• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

كتاب الله.. منبع الفكر والتشريع

محمد كامل

كتاب الله.. منبع الفكر والتشريع
   ◄العناية بعلوم القرآن ومعارفه، والحرص على تعميم الوعي، والثقافة القرآنية المعطاءة لهما من أول مرتكزات التغيير الفكري والحضاري في المجتمع الإسلامي، والأساس في بناء الإنسان والحياة على أسس إسلامية سليمة. ذلك لأنّ القرآن كتاب الله، وهو منبع الفكر والتشريع، ومقياس النقاء والأصالة، ومصدر الوعي والحركة، فليس بوسع هذه الأُمّة أن تنهض، أو تتخلص من التخلف الحضاري، والفساد الإجتماعي، والإنحراف الفكري إلا بالتمسك بالقرآن ووعي مضامينه، وإستيعاب محتواه. وأحد الطرق للوصول إلى ذلك، هي القراءة الصحيحة والإنسجام العميق مع آيات الكتاب الكريم، يقول الله في كتابه: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة/ 121). وجاء عن الامام جعفر بن محمد الصادق (ع) في تفسير هذه الآية: "في قوله تعالى (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ): يرتلون آياته، ويتفهمون معانيه، ويعملون بأحكامه، ويرجون وعده، ويخشون عذابه، ويتمثلون قصصه، ويعتبرون أمثاله، ويأتون أوامره، ويجتنبون نواهيه، وما هو والله بحفظ آياته وسرد حروفه، وتلاوة سوره، ودرس أعشاره وأخماسه، حفظوا حروفه، وأضاعوا حدوده، وانما هو تدبر آياته، يقول الله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ) (ص/ 29). وقد أوضحت سورة الأنفال تأثير التلاوة على المؤمنين في قوله تعالى: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) (الأنفال/ 2). والذي نريد أن نذكره هنا – وبشكل مختصر – هو الاستعداد والتأهب لقراءة القرآن الكريم والكيفية الأمثل لها. ونقصد بالاستعداد الأمور التي يجب مراعاتها في حال تلاوة كلام الله، لما في ذلك من آثار على القارئ ترتفع من خلالها درجات إنسجامه الروحي والنفسي، ومن أوليات هذه الأمور هي كونه في حال (وضوء) وطهارة، وقد جاءت النصوص تحث كثيراً على أن يكون المسلم دائم الطهارة وفي مختلف الأحوال، فقد ورد عن رسول الله (ص): "وإن استطعت أن تكون بالليل والنهار على طهارة فافعل". (آمالي الشيخ المفيد، ص28). فتلاوة القرآن أفضلها في الصلاة، ثمّ حال الوضوء والطهارة، وأقلها من غير الصلاة أو الكون على طهارة. والأمر المهم حين التلاوة هو التوجه نحو العلي القدير بكافة الحواس والجوارح، والخضوع والإنكسار، فإذا مر بآية فيها ذكر النعيم رجى الله أن يرزقها، وإذا مرّ بآية فيها ذكر الجحيم دمعت عيناه خوفاً من الحساب والعقاب، انّ الحب لكلام السماء كلما إزداد وتكامل من خلال التحسس والالتذاذ بالمعاني الكامنة في الآيات المباركة، تتصاعد عند المرء نسبة التفاعل والتأثر، فالنفس المجردة عن التفكير في الشواغل مطلوبة حين الصلاة وقراءة القرآن، ومطلوبة عند ذكر الله في كل الأحوال، فذكر الله باللسان مرغب فيه، لكن الذكر مع حضور القلب هو الأنفع والأسمى، ورد في الأحاديث النبوية: "اعبد الله كأنك تراه، وإن لم تكن تراه فإنّه يراك" انّ الإبتلاء بعدم التوجه وشرود الذهن حين الصلاة والذكر وتلاوة القرآن تجعل العبادة سطحية وقشرية، وعلى المؤمن السعي الدؤوب لإستحضار القلب وإستشعار الوقوف بين يدي الخالق الجبار، والسعي للتأمل في معاني الآيات وتكرار تلاوتها من أجل تعميق الإحساس بها، وكلما إزداد سعي الإنسان ومحاولاته لاستحضار القلب في استشعار العبودية لله بلغته الرحمة وشملته العناية الربانية بصورة أكبر.. وقد ورد في أحد الأدعية عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع): "اللّهمّ انفعنا فيه بما صرفت فيه من الآيات وذكرنا بما ضربت لنا به من المثلات وكفر عنا بتأويله السيئات، وضاعف لنا به الحسنات، وارفعنا به ثواباً في الدرجات ولقنا به البشرى بعد الممات". وإن من حقوق القرآن على القارئ هو التأني والسكينة حين القراءة وهذه سنة قد دعا إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) (المزمل/ 4). والتأني يؤثر كثيراً على التأمل والانتباه لما في الآيات من عبر ومعاني. وقد ورد في معنى الترتيل: "تفخيم الألفاظ وإيضاح الحروف"، وذكروا انّ أبلغ الترتيل هو إنسجامه وإتفاقه مع معاني الآيات المباركة، أي قراءة آيات التهديد بأسلوب التهديد وآيات التعظيم بأسلوب التعظيم وهكذا... وقد سئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) عن معنى الترتيل فأجاب: الترتيل، أداء الحروف وحفظ الوقوف. (البحار ج86، ص8). وورد عنه أيضاً (ع) في تفسير قوله عزّ وجلّ: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا)، قال: "بينه تبياناً ولا تهذه هذّ الشعر، ولا تنثره نثر الرمل، ولكن اقرعوا به قلوبكم القاسية، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة". ويستفاد من هذا الحديث أمور ثلاثة هي: 1- التأني حين التلاوة، بما يحفظ قواعد التجويد. 2- رعاية أداء الحروف من مخارجها الصحيحة، وموارد الوقف والابتداء. 3- والأمر الأهم هو انّ هذا النوع من التلاوة يؤدي إلى الوقوف على معاني الكلمات والتدبر فيها. "ونقل عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) انّه عندما كان يتلو قوله تعالى: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (الحمد/ 4)، يكثر من تكرارها والوقوف عندها، حتى تكاد نفسه الشريفة أن تخرج معها، وكان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، فإذا مرّ السقاؤون بباب داره وقفوا يستمعون قراءته". وجاء عن الإمام الصادق (ع) أيضاً، في تفسير (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) قال: "هو أن تتمكث فيه وتحسن به صوتك". وعن أم سلمة قالت: "كان النبي (ص) يقطّع قراءته آية آية". وعن الصادق (ع): "انّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى موسى بن عمران (ع) إذا وقفت بين يدي فقف موقف الذليل الفقير، وإذا قرأت التوراة فأسمعنيها بصوت حزين". وعن أبي ذر عن النبي (ص) في وصيته له قال: "يا أبا ذر اخفض صوتك عند الجنائز وعند القتال وعند القرآن". اللّهمّ وفّقنا في الدنيا لتلاوته والعمل بأحكامه وآدابه، وارزقنا في الآخرة شفاعته وأن يكون جليسنا وانيسنا في الدارين ببركته ومن نزل عليه وعمل به وأهل بيته الأطهار، والذين جسدوه فكانوا مثاله الأتم، ولسانه الأقوم، انّك سميع مجيب الدعاء.   -       أهل البيت – عليهم السلام – دعوة الإسلام العملية للحياة السعيدة: "أهل البيت" (عليهم السلام) النموذج العملي الأمثل للحياة الطيِّبة السعيدة التي يدعو إليها الإسلام. أليس الإسلام دعوة إلى الحياة والسعادة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال/ 24). ترى: أيّة حياة نموذجية يقدمها الإسلام لحياة الأسرة السعيدة.. رجلا، وامرأة، وطفلا؟. انّهم أهل بيت النبي الأعظم (ص) (علي وفاطمة والحسن والحسين) هذه الوجوه النيِّرة التي حملها الرسول محمد معه وهو يتوجه إلى المباهلة مع نصارى نجران.. فلما أن رآهم كبير النصارى تراجع خائفاً من دعائهم عليه! كيف عاشت أسرة النبي الطاهرة؟ كيف كانت علاقة زعيم الأسرة محمد (ص) بهم؟ كيف كانت علاقة الأُم بأطفالها، والزوجة بزوجها؟ وبعضهم مع البعض الآخر؟ "ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم" لنبدأ بزعيم الأسرة – اليتيم الذي اكتنفته يد العناية الإلهية، فنشرت عليه رحمته، وهيئت له من مؤمن قريش الوفي "أبو طالب" كهفاً يحميه كيد الأشرار، وهكذا تربى في أشرف بيت وأرفعه.. ثمّ باشر الوحي امداده وتربيته "ألم يجدك يتيماً فآوا، ووجدك ضالا فهدى!!". ثمّ قام هذا الذي تشبّع بهداية الله. قام بتربية "علي" بن كافله الكبير أو طالب. وبقي علي (ع) يتربى في حجر ابن عمه. يلقنه الإسلام كلمة كلمة، ويربيه خطوة خطوة.. ويضمه إلى صدره ويشمه عرفه ويلقنه علمه. ويظل علي (ع) يلازم ظل ابن عمه النبي – فلا يفارقه. حتى تحين موعد الهجرة من كمة. فيفديه بنفسه. وينام في مكانه ليغطي على هروب النبي إلى المدينة. ثمّ يدخل المدينة ليجد النبي في انتظاره في مسجد "قبا" رافضاً دخوله قبل أن يصل علي – حبيبه وربيبه وساعده الأيمن. ثمّ يزوجّه ابنته – فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين ومن بين أحب الناس إلى قلب النبي وهي فاطمة – وأعز الناس إلى قلبه وهو علي – يولد طفلان نيّران: الحسن والحسين: سيدا شباب أهل الجنة. الوحي يبارك هذا الزواج الميمون – والله يظهر أهل هذا البيت – وينزل فيهم آيات وسوراً تمجد بهم وبأخلاقهم "البيت النموذجي" هذا سيبقى طول التاريخ نموذجاً لدعوة الإسلام إلى الأخلاق والطهارة والإيمان والحياة السعيدة. تعال الآن إلى بيت فاطمة – إنك لا تجد هنا شيئاً من زخارف الحياة الدنيا – فما عسى أن يكون قيمة كوز ماء – وبضع أوان خزفيه، وفراش من ليف وما شابه ذلك. ولكنك تجد هنا كل قيم الحياة ومثلها ومعانيها السامية. هنا تجد الحب في الله، والإيمان والتقوى والأخلاق الطيبة هنا أهل البيت (ع) يقومون لصلاة الليل – يناجون ربهم قبل أن يطلع الفجر ومن بعده وفي الصباح تقوم فاطمة تدير شؤون الدار الداخلية، بينما ينصرف علي إلى الشؤون الخارجية. كل شيء هنا يحكي قصة الوئام والإنسجام والشكر لله والتوجه إلى الله وإلى الحياة الآخر.. سيمر أهل هذا البيت بامتحان الجوع – جوع يعصف بهم لثلاثة أيام فيصمدون ولا يشتكون لأحد حتى لزعيم الأسرة محمد (ص) فيكشف الوحي عمّا بهم من ضرّ – وذلك بما قدموه لله وفي سبيل الله من طعام ما كانوا يملكون غيره – سورة كاملة هي (سورة هل أتى). ثمّ يمر أهل هذا البيت النموذجي بتجربة (الجهاد) فيخرج علي إلى حرب أحد. ثمّ لا يعود إلا وفي جسده اثنان وسبعون جراحة. فلا يزداد أهل هذا البيت إلا شكراً لله، وحمداً لنعمه. ولعظمة هذا البيت الذي هو صنيعة محمد (ص) الذي هو بدوره صنيعة الله.. تجد النبي الأعظم لا يعود من سفره ألا وان يكون أوّل بيت يدخله هو بيت فاطمة! كما أن آخر بيت يودعه هو بيت فاطمة! ماذا يعني؟ يعني انّ النبي (ص) ينتمي إلى هذا البيت – قلبه هنا – عمره هنا – رسالته هنا – تربيته هنا – مستقبله هنا – أولاده هنا. فمن فاطمة سيستمر نسل محمد (ص) – هكذا شاء الله. وبذلك رضي محمد (ص): (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) (الكوثر/ 1-3). ومحمد النبي – رغم انّ البيت بيت ابنته فاطمة ولكنه لا يدخل البيت إلا بإستئذان وسلام واحترام ثمّ يقول: "هكذا أمرني ربي"! أيّ إحترام لهذا البيت النموذجي – عند الله. أيّ أدب هذا الذي يعلمنا أياه رسول الله. أيّ خلق رفيع – يعلمه أهل هذا البيت للأجيال الصاعدة من المسلمين – وغير المسلمين! أجل.. أهل البيت – هم أهل الكساء – وأهل البيت هم الذين باهل بهم النبي نصارى نجران – وهم الذين نزلت فيهم سورة الإنسان. أهل هذا البيت يمثلون "الإنسان النموذجي" والحياة النموذجية التي يدعو إليها الإسلام. المصدر: مجلة أهل البيت/ العدد 2 لسنة 1993م

ارسال التعليق

Top