• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العبادة ابتلاء إلهي يصقل الإنسان

د. يوسف القرضاوي

العبادة ابتلاء إلهي يصقل الإنسان

الحياة التي نحياها هذه – طالت أو قصرت – ليست هي الغاية ولا إليها المنتهى، وماهي إلا محطة انتقال إلى حياة أخرى ودار أخرى؛ حياة البقاء، ودار الخلود. وفي بعض الآثار: "إنكم خلقتم للأبد، وإنما تنقلون من دار إلى دار" وقال الشاعر:
وما الموت إلا رحلة غير أنها **** من المنزل الفاني إلى المنزل الباقي
فالمعول عليه إذن إنما هو الدار الأخرى (وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت/ 64).
والإنسان في هذه الدار الفانية إنما يستصلح لتلك الدار الباقية. يستخلفه الله هنا ليعد ويصقل للخلود هناك. ولا شيء يصقله ويهذبه ويعده مثل الابتلاء، فهو البوتقة التي تصهر فيها النفس ويصفو الروح.
فقد شاء الله أن يخلق الإنسان نوعاً متميزاً على غيره، بما ركب فيه من عناصر مزدوجة، يمكن أن تصعد به إلى السماء، وأن يهبط بها إلى الأرض، ففيه الغريزة والشهوة، وفيه العقل والإرادة؛ فيه المادة، وفيه الروح، وقد دل هذا الخلق على أنّ الإنسان مسؤول ومبتلى. وهذا هو السر في استعداده لحمل المسؤولية، وأمانة التكاليف الإلهية التي عبّر عنها القرآن تعبيراً بديعاً فقال: (إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ) (الأحزاب/ 72).
لقد كان ما أُوتي الإنسان من عقل وإرادة وضمير واستطاعة، وما يُسِّرَ له من أسباب، نعمة عليه أي نعمة، وتكريماً له أي تكريم، ولكنها كانت تحمل في طيها ابتلاء له أي ابتلاء: أيشكر أم يكفر؟ أيطيع ربه أم يتمرد عليه؟
وهكذا ذكر القرآن الكريم أنّ الله سبحانه إنما خلق السماوات والأرض، وخلق الموت والحياة، وزين الأرض بما عليها؛ ليبتلى عباده ويمتحنهم – وهو بهم أعلم – ليظهر من يريده ويريد ما عنده ممن يريد الدنيا وزينتها، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) (هود/ 7).
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) (الملك/ 1-2).
(إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) (الكهف/ 7).
(إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ) (الإنسان/ 2).
إنّ هذه الحياة الدنيا لا تعطى حصادها إلّا لمن يزرعون، ولا جناها إلّا لمن يغرسون، ولا ينال المرء ما يحب إلا بصبره على ما يكره، ولا يتحقق له أمل يصبو إليه إلا بعد أن يجتاز امتحانات عسيرة، ويتحمل مشقات شديدة. ولذلك لا يطمع في إدراك المعالي وتحقيق الآمال الكبيرة إلا أولوا العزم وأصحاب النفوس الكبيرة. وفي هذا يقول المتنبي:
ذريني أنل ما لا ينال من العلا
                                      فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
تريدين إدراك المعالي رخيصة 
                                      ولابدّ دون الشهد من إبر النحل!
هذا شأن حياتنا هذه القصيرة، فكيف بحياة الخلود؟ أيريد الإنسان أن يحظى بنعيمها ورضوان الله فيها، ويسعد بالنظر إلى وجهه الكريم، دون جهد ولا ابتلاء ودون أن يسعى لها سعيها؟ إذن يستوي القاعدون والمجاهدون، يستوي الكسالى والعاملون، يستوي الطالحون والصالحون. وهم في عدالة الله لا يستوون!!
لقد عرفنا من عدالة السنن الإلهية في الكون أنّ الشيء النفيس لا يدرك إلا بجهد كبير، وكلما كانت نفاسته أظهر، احتاج إلى جهد أكبر، فهل هناك شيء أنفس وأعظم من الآخرة الباقية، من الحياة الأبدية، من رضوان الله تعالى؟ لا والله. ولهذا حُفت الجنة بالمكاره، ومُلىء طريقها بأشواك الابتلاء.
ومن هنا قال الإنجيل: "ما أضيق الطريق الذي يؤدي إلى الحياة الأبدية"! وما ضيقه إلا تكاليف العبودية والتزامات الإيمان.
وقال القرآن العظيم: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران/ 142).

المصدر: كتاب العبادة في الإسلام

ارسال التعليق

Top