أصبحت المادة الإعلامية الموجهة للأطفال من أخطر الصناعات الإعلامية في العصر الحالي، ومن أكثر الصناعات التي تشهد إقبالاً من طرف المستثمرين وشركات الإنتاج العالمية، نظراً لما تدره من أرباح سنوية تقدر بملايين الدولارات بسبب استهدافها لشريحة واسعة تتسع دائرتها باستمرار، وهي شريحة الأطفال والشباب واليافعين.
وبفضل انتشار الصحون وتعدد القنوات الفضائية وظهور شبكة الأنترنت وعولمة الصوت والصورة، أصبح إعلام الطفل يشهد تنامياً ملحوظاً، وصار أكثر قرباً من الطفل داخل البيت، وقد حمل هذا الانتشار السريع معه أساليب جديدة وأكثر تطوراً لاستمالة الطفل والسيطرة على عقله ودفعه إلى الإدمان.
ولا شك أنّ هذا التوسع المذهل في تجارة التسلية الموجهة للأطفال يخفي الكثير من المخاطر والسلبيات. فجل الشركات المنتجة والعاملة في هذا القطاع هي شركات غربية توجه نشاطها نحو ثقافة غربية وفهم غربي لمعاني التسلية واللعب والترفيه والتربية، ومتجذرة في أخلاقيات العلمانية الغربية التي تتعامل مع إعلام الطفل بمنطق السوق والجري وراء الربح والكسب دون اهتمام بالقيم، وفي حالة التعارض بين هدفي الكسب وزرع القيم، فإنّ الغلبة تكون للأول على حساب الثانية.
ويكمن خطر الإنتاج الإعلامي الغربي في سعيه إلى أن يصبح نموذجاً يحتذى، وإنتاجاً مثالياً في ذهن الطفل الراغب في مشاهدة الأفلام والمسلسلات والبرامج التي تخاطب فيه غرائزه الطفولية، وأنماطاً للتقليد والمتابعة، مما يخلق حالة من التشوه النفسي والقيمي لدى الأطفال، يصبح معها أمر التقويم صعب المنال مع التقدم في السن وانغراس تلك النماذج والأنماط في منطقة اللاوعي، ولا يعود الطفل ينظر إلى العالم سوى بمنظار ما يقدم له.
والحقيقة إنّ إعلام الطفل في الغرب نشأ في إطار سياسات حضارية عاملة لدى النخبة وصانعي القرار من أجل التحكم في ميول الطفل وغرائزه وتلقينه أخلاقيات المجتمع الغربي، وتدريبه على ما ينبغي أن يتحلى به من أخلاق وخصال فردية واجتماعية، في سياق إعادة بناء الفرد والمجتمع. ففي المجتمعات الغربية الرأسمالية نشأت ثقافة الطفل في التلفزيون لتكون في خدمة الثقافة الرأسمالية وتطلعاتها وأهدافها المتوخاة، ولتكسب الطفل الغربي نزعة الكسب والقوة والجشع والاستهلاك وحب الذات والإيمان بالفردية، وحذت المجتمعات الشيوعية في الستينات والسبعينات حذو المجتمعات الرأسمالية في إنتاج ثقافة خاصة بالطفل تحاول زرع الإيديولوجية الشيوعية في نفسيته وعقله ووجدانه، وتربيته على أخلاقيات المجتمع الاشتراكي بكلِّ الأفكار ذات الجذور الشيوعية، مثل فكرة نفي الألوهية وأصل الحياة والصراعات الطبقية وغير ذلك.
ورغم ما يظهر من وجود تباينات بين هذه التوجهين المتقابلين، فإنّ الفلسفة ظلت واحدة، وهي بالعنف والصراع والبعد المادي في الحياة.
الأعمدة الثلاثة:
يتشكل إعلام الطفل بوجه عام من الرسوم المتحركة وأفلام الكرتون والعرائس والأشكال الفنية الأخرى ذات المضامين والمحتويات التي يقصد بها الأطفال وفئات الشباب.
وتعتبر هذه الفنون رافداً أساسياً من روافد تربية الطفل وتنشئته اجتماعياً ونفسياً وعقلياً، وتطوير ملكاته وتهذيبها، وغرس القيم المستهدفة من وراء عملية التنشئة، وتنمية مهاراته الذهنية، كما أنها تعطي للطفل فرصة الاستمتاع بطفولته وتفتح مواهبه ونسج علاقاته بالعالم من حوله. وتؤثر مسلسلات وأفلام الكرتون والرسوم المتحركة وغيرها تأثيراً بالغاً في وجدان الطفل، إلى الحد الذي يحقق معها حالة تماثل قصوى، لأنّ الصورة المتحركة المصحوبة بالصوت في المراحل المبكرة للطفل تتجاوب مع الوعي الحسي والحركي لديه، وتحدث استجابات معينة في إدراكه، تساهم فيما بعد في تشكيل وعيه وتصوره للأشياء من حوله، لأنّه يختزنها وتصبح رصيده الثقافي والوجداني والشعوري. لكن الصورة والرسوم ليست مستقلة عن الأبعاد الثقافية وعن الهوية الحضارية، فالصورة في نهاية الأمر وسيلة تبليغ وأداة تواصل وجسر بين الطفل والرسالة المحمولة إليه، وكلّ رسالة ثقافية تفترض وجود ثلاثة عناصر تدخل في تركيبها، بدونها تخرج عن كونها رسالة، وفي حالة إعلام الطفل فإنّ المرسل يكون هو المنتج أو الكاتب صاحب الرسالة، والمرسل إليه هو الطفل، والرسالة هي الموضوع أو المحتوى. وتؤثر هوية المرسل في طبيعة الرسالة، فتأتي هذه الأخيرة انعكاساً طبيعياً لثقافته ووعيه وهويته الحضارية والدينية، وهذا التداخل بين المرسل والرسالة يكون له تأثير قوي على الطفل أي المرسل إليه. ومن هذا المنطلق، فإنّ أي منتج ثقافي، مهما تنوع مرسلوه أو المرسل إليهم، هو رسالة حضارية وثقافية تحمل مضموناً معيناً يراد تبليغه، وتظهر فيه البصمات الحضارية الخاصة.
خطر إعلام الطفل المستورد:
إنّ أفلام الكرتون والرسوم المتحركة الموجهة للأطفال تصبح خطراً حقيقياً حينما تخرج عن سياقها الحضاري الذي نشأت فيه.
وتتحول إلى سموم قاتلة، ووجه الخطر في هذا الأمر أنّ المرسل والرسالة يحافظان على جوهرهما، ويتغير المرسل إليه، وهو هنا الطفل، ليكون ابن حضارة مغايرة، يتلقى رسالة غريبة من مرسل غريب عنه، ويحاول هضمها في إطار خصوصيته وهويته، فتصبح الرسالة في هذه الحالة مثل الدواء الذي صنع لداء معين، ويتم تناوله لدفع داء آخر، فتصبح النتيجة داء جديداً.
ولنا أن نتصور حجم الأذى والسلبيات التي تنتج عن أفلام الكرتون المستوردة والمدبلجة على الطفل المسلم الذي يتأثر بها. فمثل هذه الأفلام تجعل الطفل المسلم يتلقى قيماً وعادات وأفكاراً غريبة عن البيئة والثقافة العربية الإسلامية التي يعيش في كنفها، لكنه يتعامل معها ببراءته المعهودة المستسلمة، فتنمو لديه دوافع نفسية متناقضة، بين ما يتلقاه على شاشة التلفزيون، وما يعيشه داخل الأسرة والبيئة والمجتمع، فيكون ذلك بداية الانحراف والوعي غير السوي. فالطفل في سنواته الأولى يكون قابلاً لتقبل أي شيء يقدم له، لأنّه يعيش مرحلة التعرف، ويبدأ خطواته الأولى في الإحساس بما يلمسه أو يراه أو يسمعه، ويتأثر – بشكل ملحوظ – بما يحيط به من مؤثرات ثقافية مسموعة أو مرئية أو مقروءة، فيتفاعل معها بتلقائية ويسير في نسقها، حتى يصبح من الصعب التخلص كلياً أو جزئياً من آثارها السلبية على شخصيته ونمو وعيه. ومن العوامل المعيقة لنمو شخصية الطفل نمو طبيعياً سليماً الإعلام الفاسد والإدمان المستمر عليه.
