إنّ القرآن الكريم، وإضافة إلى التصريح بالقضايا القطعية وغير القابلة للشك، المذكورة بعبارات مثل (لا ريب فيه) يدعو الناس إلى الإيمان التحقيقي بالقضايا اليقينية، ولا يرى الإيمان التقليدي بها كافياً إذا كان مستنداً إلى الظن.
كل هذه دليل على أنّ المعرفة اليقينية ممكنة في نظر القرآن، وأن طريقها مفتوح للجميع أيضاً، وإن كان سالكو طريق التحقيق قليلين.
فعلى هذا الأساس يجادل القرآن الكريم، وفي آيات كثيرة، المعاندين والكفار، وفي سياق البرهنة على صحة ما يدعو إليه، يتّهم المخالفين بالافتقار إلى الدليل، أو يعتبر دعواهم غير قابلة للبرهان. والبعض ممّن لم يسلك طريق البرهان واعتبر الإيمان أمراً منفصلاً عن الإستدلالات اليقينية، حاول التوسل بالأدلة الإقناعية لتبرير الإيمان. ومن ذلك القول بأنّ احتمال وجود الله يصحّح الإيمان به؛ لأنّ الإنسان على أي حال مضطر لقبول ذلك أو إنكاره، لكنه لو أنكر ذلك، فإضافة إلى أنّه لن يحصل على شيء ذي شأن مقابل ذلك، فسيخسر خسارة عظيمة في حالة وجوده. أما لو آمن بوجوده فبالإضافة إلى أنّه سينال ربحاً عظيماً في حالة تحقّقه، فسوف لن يخسر شيئاً في حالة عدم تحقّقه.
هذا البيان ونظائره لا يقدّم إيماناً صحيحاً للإنسان لو اعتبر الإنسان إيمانه مستنداً إلى مثل هذه الأقوال، فسيعرف بأدنى تأمل أنّه لن يستطيع، - أبداً – امتثال العبادة بقصد جدي وبحزم وعزم، بل إنّه يعمل في حالة الشك دوماً.
هذا القبيل من البيانات تفيد فقط في كسر صولة عناد المعاندين الذين رغم افتقادهم البرهان يصرّون على ما ليس لهم به إلا الظن والتخمين. يُظهر الإمام الصادق (ع) مثل هذا البيان في مواجهته مع ابن أبي العوجاء، إلا أنّ بيان الإمام (ع) لا يكتفي بهذه المقولة ولا ينحصر بها. فالإمام (ع) في الحقيقة، - استدل بهذا المقدار على لا برهانية مدعى ابن أبي العوجاء، وأراد أن ينبّهه، - فقط – إلى خطر عناده الذي لا يعتمد على شيء سوى الإحتمال.
ولهذا كان الإمام (ع) ضمن حديثه عن احتمال وجود المبدأ وعدم وجوده يؤكد ويشد في كل مرة وبحزم شديد وقاطع على وجوده ويقول (ما معناه):
إذا كان الأمر ما يقول به هؤلاء الطائفون، - وهو كما يقولون – فقد نجوا وهلكتم، أما إذا كان الأمر كما تقولون، - وليس كما تقولون – فأنتم وهم سواء.
وإضافة إلى هذين التصريحين على يقينية وجود الله تعالى، فقد أقام الإمام (ع) عدة أدلة على وجود الله، حتى إن ابن أبي العوجاء بعد عودته إلى أصحابه قال: لقد أقام لي من الأدلة على وجود الله تعالى حتى لكأنني رأيته.
إذن، لا يمكن للطرق الظنية والتخمينية أبداً أن تكون أساساً لإيمان صحيح وثابت. وعلى هذا الأساس وفي ظل هذه التربية القرآنية سعى الحكماء والعلماء المسلمون لأن يتجنبوا الاعتماد على استدلالات غير يقينية. فعلى سبيل المثال لم يكتفوا في كتبهم الفلسفية غالباً ببرهان النظم المستند إلى مقدمة حدسية من أجل إثبات أصل المبدأ، واستعانوا به لتوضيح بعض صفات الباري فقط.
والسبب في حدسية إحدى مقدمات ذلك البرهان هو وجود الاحتمال الضعيف في الطرف الآخر. فهم يقولون، - مثلاً – لو كان لدينا عشرة أعداد متوالية وأردنا إخراجها من داخل كيس بصورة اتفاقية متسلسلة بالترتيب الخاص الموجود بين الأعداد، فإن احتمال وقوع ذلك صدفة ضعيف جدّاً، وهذا الضعف بمقدار غير جدير بالاعتناء. ولو كان ترتيب نظام الوجود الذي يتحرك دائماً على أساس قواعد خاصة، سائراً على هذا المنوال صدفة ومن دون تدبير وفكر وعلم أعلى، فإنّ احتمال ذلك بالنسبة لما هو واقع إلى الآن، وكذلك احتمال استمراره في كل لحظة يقترب من الصفر. إن ضعف هذا الاحتمال أكثر بدرجات من احتمال تدوين كتاب علمي في قوانين الطبيعية يحصل عن طريق ضرب عشوائي على الآلة الطابعة، لأن نظم الكتاب لا يعكس إلا النظم العلّي والعلمي للعالم الخارجي المدرك من قبل كاتبه. وفي هذا الأسلوب من البرهان، - كما يلاحظ – مهما تقدمنا فلا زال الاحتمال المقابل باقياً وإن كان ضئيلاً جدّاً. وعلى هذا فما لم يحدس أحد على بطلان ذلك الاحتمال لا يمكنه الاستفادة منه كبرهان يقيني. ناهيك أن احتمال الخلاف في مثال العدد المذكور يعادل احتمال التوافق في الترتيب؛ أي لو أردنا أن نخرج الأعداد العشرة من الكيس وفق الترتيب المعهود، فإن احتماله يعادل فيما لو أردنا إخراجها عكس الترتيب المعهود أو على أسوأ ترتيب، فإن احتمال الخروج اللامرتب للزوج والفرد يعادل احتمال خروجهما المرتّب.
المصدر: مجلة المحجّة/ العدد الخامس لسنة 2002م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق