عبدالحليم عويس
كان عروة بين الزبير (شقيق عبدالله بن الزبير) إماماً جليلاً زاهداً في مناصب الدنيا وجاهها، حريصاً على الفقه في دين الله، وتعليم الناس، والإحسان إلى الفقراء... وكان مشهوراً باستغراقه في الصلاة استغراقاً يخرجه عن الدنيا فكأنه ليس من أهلها، وكان آيةً في الصبر والتقوى والرضا بقضاء الله وقدره..
وقد اعتكف في حلقات المسجد النبوي بالمدينة والمسجد الحرام بمكة أيام الحج ليدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة مع نفرٍ من ذوي العلم بطيبة كانوا حملة المشاعل في مدينة رسول الله (ص)، فضربوا في ميادين النظر بأوفر السهام، وقد عرفوا في تاريخ الفقه الإسلامي بفقهاء المدينة السبعة، وحسْبك أن يكون منهم: سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعبيد الله بن عتبة ابن مسعود، وسليمان بن يسار، وسالم بن عبدالله بن عمر، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعروة بن الزبير – رضي الله عن الجميع –.
وقد عرف خلفاء بني أميّة إخلاص عروة وزهده وابتعاده عن السياسة، وبالتالي فلم يأخذوه بخلاف أخيه عبدالله معهم، وعاملوه أحسن معاملة، وكانوا يستقبلونه أحسن استقبال، ويقبلون نصحه لهم، بل يستشيرونه في بعض الأمور..!!.
وقد مرض عروة مرضاً أوجب قطع أحد قدميه، فما جزع ولا وهن لما أصابه في سبيل الله، بل إنّه عندما علم بالأمر تقبَّله برضا، دون أن يظهر منه – حتى في وقت المفاجأة بالخبر – أيُّ تغيّر في صوته أو في وجهه أو على لسانه، بل بدا في غاية الرضا بقضاء الله وقدره..
ولما دُعِي الجزار ليقطع قدمه قال له: نَسْقيك الخمر حتى لا تجد لها ألماً. فقال: لا أستعين بحرام الله على ما أرجو من عافيته.. قالوا: فنسقيك المرقد (نوع من المهدئات) قال: ما أحب أن أسلب عضواً من أعضائي وأنا لا أجد ألم ذلك فأحتسبه.
قال: ودخل عليه قوم أنكرهم، فقال: ما هؤلاء! قالوا: يمسكونك، فإنّ الألم ربما عَزَّ معه الصبر، قال: أرجو أن أكفيكم ذلك من نفسي... فقطعت كعبه بالسكين، حتى إذا بلغ العظم وضع عليها المنشار فقطعت وهو يهلِّل ويكبّر، ثمّ إنّه أُغلي له الزيت من مفارق الحديد، فحسم به، فغشى عليه، وأفاق وهو يمسح العرق عن وجهه، ولمّا رأى القدَم بأيديهم دعا بها، فقَلَّبها في يده ثمّ قال: أما والذي حملني عليك إنّه ليعلم أني ما مشيتُ بكِ إلى حرام، أو قال: إلى معصية قط..!!.
وكان هذا هو كل ما صدر منه في هذا الموقف العصيب!!.
وكان من قدر الله وحكمته ألا يقف الأمر بعروة عند هذا الحدّ، بل شاءت حكمة الله أن تظهر عظمة هذا الفقيه الجليل وعميق إيمانه، وقوة جلده وتحمله، وضربه المثل في الصبر والاحتساب، ففي هذه الظروف نفسها تشاء إرادة الله أن يقع أمر محزن آخر يؤدي إلى كارثة أخرى.. فقد دخل ولده (محمد) اصطبل الخيول من دار الخلافة لينهض بغرسٍ له، فصادف خيلاً هائجاً يعترضه في عَدوْ مجنون سرعان ما ألقاه على وجهه، فأسلم الروح، والأب الحزين لم يهدأ بعد من ألم القطع ليصدم بنعي ولده الحبيب..؟.
ولم يملك غير الدموع، فالاستغفار والاسترجاع.. وقد أحضر له الوليد بن عبدالملك من يواسيه من أرباب النوائب، فاستمع من إصغاء، ثمّ رفع يديه إلى السماء ليقول لله في ضراعة: "اللّهمّ لئن أخَذْتَ لقد أبْقيت، ولئن ابتَليتَ لطالما عافيتَ.. فلك الحمد في الأولى والآخرة"!!
ولم يترك ورْده إلا ليلةً واحدة، ثمّ استأنفه من الليلة المقبلة؛ إذْ كان يصلِّي الليل برُبع القرآن، ومنعه هيجان الألم أن يقرأ بعد القطع...
ومن الذي يطيقه؟.. لكن ذلك كان – كما ذكرنا – لليلة واحدة، فمن يستطيع أن يفْعل هذا، وأن يصل إلى هذه الدرجة من اليقين والإيمان!!.
وقد واساه كثيرون، وقدَّموا له أفضل المواعظ، وكان يستمتع إليهم، ويقبل مواعظهم مع أنّه أكثر علماً منهم، وأقوى إيماناً... لكنه أدب الإسلام الذي يأمر بالتواضع وخفض الجناح، وكان من أحسن ما سجله الرواة من ذلك ما يُنسب إلى إبراهيم بن محمد بن طلحة حين قال له من؟؟: "والله يا عروة ما بك حاجةٌ إلى المشي، ولا أرب في السعي، وقد تَقَدَّمك عضوٌ من أعضائك وابن من أبنائك إلى الجنّة، والكلّ يتبع البعض إن شاء الله تعالى.. وقد أبْقَى الله لنا من علمك ورأيك ما كنّا إليه فقراء، وعن غيره أغنياء، والله ولي ثوابك، والضمين بحسابك".
فكان لهذه الكلمات الطيبات وأمثالها وقعها الطيب على عروة بن الزبير.. الصحابي الجليل.. إمام الصابرين الممحتسبين في حضارتنا الإسلامية، بعد خاتم المرسلين وإمام المتقين عليه الصلاة والسلام!!.
المصدر: كتاب إنسانيات الإسلام (مبادئ شرعية.. وتجارب واقعية)
ارسال التعليق