ويلعب إعلام الطفل المستورد دوراً خطيراً في تنشئة الطفل التنشئة الاجتماعية والثقافية المنحرفة، فكثير من أفلام الكرتون تحوي مشاهد مخلة بالحياء وهادمة للقيم الدينية السوية ومتعارضة مع الهوية الحضارية للطفل المسلم، تسعى إلى إقناعه بأنها هي القيم الحقيقية السائدة في الواقع، والانعكاس الأمين لما عليه المجتمع، وإعداد وترويض الطفل مبكراً للتعايش معها في كبره. ونحن نعلم أنّ كثيراً من هذه الأفلام موجهة بالأساس إلى أطفال العالم الثالث وأبناء المسلمين، وتتضمن دعوات مشبهوهة ومبطنة إلى الإلحاد والتبشير والدعاية للمجتمع الغربي وثقافته، من خلال تمجيد القوة والنمط الاستهلاكي في العيش والمنفعة الخاصة.
مقترحات على طريق إعلام سليم:
في عصر الفضائيات والطرق السيّارة للمعلومات والتطور التكنولوجي المتسارع، لم يعد مبرراً ترك أطفال المسلمين يواجهون مصيرهم الخاص، فلقد أصبح لازماً إعداد استراتيجية عربية خاصة لإنتاج إعلام الطفل ينطلق من الأسس والمقومات الإسلامية، بما يحصن الأجيال الجديدة في عالم يمور بشتى المنتجات الفنية والإعلامية التي تهددها في وجودها وكيانها، ويوجد البديل المأمول، ويقطع دابر التبعية في هذا المجال الخطير والحيوي.
إنّ العولمة الإعلامية واتساع انتشار ثقافة الكلمة والصورة وغزوها كلّ البيوت تدعونا اليوم إلى التفكير في دخول هذا التسابق الحضاري، ووضع إعلام بديل وتحديد برامج كفيلة بترجمة الأهداف الإسلامية الكبرى إلى واقع، وصبغ ثقافة الطفل بصبغتها. ومن هذه الأهداف:
1- تشكيل الوجدان المسلم تشكيلاً إسلامياً من خلال القصص المؤثرة التي تعرض للبطولات والنماذج الفريدة في تاريخنا.
2- صبغ الفكر بالمنهج الإسلامي، وتخليصه من الوثنيات والخرافات والشوائب المنافية لها.
3- طبع السلوك بالطابع الإسلامي في جميع المواقف الحياتية للطفل.
4- ترسيخ حب العلم باعتباره فريضة إسلامية.
5- تحديد مفهوم السعادة تحديداً إسلامياً شاملاً، يقف في وجه المفهوم الغربي للسعادة التي جعلها في الثراء والجاه والقوة والسيطرة والأنانية والأثرة.
6- تنمية ملكة الخيال عند الطفل، بشكل يجعله خيالاً تربوياً بناءً بعيداً عن الشطط الذي تقدمه البرامج الغربية.
7- إيجاد التوازن النفسي في شخصية الطفل.
8- ترسيخ العقيدة الصحيحة.
9- فهم الحياة فهماً إسلامياً سليماً، حتى يصبح حلم الطفل هو إقامة المجتمع الإسلامي الرشيد.
10- بعث مشاعر الوحدة الإسلامية.
11- توضيح مفهوم الحب بمعناه الإيجابي.
12- إثراء الحصيلة اللغوية.
13- تنمية الإحساس بالجمال.
ولكن يبقى دور الأسرة على رأس الأدوار التي يمكنها توجيه الطفل المسلم توجيهاً سليماً، والتوفيق بين القيم الإسلامية والقيم التي يمتصها الطفل من الإعلام المصور، على اعتبار أنّ الأسرة هي المحيط الأوّل الذي يفتح عليه الطفل عينيه، فيتلقى منه نماذج التصرف والسلوك والتوجيهات التي تقود خطواته الأولى. غير أنّ دور الأسرة لا يكون ناجحاً بدون وجود استراتيجية مجتمعية شاملة لإعلام إسلامي قويم، يتكامل مع وظيفة الأسرة بشكل منسجم.
المصدر: كتاب الطفل في الإعلام
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق