• ١ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٢ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

تربية ديموقراطية

ألان تورين/ ترجمة: حسن قبيسي

تربية ديموقراطية

◄إنّ تعريف الديموقراطية بما هي الوسط المؤسساتي الملائم لتشكّل الفرد وعمله لا يعود يتخذ معنى ملموساً إذا لم تتغلغل الذهنية الديموقراطية في جميع جوانب الحياة المجتمعية المنظّمة، من المدرسة إلى المستشفى، ومن المنشأة إلى البلدة.

لقد ولدت الديموقراطية في جزء كبير منها على المستوى البلدي في مجتمع شهد تنامي المدن والتجارة. وينبغي أن تكون موجودة في جميع التنظيمات الكبيرة التي يتصف بها المجتمع ما بعد الصناعي. وهذا ما يعبّر عن الرأي العام بقوّة عندما يطالب باستقلالية المدن والمناطق، ولكن إلى جانب تمسّكه بالديموقراطية الصناعية. فالعمل الديموقراطي يقتضي تخفيف الكثافة الجماهيرية في المجتمع، عن طريق توسيع نطاق الأماكن والعمليات التقريرية التي تسمح بتوضيح طبيعة تلك الضغوط التي تأتي من مصادر مبهمة ومجهولة، وتنوء بثقلها على المشاريع والميول الفردية.

والتربية هي التي ينبغي أن تضطلع بالدور التخفيفي المذكور. وإنّ جميع التصورات التي تتناول الكائن البشري والمجتمع تترجم إلى أفكار تربوية. فكتابَي (في العقد المجتمعي) و(اميل) لا ينفصلان واحدهما عن الآخر، كما أنّنا نجد أشدّ تعبير عن ثقافة الأنوار (بالحرف المكبّر) في الفكرة القائلة بأنّ دور التربية يقوم على النهوض بالشبان ليبلغوا مصاف القيم الجامعة.

وقد أسفر تصوّر التنشئة على هذا النحو عمّا قام الفرنسيون بتنظيمه على أشد نحو من التماسك والصلابة. أعني – خلافاً للتربية الطبقية التي استمرت ردحاً طويلاً من الزمن في بريطانيا الكبرى – طريقتهم في الانتقاء بناءً على الجدارة والاستحقاق، أي بناءً على مقدرة التجريد والبلورة، وبإيلائهم أهميّة كبيرة أيضاً للفكر التاريخي وفقاً لذهنية القرن التاسع عشر.

وبما أنّني أُدافع عن الفكرة القائلة بأنّ الذهنية الديموقراطية والثقافة الديموقراطية مختلفتين عن الذهنية الجمهورية التي ترتبط هي نفسها بفلسفة الأنوار وبالعقلانية، فما هو تصوري للتربية الذي يمكن أن أواجه به ذلك التصور الذي صنع عظمة الجيمنازيومات[1] والليسيهات والذي تكاد أفضل الجامعات الأمريكية، وعلى رأسها هارفارد وشيكاغو، تظل دائبة على محاولة تجديده وإحيائه؟

ينبغي أن نضع للتربية هدفين متساويين من حيث الأهمية: تكوين العقل والقدرة على العمل العقلي من جهة، وتنمية الطاقة الإبداعية الشخصية والاعتراف بالآخر كذات من جهة أخرى. والهدف الأوّل هو أقرب الهدفين إلى المثل الماضية وينبغي المحافظة عليه: إذ ينبغي أن تظل المعرفة من صلب التربية، ولا شيء أتفه وأضرّ من برنامج يعطي الأولوية إمّا للتنشئة المجتمعية عن طريق فريق من الأتراب والرفاق، وإمّا للاستجابة لحاجات الاقتصاد. فكما ينبغي رفض التصوّر العقلاني الخالص للإنسان والمجتمع، ينبغي أيضاً معارضة كلّ ما من شأنه أن يستهين بقيمة العقل. والصراع المرير ضد تحالف العقل والسلطة إنّما يُبتَغى منه قبل كلّ شيء إنقاذ العقل، والتمهيد لتحالفه مع الحرّية.

أمّا الهدف الثاني، فهو في الواقع، تعلم الحرّية. وهو يمرّ في آن معاً، عبر اكتساب الذهن النقدي، وملكة التجديد والإبداع، ووعي المرء بخصوصيته، خصوصيته المؤلفة من طبيعته الجنسية وذاكرته التاريخية. وينبغي أن يفضي ذلك إلى التعرُّف على الآخرين بما هو اعتراف بهم، أفراداً وجماعات، بما هم ذوات. لذا يُفترض بالتعليم على مستوى البرامج أن يضع لنفسه ثلاثة أهداف كبرى: التمرُّس بالفكر العلمي، والتعبير عن الذات، والاعتراف بالآخر، أعني الانفتاح على ثقافات ومجتمعات بعيدة عن ثقافتنا ومجتمعنا، سواء من حيث المكان أو الزمان، وذلك بغية العثور فيها على القوى الإبداعية التي أُسمِّيها تاريخ تلك الثقافات والمجتمعات وإيجادها لذاتها عبر نماذج من المعرفة والعمل الاقتصادي والأخلاق.

لكن البرامج لا تكفي وحدها لتحديد تصوّر للتربية، بل ينبغي أن تضاف إليها العلاقة التربوية وأن توضع في الصدارة. فنحن بأمسّ الحاجة إلى تعريف جديد للتعليم. إذ تقوم اليوم قطيعة، حللها فرنسوا دوبيه تحليلاً جيِّداً بالنسبة لفرنسا، بين دنيا المعلمين ودنيا المتعلمين لا تني تتفاقم، ولا يعدو العنف المستشري في أوساط الطلاب من ذوي الأوضاع المتردية كونه دالولاً بليغاً عليها. فالمعلم عميل من عملاء العقل، وهو كذلك نموذج وموديل يساعد الطفل أو الشاب على تكوين هُويّته الخاصّة، على نحو ما يفعل الأب والأُم. كما أنّه، أخيراً، وسيط، يعلِّم الواحد كيف يفهم الآخر.

ينبغي أن تكون المدرسة متباينة ثقافياً ومجتمعياً وغير متجانسة. منذ بضع سنوات حصل في فرنسا حادث بسيط من حيث مظهره، مفاده أنّ ثلاث فتيات أعربن عن عزمهنّ على ارتداء الحجاب الإسلامي في ثانويتهم، بينما رفض مدير الثانوية – الذي أصبح اليوم نائباً في البرلمان – أن يتساهل حيال هذا الدالول على انتمائهنّ الديني، ممّا أثار نقاشاً حامياً بين المتهمين بشؤون المدرسة والذين اتخذوا جميعاً موقف الدفاع عن العلمانية. وانتهى الأمر بتغلب الموقف المتساهل بفضل تدخل مجلس الوزراء. لكن ذلك لم يمنع ثانويةً أخرى من طرد فتيات أعربن عن عزم مماثل على ارتداء الحجاب.

ما فائدة المدرسة إذا هي لم تكن قادرة على جعل فتيان وفتيات، نشأوا في أوساط مجتمعية وثقافات مختلفة، يتقاسمون الذهنية القومية والتسامح والرغبة بالحرّية؟ ولماذا تكون المدرسة على هذا الجانب الضئيل من الثقة بالنفس، بحيث ترى أنّ عليها إغلاق أبوابها في وجه الذين يختلفون ويختلفن عنها بأمر من الأُمور؟ لم يعد من الجائز اليوم أن ينصبّ الغرب العقلاني نفسه محتكراً للتاريخية والحرّية، تحت طائلة نسيانه لتاريخه الخاص. لم يعد من المقبول أن نرفض سلفاً رؤية الذات البشرية، بإبداعيّتها وحرّيتها، تبحث عن سُبُل أخرى للإعداد والتعبير.

من السخف أن يقول المرء بأنّ الدين، بمختلف أشكاله، عدو للتقدُّم وللحرّية. فنحن لا نستطيع توجيه اللوم والإدانة، بذكاء وفعالية، للأعمال المنافية للديموقراطية التي تتمّ باسم دين أو قومية أو طبقة، ما لم نحسن التعرُّف إلى وجود قوى تحريرية ضمن حركات دينية أو قومية أو مجتمعية، وهي قوى غالباً ما تكون على كلّ حال، أولى ضحايا الأنظمة السلطوية التي ينبغي محاربتها.

كان علينا أن نعرف ذلك منذ مدّة طويلة: فإذا كان النظام اللينيني، من حيث مبدأه بالذات، مضاداً للديموقراطية، فإنّه قد نشأ انطلاقاً من حركة عمّالية واشتراكية كانت مفعمة بالتطلعات الديموقراطية، ولم يكن من قبيل الصدفة أن تكون المعارضة العمّالية أوّل ضحية للقمع بعد إغلاق الدوما في الاتحاد السوفياتي بصورة تعسفية. وما هو صحيح على المستوى التاريخي يصح أيضاً على مستوى الحياة الفردية. فالذات الشخصية مصنوعة من حرّية وهوية. والتخلي عن الهوية لا يمكن أن يكون ثمناً للحرّية. ولهذا السبب نفسه ينبغي الاعتراف للعائلة بدور أساسي في تكوين الذهنية الديموقراطية. لقد كان الفكر "التقدمي" نقده للعائلة، وخاصّة للنساء بوصفهنّ صنيعاتٍ لعملية نقل أشكال الرقابة المجتمعية والثقافية، وذلك باسم ضرورة التخلص من كلّ الخصوصيات وباسم إعداد المواطنين العقليين المسؤولين. فإذا كان هذا المثل الأعلى قد بلغ أوجه في الكيبوتزات الإسرائيلية، فلأنّ الرهان المطروح كان إيجاد أُمّة إلى جانب إيجاد اقتصاد ولغة.

على هذا الصعيد، تكون الذهنية الجمهورية قريبة ممّا يمكن أن تكونه الذهنية الديموقراطية في حالات التبعية والنضال من أجل التحرر. ولكن كلما كان العائق الخارجي ضعيفاً، وخاصّة كلما كان النمو جوانيّاً، كان من الواجب الاعتراف بالفرد بوصفه ذاتاً قمينة بأن تكون قوّة فاعلة من قوى التغيير المجتمعي، وعاملاً من عوامل النقد والتجديد، لا بوصفه جندياً مستنفراً لخدمة مأثرة جماعية، دفاعية أو تحريرية.

ينبغي أن نُقلع عن اعتبار دور الأهل تجاه الأولاد دوراً تقليدياً، واعتبار غيابهم عنهم لمدد أطول فأطول دوراً "حديثاً"! كما ينبغي أن نتجاوز التعارض بين الحياة العامّة، المنفتحة والمجزية، وبين الحياة الخاصّة، الرتيبة والموحشة. فحتى يتمّ الاستدماج، ينبغي أن تكون الذات الشخصية أو الجماعية قادرة على تبديل مجموعة مجتمعية أو ثقافية، ممّا يعني أنّ التشديد ينبغي أن يتم على الهوية وعلى المشاركة سواء بسواء. فالحديث لا يجري اليوم في مجتمع الجماهير إلّا عن المشاركة، لكن هذه المشاركة تعني بالأحرى الذوبان في خضم الجموع التي حددها (دافيد ريسمان) بوصفها جموعاً مستوحشة.

ينبغي التوفيق، بدلاً من التفريق، بين هدف الاستدماج وهدف المشروع الشخصي والهوية. ينبغي أن يُستَدمج شخص ما بشيء ما، أو بمجموعة أشخاص وتقنيات. وكيف يتسنّى لهذا الشخص الـ ما أن يوجد إن لم يكن يتوافر على مجال خاص به تشكله العائلة أو المجموعة القومية العرقية أو الدينية وتحميه؟

فلطالما اصطدم أفراد يعتمدون على وسط مهني أو عائلي أو محلي، بمجتمع موصد الأبواب في وجوههم. ذلك أنّ هويتهم كانت قوية، لكن مشاركتهم ضعيفة. أمّا اليوم، فقد انقلبت الآية: فقد انفتحت أبواب المجتمع، حتى إنّ العاطلين عن العمل والهامشيين صاروا يشاركون في الاستهلاك، ناهيك بمشاركتهم في الاتصالات الجماهيرية. ورغم خمولنا وسلبيتنا، تجدنا نشارك جميعاً في تسيير عجلة الآلة الاقتصادية والمجتمعية. لكننا بتنا معرّضين لأن نكفّ عن كوننا أفراداً، أو على الأقل، لأن نفقد قدرتنا على تدبير شؤون حياتنا الفردية. كان النظام القائم يقمع الذين يهاجمونه، فبات اليوم يجزِّئ الذين – إذ فقدوا هويتهم – لم يعودوا يهاجمونه، بل يسعون إلى القبوع في أدنى دركات المجتمع، أو يلتجئون إلى حمى مجتمعات دفاعية مضادّة، أو يتفككون بتعاطي المخدرات التي تَضعف رقابتهم على أنفسهم، وتحرر طاقات، وصوراً، وأحاسيس، تُضعف قدرتهم على صياغة مشاريع واختيارات.

إنّ أهم صورة من صور الديموقراطية، أي الصورة التي تدعو لها المؤسسات، هي صورة المواطن المسؤول والمهتمّ بالخير العام. بيد أنّنا نجد اليوم أنّ اللامبالاة السياسية تضرب أطنابها أينما كان، لاسيما في البلدان المزدهرة. حتى بدا أنّ الحياة الخاصّة قد انفصلت عن الحياة العامّة، وتضاءل شأن المشاركة السياسية. فما الذي جرى لهذه البلدان التي وافاها الحظّ فصارت حرّة منذ مدة طويلة، حتى تزايد فيه الحذر والخشية ممّا يُسمّى الآن بالطبقة السياسية، بينما نرى بلداناً كثيرة ترغب بمجيء الديموقراطية أو بعودتها؟

إنّ مثل هذه الظاهرة التي لا ينبغي اعتبارها كارثة حديثة العهد أو طامة لا قِبَل بعلاجها، لها أسباب كثيرة بعضها عَرَضي ومؤقت. لكنها ترتبط أيضاً بهزال الذهنية العامّة، وشيعوعة الانكفاء على الحياة الخاصّة التي تستطيع، في بعض الحالات، أن تغذي مطالب سياسية جديدة على نحو ما تبيّن بوجه خاص من الحركة النسائية، لكنها قد تصبح سلبية كذلك عندما لا تعود الحياة الخاصّة إلّا شاشة تنعكس عليها مراسيل مجتمع الاستهلاك، بحيث لا يعود بوسع الفرد، بعد أن كفّ عن كونه ذاتاً، أن يتحوّل إلى قوّة مجتمعية فاعلة، فيذوب في خضم دفقٍ متلاطم من المصالح والرغبات والصور.

فعوضاً عن أن نعارض بين الحياة الخاصّة والحياة العامّة، يجدر بنا أن ندرك أنّ كلّ ما من شأنه أن يعزز الذات الفردية أو الجماعية، إنّما هو يساهم مساهمةً مباشرة في الحفاظ على الديموقراطية وفي إنعاشها. كان الاعتقاد السائد في ما مضى أنّ على المرء أن يضحي بمصالحه الشخصية حتى يكون مواطناً كريماً، ناهيك بكونه ثورياً شهماً. أمّا اليوم، فيكاد يكون من الواجب أن نقول العكس. والذين يقتصر سلوكهم على المشاركة الخمولة في الاستهلاك يشكلون جمهور الدعم والمساندة لأولي السيطرة والهيمنة. وحدهم الذين تفردنوا، وأصبحوا ذواتاً، يستطيعون مواجهة السساتيم بمبدأ مقاوِم. ►

 

المصدر: كتاب ما هي الديموقراطية.. حُكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية؟

 

 


[1] - Gymnasiums : دور مخصصة للتربية البدنية في ألمانيا القرن التاسع عشر، تحوّلت إلى مدارس ثانوية ظلت تحمل هذه التسمية في فرنسا، شأنها شأن الليسية.

ارسال التعليق

Top