• ١٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحوار منهج حياة

د. حسين زرّوق

الحوار منهج حياة

◄عندما يكون الآخر ابناً:

كيف ينبغي أن تكون العلاقة داخل البيت من خلال نموذج استثنائي فريد من نوعه هو قصة إبراهيم (ع) مع ابنه إسماعيل كما في هذه الآية:

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات/ 102).

والحوار بين إبراهيم (ع) وابنه مؤطر بإطار عام، فقد جرى بينهما بعد أن بلغ معه السعي، وبعد أن رأى الرؤيا، فكيف يتصرف أب رأى أن يذبح ابنه ورؤيا الأنبياء حقّ؟ أيتركه حتى ينام ثمّ يذبحه على حين غفلة منه؟ أم يهاجمه ويذبحه بالقوة كما تذبح الخراف؟ أم يخبره برؤيته؟.

وعندما اختار إبراهيم (ع) أن يخبر ابنه بما رآه لم يفرض عليه أن يستجيب له، بل ترك له أمر تقرير مصير تلك الرؤيا، واكتفى بأن حكى له ما رأى، ثمّ ترك له أمر النظر في كيفية التصرف في النازلة، وأشعره باستعمال أسلوب النداء ولفظ (يا بُنَيَّ) أنّه يخاطب ابنه وهو في كامل الإحساس بعلاقته به.

قال: (يا بُنَيَّ)، ولم يقل يا إسماعيل، والفرق بينهما كبير، فمناداة ابنه باسمه إشعار بتقلص علاقة القرابة في لحظة الرؤيا وتوابعها.

وقوله: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) (الصافات/ 102)، إخبار له بما رأى لا أقل ولا أكثر، وكان بإمكانه أن يأمره، وأن يطالبه بالامتثال، لأنّ طاعة الوالدين واجبة.

وقال: (فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى)؛ لأنّ المسألة تتعلق بحياة إسماعيل، وهو وحده من له حقّ تقرير مصيره، فليس من حقّ إبراهيم (ع) أن يمس حياة غيره.

وهي عناصر ثلاثة ساقها إبراهيم (ع) في لحظة مكاشفة حميمية مع ابنه، تقوم على الحوار والإقناع، وتهدف إلى إشراك الآخر سيما أنّ الأمر يهمه أكثر من غيره بهدف الوصول إلى حل، مع أنّ كلام إبراهيم (ع) هو أقرب ما يكون إلى استئذان ابنه في تنفيذ الرؤيا.

وحكمة تصرف إبراهيم (ع) لم تذهب سدى، فالأب الذي يستشير ابنه ويفتح معه حواراً، ويحسه بأهميته لديه، ويشركه في القرارات المصيرية هو أب يجيد التربية، والذي يجيد التربية يقطف التوفيق، ومن ثمّ كان رد ابنه ثمرة من ثمار ذلك النمط من التربية ومن التعامل القائم على الحوار، فكان رد الابن: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات/ 102).

أوّلاً: يبادل التحية بأحسن منها، فإبراهيم (ع) أبوه قبل كلّ شيء وإن كان يخبره بالرؤيا التي فيها ذبحه، وهذه مقابلة عجيبة: الأب يقول لابنه في لحظة غير عادية: (يا بُنَيَّ)، والابن يبادله بقوله: (يا أبَتِ)، وذلك في تفاعل عاطفي مشحون بالحميمية.

وثانياً: يعتبر رؤيا إبراهيم (ع) أمراً، والأمر للتنفيذ، وهو بهذا يخفِّف عن أبيه حدة الإحساس بالمحنة، فهو أمر ولا يد للوالد فيه، وليس أمامه سوى التنفيذ وهو ما لم يقله الأب نفسه.

وثالثاً: يوافق على أن ينفذ الأب الرؤيا ما دامت أمراً، وقدَّم موافقته بصيغة الأمر، فصار يأمر أباه بالتنفيذ، بينما لم يستعمل أبوه الأمر قط، وشتان بين أن يستعمله الأب وأن يستعمله الابن في مثل هذه النازلة.

ورابعاً: يعلن لأبيه أنّه لن يتردد أن يجبن، بل سيكون من الصابرين، فهذا قضاء الله تعالى، وقضاء الله ينبغي أن يستقبل بالتسليم، وهو في ذلك يطمئن أباه إلى أنّه بإمكانه تنفيذ رؤياه دون عراقيل.

وعندما تلقى إبراهيم (ع) موافقة ابنه لم يبق أمامه إلى أن يشرع في التنفيذ، ولكن الله - عزّ وجلّ - يعلن له أنّ الأمر يتعلق بامتحان، وأنّ إبراهيم (ع) وُفق فيه مثلما وفق معه ابنه: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (الصافات/ 103-107).

 

المصدر: كتاب الحوار منهج حياة (تأملات في الحوار في القرآن الكريم)

ارسال التعليق

Top