• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

السلام من منظور العلاقات الدولية

د. الطيّب البوهالي

السلام من منظور العلاقات الدولية

- أوّلاً: التصور الغربي:
ما كُتب حول السلام لا يحيط به محيط؛ فالسلام والحرب جزآن من الطبيعة البشرية في تاريخها الطويل، غير أنّ ما كُتب في مجال العلاقات الدولية هو أهم إرث إنساني يرجع إليه الخائضون في السلام في عالم اليوم؛ وهو إرث يجمع بين الجذور المسيحية، والفلسفة، والقانون. وبفهمه للسلام يحيا كثير من الناس في هذا الزمان.
والمختار من كتب العلاقات الدولية التي تحدثت عن السلام كتابان:

1- مدخل إلى تاريخ العلاقات الدولية، "لبيير رينوفان"، و"جان باتيست دوروزيل"، وأهم ما فيه ذكر التيارات التي اهتمت بموضوع السلام؛ وهي:
- التيار الديني، والمقصود تيار مسيحي يمكن التمييز فيه بين اتجاهين:
* اتجاه بروتيستانتي: حيث أسس "جورج فوكس" في الولايات المتحدة الأمريكية سنة (1815م) حركة بروتيستانتية رفضت كل أشكال العنف حتى الدفاعية منها، تسمى حركة "الكويكر" Quaker، امتدت آراؤها إلى أوروبا؛ فانعقد المؤتمر الأوّل لجمعيات السلام في لندن: (1843م)، ثمّ استؤنفت الفكرة عندما أنشأ "أندرو كارنيجي" منحته من أجل السلام سنة: (1910م).
* اتجاه كاثوليكي: ففي عام (1911م) تأسست في أوروبا جمعية الكاثوليكيين من أجل السلام في خضم الصراعات القومية التي أدت بعد ثلاث سنوات إلى نشوب الحرب العالمية الأولى.
وقد ثبت فيما بعد أن معظم الكاثوليكيين يضعون المصالح القومية في مقدمة اهتمامهم، ويرون المسيحي لا يجب أن يكون "مسالماً بحتاً".
- تيار يرى وجوب حذف أسباب الحرب المتمثلة في:
* الأسباب الاقتصادية: إذ أعلن "ريتشارد غوبدن" عام (1842م) أنّ السلام وحرية المبادلات التجارية قضية واحدة، واعتمدت الولايات المتحدة في عهد "رزوفلت" مبدأ حرية المبادلات التجارية شرطاً أساسيّاً لسلم دائم.
* الأسباب الاجتماعية: حيث رأى مفكرون ماركسيون أنّ ضمان السلم لن يكون إلا في مجتمع بلا طبقات، ودعوا الطبقة العاملة إلى الانخراط في إضرابات عند كل إعلان حرب.
* الأسباب السياسية: وتتجلى في الاستبداد والطغيان؛ ولذلك دعا مؤتمر السلام في جنيف: (1867م)، إلى وجوب سقوط الأنظمة الاستبدادية العتيقة.
* الأسباب الأخلاقية: إذ نادى دعاة السلام إلى إحلال وطنية شائعة محل القوميات عن طريق الإعلام والتربية، وقد كان هذا الموضوع شغل مؤتمرات السلام الكبرى في الأعوام: (1849م)، و(1867م)، و(1889م)، و(1914م)، إلى أن حملت لواءه منظمة اليونيسكو المنبثقة عن هيئة الأمم المتحدة.
- تيار تنظيم السلام عن طريق الحق: ويهدف إلى إنشاء مؤسسات دولية لحفظ السلام العالمي، وكام مؤتمر باريس للسلام سنة: (1849م) قد ناقش خطة لإنشاء جمعية أمم أوروبية، وأرسى مؤتمراً لاهاي سنتَي: (1899م) و(1907م) أسس إنشاء هيئة تحكيم دولية.

