الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء
◄"عدل ساعة في الحكم خير من عبادة سبعين سنة" (حديث شريف).
لا تحيا البلاد ولا تفلح العباد، ولا تمصر الأمصار وتعمر القفار، وتزهر الديار إلّا بالعدل الشامل. ولا أظن هذا النوع من العدل تحقق في زمن من الأزمان ووقت من الأوقات اللّهمّ إلّا ما كان في عهد النبيّ محمد (ص) والخلفاء الراشدين أو من حذا حذوهم من... (وقليل ما هم) نعم لم يتحقق العدل في سالف العصور، ولا في هذه الدهور فكأن طينة هذا الإنسان الضعيف جبلت على اتيان الظلم والجور – جبل القوي على الاعتداء على الضعيف، والغالب على المغلوب وتلك سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا ولكن (حنانيك بعض الشر أهون من بعض) فلم تخلُ هذه الأرض من قائم يهدي الناس إلى سبيل الرشاد ويزمهم عن طرق الجور والفساد، وأقبح بالإنسان أن يعدو على أخيه في الإنسانية ويسلبه حقه فلا يبقي له ولا يذر وقد لا يكتفي بذلك فينكل به أشد تنكيل ويضعه في غيابة السجون ويورده ريب المنون.
فتشت عن العدل في مخازن التجار وبيوت الكبار وقرى الأغنياء وأكواخ الفقراء فلم أجده.
فتشت عليه في مدارس العلماء وأقوال الحكماء، وأماكن الأطباء ونوادي الحكام ودور الحكومات فلم أجده.
فتشت عليه في معاهدات الدول ومؤتمراتها، ومنتديات الأُمم وجمعياتها فلم أجد له من أثر ولم أقف لها على خبر.
اواه يا ربي فأين أجد العدل في الشرق وحاله كما ترى أم في الغرب وهو الذي يدوسه برجليه ولا يبالي فإذا لم أجد العدل في الأرض فلعلي أجده في السماء.
أنا لا اخال انّه يأتي على الإنسان حين من الدهر يذوق به طعم العدل اللذيذ وتمتع عيناه بمراه البديع وإذا لم يجده في عالم الفناء، فسوف يجده في عالم البقاء وهناك الحكم العدل والقول الفصل، وها نحن نذكر من وقت إلى آخر ما اتصف به بعض الأفراد من العدل ونأتي على طرف من أقوال السلف فلعلها تكون عظة وعبرة لهؤلاء الخلف.
ونحن نبتدأ في خطبة لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) لأنّ بها من الكلام العظيم والقول الجزل ما لا زيادة بعده لمستزيد والله ولي التوفيق إلى أقوم طريق قال عليه أفضل السلام والتحية: "اما بعد فقد جعل الله لي عليكم حقا بولاية أمركم. ولكم عليّ من مثل الحق الذي لي عليكم. فالحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف. لا يجري لأحد إلّا جرى له. ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصاً لله سبحانه دون خلقه لقدرته على عباده ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه ولكنه جعل حقه على العباد أن يطيعوه وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلاً منه وتوسعاً بما هو من المزيد أهله ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقاً افترضها لبعض الناس على بعض فجعلها تتكافؤ في وجوهها ويوجب بعضها بعضاً ولا يستوجب بعضها إلّا ببعض وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حقّ الوالي على الرعية وحقّ الرعية على الوالي. فريضة فرضها الله سبحانه لكلّ على كلّ نظاماً لالفتهم وعزا لدينهم. فليست تصلح الرعية إلّا بصلاح الولاة ولا تصلح الولاة إلّا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقّه. وأدّى الوالي إليها حقها. عزّ الحقّ بينهم وقامت مناهج الدين واعتدلت معالم العدل. وجرت على اذلالها السنن. فصلح بذلك الزمان وطمع في بقاء الدولة. وبئست مطامع الأعداء وإذا غلبت الرعية وإليها واجحف الوالي برعيته. اختلفت هنالك الكلمة. وظهرت معالم الجور. وكثر الأدغال في الدين وتركت محاج السنن فعمل بالهوى وعطلت الأحكام وكثرة علل النفوس فلا يستوحش لعظيم حقّ عطل ولا لعظيم باطل فعل. فهنالك تذل الأبرار".
ثمّ انّه (ع) لم يترك لما وصفه لحال الوالي والرعية وما لهما وعليهما من حقوق وواجبات في تلك البلاغة والوصف ما يعجز عن الاتيان بها أبلغ البلغاء والحكماء والمشرّعين في كل العصور. نعم انّه سلام الله عليه أخذ أيضاً نفسه كوالي على الرعية ليكون قانوناً لولاة العدل والأئمة من بعده. فيقول (ع): "... وان من استخف حالات الولاة عند صالحي الناس أن يظن بهم حبّ الفخر ويوضع أمرهم على الكبر. وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم إنّي أحبّ الإطراء واستماع الثناء. ولست بحمد الله كذلك ولو كنت أحبّ ذلك تركته انحاطا لله سبحانه عن تنازل ما هو أحقّ به من العظمة والكبرياء وربّما استحلى الناس الثناء بعد البلاء فلا تثنوا عليّ بجميل ثناء لاخراجي نفسي إلى الله وإليكم من التقية في حقوق لم أفرغ من أدائها وفرائض لابدّ من امضائها فلا تكلموني بما نكلم به الجبابرة. ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة ولا تخالطوني بالمصانعة ولا تظنوا بي استثقالاً في حقّ قيل لي ولا التماس اعظام لنفسي فإنّه من استثقل الحقّ أن يقال له. والعدل أن يعرض عليه. كان العمل بهما عليه أثقل فلا تكفوا عن مقالة بحقّ. أو مشورة بعدل...".
هذه خطبته (ع) ونحن أوردنا جلها لكي تعلم مبلغه من العدل والانصاف كيف لا وهو الذي يروي عنه انّه تخاصم مع رجل يهودي عند الخليفة الثاني فقال له عمر ساوِ خصمك يا أبا الحسن فغضب (ع) فظن عمر انّ ذلك لمساواة خصمه. فقال له أجل وانما لكونك دعيتني بالكنية التي تشعر بالرفعة ودعوة خصمي باسمه فما قولك بامة هكذا يسير امراؤها وحكامها قابل بينها وبين ما ترى اليوم تسمع تجد عجباً ولا تحسب انّ بين حكم أولئك وهؤلاء نسباً فمتى تقم الشرائع والأحكام وتتساوى في الحقوق الرعية والحكام (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) (إبراهيم/ 42) والسلام.
المصدر: مجلة آفاق الحضارة الإسلامية/ العدد 18 لسنة 2006م
ارسال التعليق