• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الزواج نداء الطبيعة الإنسانية

كمال السيد

الزواج نداء الطبيعة الإنسانية
◄هبط آدم أبو البشر مع زوجته حواء على الأرض وبدأت الحياة الإنسانية وبدأ انتشار النوع الإنساني، الذي لم يكتب له الاستمرار لولا أنّ عاش الرجل مع المرأة في ظلال سقف واحد هو سقف الزوجية، ذلك انّ ميولاً قوية لا تنحصر بالمسألة الجنسية تدفع الرجل والمرأة وعلى حدّ سواء إلى الحياة معاً.. الرجل بسواعده المفتولة وقدرته على مواجهة تحديات الحياة والمرأة بمخزونها العاطفي الزاخر يجعل من حياة الاثنين جنباً إلى جنب متكاملة وملونة.. وقد أوضح القرآن الكريم هذه الظاهرة في قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً...) (الروم/ 21). ولكن ظاهرة الحياة الزوجية تحتاج في كل أدوارها إلى عملية ترشيد وعادة ما تكتنف سماء الحياة الزوجية غيوم وسحب، ثمّ ما تلبث شمس الحب أن تشرق وتبدد الضباب الذي قد يتجمع قبل إنفجار النزاع العائلي.. مع التأكيد على أنّ النزاع في الحياة الزوجية يجب ألا ينظر إليه كظاهرة خطرة، وأنّه بمثابة الصخور الناتئة التي قد ترتطم بها سفينة الزواج ويؤدي بها إلى الغرق. ذلك انّ الحب المتبادل بين الزوجين، هو الضمان في ديمومة الحياة المشتركة واستمرارها وهذا لا يعني أيضاً انّ الحب قادر على تذويب الاختلافات.. وليس بوسع رباط الزوجية المقدس أن يلغي أو يوحد الأمزجة والأذواق المختلفة، فالبيئة المختلفة والتربية المتفاوتة والرؤية المختلفة تقود لا محالة إلى اصطدام الرجل بالمرأة وحدوث الاصطدام أمر لا مفر منه.. ولكن المهم جدّاً هو شعور الرجل والمرأة بحاجتهما إلى الحياة المشتركة معاً وانهما يفضلان استمرارها، أما تلك المعارك الصغيرة التي تنشب بين فترة وأخرى فهي ملح الحياة كما يقولون، ولابدّ للزوجين بعدها من تقديم التنازلات ومن ثمّ اللقاء ولو في منتصف الطريق.   - الحياة.. هواجس وأحلام: الحياة ليست قصة تطفح بالألم والعذاب كما تصورها الرؤية التشاؤمية كما انها ليست حكاية حالمة مفعمة بالسعادة كما قد يتصورها بعض البسطاء. الحياة مسيرة طويلة وغائية ذات أهداف، حيث ينطلق الإنسان ذكراً أو أنثى ولذا فمن الضروري الانطلاق عن وعي سابق عميق لأنّ الوصول إلى شاطئ السلام يلزمه صبر ورؤية واضحة وإصرار على المقاومة. فالذين يلجون مسرح الحياة وفي أذهانهم رؤى خيال وأوهام أو أحلام مجنحة سوف يصطدمون بواقع الحياة التي تزخر بالآلام والعذاب والمقاومة، وعندها سوف يهزمون في أول مواجهة وينزوون بعيداً وتكون النتائج الإحباط والفشل، فهؤلاء الحيارى والضائعون من الذين يعيشون هواجس التشاؤم والألم وأولئك الذين يسلكون طرقاً مذلة من أجل تحقيق بعض المتع الرخيصة التافهة مالئين حياتهم وحياة الآخرين عذاباً ومرارة ما هم إلا ضحايا لغياب الرؤية الواضحة للحياة والإدراك العميق. فالحياة الزوجية في الواقع تعني التحاماً كاملاً في العاطفة والهموم والمصير. فلم يكن القاضي الأمريكي معتوهاً وهو يوافق على طلب المرأة بالطلاق مبررة ذلك بأنها وزوجها لم يعودا يضحكان معاً.. انّ هذا المبرر الذي ينتزع لأوّل وهلة إبتسامة البعض يخفي وراءه إنهياراً في حالة التفاهم الزوجي وظهور حالة التمزق النفسي الذي سيفجر الأمن العائلي ويقضي على كيان الأسرة.   - الزواج وإشكالية الهدف: يجتاز المرء مرحلة الطفولة المفعمة بالصفاء حيث ينعم الطفل برعاية الأبوين ودفء الأسرة، وشيئاً فشيئاً ينمو الفتى والفتاة ليدخلا عهداً جديداً هو عهد الشباب.. انّها مرحلة حساسة تتطلب النهوض بمسؤوليات الحياة وأعبائها.. وخلال هذه الفترة وفي مراحلها الأولى يرنو الفتى كما تتطلع الفتاة إلى شريك الحياة ورفيق الدرب.. إلى إنسان يخفف من العبء.. إنسان يفرح معه ويشاركه لوعته ويبثه همومه، إنسان يدركه ويفهمه ويقوم بدور المنقذ إذا ما هاجمته أمواج الحوادث.. ويكون له هون في الشدائد يبدد وحشته ويشيع في روحه الأمل في الحياة والمستقبل. ومن هنا يتوجب على المرء وعي الأهداف الحقيقية من وراء مشروع الزواج مع التأكيد على أنّ الغايات التي توفر للأسرة القدر الأمثل من الاستقرار يجب أن تنضوي في إطار البحث عن حالة السلام النفسي لأنّ مرحلة البلوغ مرحلة حساسة تشهد تغيرات جوهرية تشكل بمجموعها نداء الزواج. ومن هنا فإنّ الإستجابة المبكرة لنداء الطبيعة الإنسانية يوفر على المرء المعاناة التي تنشأ عن الكبت الذي يؤدي في الغالب إلى بروز إضطرابات نفسية حادة لن تهدأ إلا بالعثور على شريك الحياة وعندها تنقشع الغيوم. ومن هنا فإنّ هدفية الزواج قد تكمن أحياناً في تحقيق حالة الاستقرار النفسي والأخلاقي في ظلال حياة مستقرة توفرها أجواء الأسرة الدافئة. وتلك تجارب الحياة تثبت للجميع كيف يأوي المرء إلى زوجة تشعره بالسكينة والطمأنينة والسلام.. وهذا سيدنا علي بن أبي طالب (ع)الذي خاض تجربة الحياة وتحمل المسؤوليات الجسام يقول: "ولقد كنت أنظر إليها (فاطمة الزهراء) فتنقشع عني الهموم"[1]. وهناك هاجس التكامل الذي يسعى إليه الإنسان ذكراً كان أو أنثى، هذا الهاجس الذي يشتد ويبلغ ذروته في مرحلة الشباب وعندها تأتي تجربة الزواج لتفتح آفاق التكامل أمام الشاب والفتاة حيث يستحيلان إلى دليلين أو مرآتين يتبادلان التجارب والآراء ويكتشفان عيوبهما فيسعيان إلى التكامل والنمو الأخلاقي والفكري. ومن أهداف الزواج الكبرى هو صيانة المرء نفسه من السقوط في هاوية الانحراف والخروج على جادة الدين الحنيف، فيأتي الزواج ليجنب الإنسان السقوط في المنزلقات الخطرة وقد ورد في الحديث النبوي الشريف: "من تزوج فقد احرز نصف دينه". والزواج لا يكفل للمرء عدم السقوط فحسب بل ليوفر له جواً من السلام يمكنه من التوجه إلى السماء بطمأنينة وثقة.. لأنّ إشباع الغريزة والإستجابة لنداء الجنس بشكل مشروع يُعدَ ضرورة في الحياة الدينية. ومن غائيات الزواج التي تسكن أعماق البشر هو الميل للإستمرار وبوضوح أكثر هاجس الخلود حيث يوفر الزواج هذا الشعور من خلال الإنجاب فميلاد الطفل وخاصة الأول يفجر في الذات الإنسانية انّ هذا الكائن هو جزء لا يتجزأ منهما وانّه استمرار لحياتهما.. هذا الإحساس الذي يدفع بعضهم إلى القول: أولادنا أكبادنا تمشي على الأرض. وتفجر في بعض الأحيان طوفاناً من المشاعر الفياضة كقول الشاعر يخاطب ابنه: "يا ضلي الممتد حين أموت" *** يا ميلاد عمري من جديد[2] ومن هنا نجد الدين الإسلامي الحنيف يؤسس لثقافة الزواج بشكل يجعل منه مشروعاً حياتياً ومصيرياً ينبغي دراسته وفق أسس أخلاقية بحتة، بعيداً عن كل الإعتبارات الأخرى.. يقول النبي محمد (ص): "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ألا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض". فالمعيار الأخلاقي هو الأساس في تجربة الزواج.. أما الإعتبارات الاجتماعية والاقتصادية فلها أهمية ثانوية، وقد يكون لها دور سلبي في بعض الأحيان. غير أننا ومع بالغ الأسف نشهد إغتصاب التقاليد والأعراف الاجتماعية لدور الدين في التأسيس للحياة الزوجية، وفيما نرى أدبيات الإسلام تدفع بالمجتمع المسلم في تبسيط عملية الزواج وتحويلها إلى ظاهرة إنسانية تنطوي على غائية في إطار الأهداف التي مر ذكرها، نرى التقاليد والإعتبارات الفارغة تجعل منها مشكلة معقدة في طريق الشباب الذي قد يبقى يعاني من الحرمان العاطفي سنوات طويلة. صحيح أنّ الوضع الاجتماعي والاقتصادي لشخص ما يفرز لديه ثقافة متباينة مع غيره، ولكنه يجب ألا يبقى معياراً في الزواج حتى لا نهبط برباط الزواج المقدس من غاياته الإنسانية ليصبح صفقة اقتصادية وتأسيساً لشركة تجارية. ونحن لا نريد حذف هذه الإعتبارات أبداً لأنّها ستدخل عاملاً هاماً في تحقيق حالة الإنسجام المنشود.. ومازلت أتذكر ذلك الطالب الجامعي الذي سأل الشهيد محمد باقر الصدر بهذه الطريقة: - سيدنا.. شاب أراد الزواج ووجد فتاتين متساويتين في الجمال، الدين، الأخلاق لكن أحدهما فقيرة والأخرى من أسرة غنية فأيهما ينتخب؟ علماً بأنّ الشاب أيضاً من أسرة غنية.. وقد إبتسم الشهيد لهذه الفرضية في التساوي الكامل ولكن لم يمنع ذلك من التوصية بالزواج من الفتاة الغنية معللاً ذلك بأنّ الانسجام في المستوى الاقتصادي يقود إلى إنسجام عائلي لأنّ الشاب الغني قد إعتاد مثلاً على النوم في السرير وتناول الطعام بالملعقة.. وهذا يهم في الإنسجام مع الفتاة الغنية أكثر من الفقيرة التي قد إعتادت مثلاً على النوم دون سرير أو تناول الطعام بيدها. فهناك في عمق الإسلام إتجاه التشجيع على ظاهرة الزواج في ظروف صحية إذا صح التعبير فللفتاة كما للفتى الحق الكامل في الزواج في الوقت المناسب مع الإنسان المناسب فعقد الزواج يتمتع بكل مقومات العقد الاجتماعي إضافة إلى عنصر القداسة، ونلمس ذلك من مقولة "أبغض الحلال عند الله الطلاق" وهو نقيض الزواج. ولكن المحنة تبدأ عندما تغتصب التقاليد دور الدين، فتسلب الفتى أو الفتاة بحسب الظروف حقوقهم الإنسانية في إنتخاب شريك الحياة. فهناك الكثير من الإعتبارات اللامنطقية واللامعقولة والتي تنشأ في الغالب عن الأعراف الاجتماعية هي المسيطرة في مراسم الخطوبة والزواج. وهذا لا يمنع بطبيعة الحال من وجود عينات تبشر بالخير في هذا المضمار عندما تتصرف بعض الأسر وفق معايير إسلامية حيث الأصالة للدين والأخلاق ولقد تأثرت بموقف فتاة تقدم أحدهم لخطبتها، وكنت أتصور أن تجري الأمور وفق المعتاد حيث تصغي الفتاة من وراء حجاب إلى أحاديث الخطوبة وقد تتلصص لرؤية الخطيب قبل الموافقة وهذا وضع مثالي تقريباً أما أن تقوم الفتاة المخطوبة مثلاً بحضور المجلس وإبداء رأيها ومشاركتها الحديث وطلبها مهلة تتعرف خلالها على أخلاق الخطيب فقد بعث في نفسي الإعجاب لأنّ الفتاة لم تتطرق في كل الأحوال للسؤال عن الإعتبارات الاقتصادية والمعاشية، وكان همها أن يكون الشاب متديناً ومهذباً، ولديه عمل يرتزق منه. وفي رأيي انّ هذا السلوك يزيد من فرص النجاح في مشاريع الزواج، خاصة عندما يكون دور الأبوين إستشارياً. كما انّ تجارب الرسول الزوجية كانت تأسيسياً لثقافة جديدة.. ثقافة تحدد موقفها من الزواج والحياة الزوجية، فالرسول الأكرم (ص) ومن خلال سيرته الخالدة كان يرسم المثل الإنساني الأعلى في زواجه وموقفه إزاء خطبة ابنته وزواجها. فزواجه من خديجة (ع) لم يكن وفق التقاليد، كما أنّه لم يستنكر موقف المرأة التي وهبت نفسها له.. ولم ينتهر المرأة التي طلبت منه أن يزوجها من يشاء. كما وأنّه زوج ابنته الكريمة شاباً فقيراً معدماً وهو علي (ع) لأنّه يتحرك وفق ثقافة الإسلام التي تمنح الأصالة للأخلاق قبل كل شيء، وقد تم هذا بموافقة السيدة الزهراء التي كانت تترسم خطى الإسلام.   الهامش:
[1]- فاطمة حورية الأرض.

[2]- ديوان بدر شاكر السياب قصيدة مرحى غيلان/324 وفيها يقول:

اعلنت بعثي يا سماء

                                                                                هذا خلودي

في الحياة تكن معناه الدماء..

   المصدر: مجلة الطاهرة/ العدد 139 لسنة 2002م

ارسال التعليق

Top