2- العلاقات الدولية، لدانييل كولار ذكر فيه المؤلف مدارس علم السلام الثلاثة؛ وهي:
- المدرسة البسيطة، التي تعرِّف السلام بغياب الحروب بين الدول، وتسعى لمنعها بأي ثمن.
- المدرسة الوسيطة، التي ترى أنّ السلام لن يتحقق إلا بغياب التهديد بالحروب، وزوال أدواتها ومؤسساتها.
- المدرسة المتطرفة، التي تذهب إلى أنّ السلام يعني غياب كل أشكال العنف، ويعد "جوان غالتونغ" Johan Galtung مؤسس هيئة "أبحاث حول السلام" في أوسلو أبرز روادها.
لكن السلام ليس في الحقيقة هدف أكثر "السلميين"، وإنما هو وسيلة لنشر رؤى معينة للعالم، فجميع الانشغالات بالسلام لم تكن إلا إيديولوجيات مصلحية.
فبالرغم من أنّ ميثاق الأُمم المتحدة تضمّن مبادئ تلزم كل الدول الموقعة عليه بالتسامح، والعيش في سلام وحسن جوار، ودعم الحفاظ على السلم والأمن الدوليين؛ "وتحقيقاً لهذه الغاية تتخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم ولإزالتها، وتقمع أعماق العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم، وتتذرع بالوسائل السليمة، وفقاً لمبادئ العدل والقانون الدولي؛ لحل المنازعات الدولية التي قد تؤدي إلى الإخلال بالسلم أو لتسويتها".
وبالرغم من صدور قرارات من مجلس الأمن؛ كالقرار رقم: (242) الصادر سنة: (1967م)، والذي نص على أن تطبيق مبادئ الميثاق يقتضي إقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط، ينبغي أن يشمل: "انسحاب القوات المسلحة الإسرائيلية من أراضٍ احتلت في الصراع، ولكل دولة في المنطقة وحدة أراضيها واستقلالها السياسي، وحقها في الحياة في سلام داخل حدود آمنة معترف بها، متحررة من التهديدات بالقوة أو باستخدام القوة".
بالرغم من تنصيص كافة المعاهدات والقوانين الدولية على وجوب صون السلام في العالم.
وبالرغم من صدور إعلانات بشأن السلم عن الجمعية العامة للأُمم المتحدة.
بالرغم من كل ذلك؛ فإنّ شعوباً كثيرة لم تنعم بالسلام، بسبب طغيان الأهداف القومية، والمصالح الذاتية، والنزعات المتطرفة. وقد وضع الإسلام من قبلُ مبادئ للتعايش السلمي، تصون الحقوق، وتمنع العدوان، وتسمو بالإنسان الذي كرَّمه الله تعالى.

- ثانياً: التصور الإسلامي:
ليس المجال هنا مجال بحث علاقات التداخل والتكامل بين السلام والإسلام، وإنما الهدف هو الإشارة إلى بعض الآراء المعاصرة المنطلقة من توضيح سماحة الإسلام وبيان الضمانات التي وفرها لإقرار السلام:
- فسيد قطب يرى أنّ الدخول إلى الإسلام وحده كافٍ لأن يجعل المسلم يدخل في عالم "كله سلم وكله سلام (...)، عالم كله ثقة واطمئنان، وكله رضا واستقرار، لا حيرة ولا قلق، ولا شرود ولا ضلال، سلام مع النفس والضمير، سلام مع العقل والمنطق، سلام مع الناس والأحياء، سلام مع الوجود كله، ومع كل موجود، سلام يرف في السريرة، وسلام يظلل المجتمع، سلام في الأرض، وسلام في السماء".
- ويرى يوسف القرضاوي أنّ دعوة الإسلام إلى السلام قد تكون مستغربة لدى بعض الناس؛ فقد عرفوا أنّ "الإسلام دين الجهاد في سبيل الله، وأنّ الجهاد أفضل الأعمال عند الله، وأنّ الصائم الذي لا يفطر، والقائم الذي لا يفتر، لا يَبْلُغَانِ ثوابَ المجاهدين في سبيل الله؛ وهذا صحيح. لكن الجهاد في الإسلام إنما فرض للدفاع عن الدعوة إذا اعتدي عليها، أو فُتِن أهلوها، ولقتال من يقاتل المسلمين، ولإنقاذ المستضعفين في الأرض، وتأديب الناكثين للعهود، المتعدِّين للحدود".
- وخلص وهبة الزحيلي إلى أنّ الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو السلم، والحرب عارض لدفع الشر، وإخلاء طريق الدعوة ممن وقف أمامها، وتكون الدعوة إلى الإسلام بالحجة والبرهان لا بالسيف والسنان.
ووجد أنّ ضمانات إقرار السلام في الإسلام كثيرة؛ ومنها: الوفاء بالعهود والمواثيق، وتحريم الغدر والخيانة، واحترام الإنسانية وتكريم البشرية، والدعوة إلى الإخاء الشامل حتى مع الوثنيين، واعتبار الفضيلة والتقوى أساس العلاقات الدولية في الحرب والسلم على حدٍّ سواء، والرحمة في الحرب، واعتبار العدالة المطلقة أساس العلاقات الإنسانية في الإسلام.
- وتناول أحمد جمال العمري بالدراسة المراحل الأولى للدعوة الإسلامية بمكة المكرمة، وبدايات دولة الإسلام في المدينة المنورة، وتشريعات القرآن بشأن الحرب والسلم، ومخططات الرسول (ص) قبل غزوة بدر، ومنهج القرآن في توزيع الأنفال، ثمّ درس أدب الحرب والسلم، وجوانب بلاغية ونفسية، في آيات سورة الأنفال.
وثمة مقالات متعددة سعت إلى إبراز إسهام الإسلام في نشر السلام، دفعاً لتهمة الإرهاب والتطرف عنه؛ وهي التهمة التي لا تزيدها الأيّام إلا رسوخاً، كلما ضل ضال، أو زاغ زائغ؛ ومن هذه المقالات:
- "موقف الإسلام من السلام العالمي": ذكر فيه صاحبه أنّ الإسلام ينفي منذ البداية كل الأسباب التي تؤدي إلى الحروب، ولا يجيز القتال إلّا لإعلاء كلمة الله أو ردِّ الظلم؛ وتقوم فكرة السلام في الإسلام على أنّ السلم قاعدة والحرب ضرورة، ولا يعني ذلك تجنب القتال بأي ثمن.
- "المعاهدات الدولية في الإسلام": بناه كاتبه على ثلاثة محاور
* المعاهدات ومشروعيتها في الإسلام.
* أنواع المعاهدات في الإسلام وموجبالت نقضها.
* مقابلة بين المبادئ الدولية في الإسلام والنظم الدولية المعاصرة.
- "عالمية الإسلام، ونداؤه للسلام، ودعوته للتعايش والاعتراف بالآخر": رأى فيه الكاتب أنّ الإسلام اعتمد في انتشاره على الحوار وليس على الصدام؛ لأنّه دين عالمي يساير قدرات الطبيعة البشرية ولا يكلفها بما لا تطيق، وقد جعل من "السلام عليكم" تحية معتنقيه، تُلقى في رفق وأمان، وقد سبق بذلك إلى إعلان نداء السلام العالمي الشامل، وذكر بأنّ للقتال في الإسلام خصوصيات أهمها:
* الأصل في الإسلام هو السلم العام، والهدف من الحرب هو الوصول إلى السلام، والحرب استثناء مقيد بقيود.
* لا يجب ردُّ العدوان إلا بمثله بدون تجاوز.
* لا يجوز القتال لمجرد المخالفة في الدين.
* إذا أظهر العدو استعداده للسلم ينبغي الاستجابة له.
* ليس الهدف من القتال هو الحصول على الغنائم.
* لا ينبغي مباغتة العدو بل لابدّ من إشعاره بالحرب.
* دعا الإسلام إلى الحوار والاعتراف بالآخر، وقرر أن: (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) (البقرة/ 256).
* كانت لأهل الكتاب في بلاد المسلمين وضعية خاصة.
- "الأصل في علاقة الدولة الإسلامية بغيرها في الفقه السياسي الإسلامي": أشار فيه الكاتب إلى أنّ الأصل في علاقة الدولة الإسلامية بغيرها مختلف فيه بين العلماء، تبعاً للخلاف حول مقاصد الجهاد؛ فالذين يرون أنّ الأصل هو الحرب يتمسكون بآيتي السيف والجزية، والذين يرون أنّ الأصل هو السلم يستدلون بالآيات التي تنهى عن الاعتداء، وتأمر بالصفح والعفو، والإعراض عن الجاهلين، ورجح الكاتب أنّ الأصل في علاقة المسلمين مع غيرهم هو السلم.
وهكذا تجد أنّ دافع أكثر الحديث في السلام هو الانتصار لسماحة الإسلام، ودعوته الناس بالحسنى صدّاً للنصال على النصال التي تكاثرت على أُمّة تداعت عليها الأُمم، والحال أنّ السلام من السلام أتى، وإلى السلام يعود.
أليس السلام منشئ الدنيا وذرتها؟
أليس من السلام جاء العلم بكيف السلام وماهيته؟
بلى؛ فلينهل المفهوم من منابعه الأولى، منابع الوحي الصحيح، بالمنهج الصحيح، والفهم الصحيح.

المصدر: كتاب مفهوم السلام في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف

ارسال التعليق

Top