92). بمعنى عتق نفس بشرية، كذلك ورد اسم المفعول من الفعل (حرر) مرة في قوله تعالى: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (آل عمران/ 35)..
وقد ورد في تفسير لفظ (محرراً) بمعنى خالصاً لخدمتك وعبادتك، وكذلك ورد خالصاً لربها محرراً من كلِّ قيد، ومن كلِّ شرك، ومن كلِّ حقّ لأحد غير الله سبحانه[13].
ومما سبق ذكره ينضح أن كلمة الحرية في القرآن لم ترد مثل كلمة العدل والمساواة، وإنما جاءت بدلاً من العبودية لله.
الهوامش:
[1]- ابن منظور: هو محمد بن مكرم بن علي، أبو الفضل جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعي الإفريقي، صاحب (لسان العرب)، ولد بمصر وقيل في طرابلس سنة 63هـ، وهو إمام وحجة في اللغة، توفى رحمة الله سنة 711هـ. انظر: الدرر الكامنة في أعيان المائة الكامنة، 5/ 31-33، رقم 4588 لابن حجر العسقلاني (ت852هـ)، تحقيق محمد سيد جاد الحق، مطبعة المدني – القاهرة 1385هـ - 1966م، والأعلام للزركلي 7/ 108، وفوات الوفيات 2/ 524-527، رقم 451.
[2]- انظر: لسان العرب، 4/ 178-181، ومختار الصحاح، ص55.
[3]- انظر: الحرية في الإسلام، محمد الخضر حسين، ص17، 18، دار الإعتصام – القاهرة.
[4]- من أسس التربية الإسلامية، د. عمر محمد التومي الشيباني، ص281، منشورات الجامعة المفتوحة، الطبعة الثانية، 1993م.
[5]- أصول النظام الاجتماعي، ابن عاشور، ص169.
[6]- انظر المصدر السابق، نفس الصفحة.
[7]- أنف: يقال أنف من الشيء من باب تعب، وأنف منه تنزه عنه. المصباح المنير 1/ 30، والمقصود هنا ألا يذل، ويقال الجمل الأنف – الذليل المؤاتي الذي يأنف من الزجر ومن الضرب. كذلك المؤمن لا يحتاج إلى زجر ولا عتاب ومالزمه، من حق صبر عليه وقام به. بمعنى أنّ الحر لا يخضع ويكسر أنفه للغير في أن يهضم حقه. انظر: لسان العرب، 9/ 13، مادة أنف.
[8]- انظر: المجمع الإنساني في ظل الإسلام، محمد أبو زهرة، ص186-187، وتنظيم الإسلام للمجتمع، محمد أبو زهرة، ص181-182.
[9]- انظر: أصول النظام الاجتماعي، للطاهر بن عاشور، ص170 وما بعدها.
[10]- بينا له طريق الهداية والضلال، كلمات القرآن تفسير وبيان، ص396، حسنين مخلوف، دار الفكر – القاهرة.
[11]- انظر: المجتمع الإنساني في ظل الإسلام، محمد أبو زهرة، 1898.
[12]- انظر تفسير الطبري، 2/ 103، وتفسير الماوردي (النكت والعيون). لأبي الحسن الماوردي، 1/ 190.
[13]- تفسير الطبري، 3/ 235، والكشاف، 1/ 185.
المصدر: كتاب المجتمع الإسلامي دعائمه وآدابه في ضوء القرآن الكريم
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق