• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العفّة والحياء ودورهما في بناء الشخصية

مركز نون للتأليف والترجمة

العفّة والحياء ودورهما في بناء الشخصية
  -        الحياء: يُمثِّل الحياء صفة يرغب بها الناس ويمتدحونها ويذمّون نقيضها، لما تستبطنه من ردع عن المعاصي والقبائح، ولما تؤدّي إلى الورع عن المعاصي، عرّفها بعضٌ بـ: "انقباض النفس عن القبيح وتركه. لذلك يُقال حييّ فهو حي واستحيا فهو مستحي"[1]. وهذا الحياء خاصٌّ بالإنسان وهو يختلف عن حياء الله تعالى، فقد ورد عن الصادق (ع): "إنّ الله يستحيي من أبناء الثمانين أن يُعذّبهم"[2]، فليس يُراد به هنا انقباض النفس، إذ هو تعالى منزَّه عن الوصف بذلك، وإنّما يُراد به ترك تعذيبهم، وعلى هذا روي: "إنّ الله حييّ"[3] أي: "تارك للقبائح فاعل للمحاسن"[4]. وهو "التوبة والحشمة، وقد حيى منه حياء واستحيا أو استحى"[5]. جاء عن رسول الله (ص) أنّه قال: "الحياء شعبة من الإيمان"، وعن أبي عبدالله الصادق (ع): "الحياء من الإيمان والإيمان في الجنّة"[6]. وقد يتساءل بعضُ الناس كيف جُعل الحياء وهو غريزة عند الإنسان، شعبةً من الإيمان الذي هو اكتسابٌ. والجواب: هو أنّ الشخص المستحي ينقطع بواسطة الحياء عن المعاصي، وإن لم تكن له تقيّة (تقوى) داخليّة، فصار كالإيمان الذي يقطع عن المعاصي ويحول بين المؤمن وبينها، فقد جاء عن ابن الأثير قوله: "وإنما جُعل الحياء بعض الإيمان لأنّ الإيمان ينقسم إلى إيمان بما أمر الله به، وانتهاء عمّا نهى الله عنه، فإذا حصل الانتهاء عن القبائح بالحياء كان بعض الإيمان"[7]. ومنه الحديث: "إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت"[8]، والمراد أنّه إذا لم يستحِ الإنسان صنع ما شاء، لأنّه لا يكون له حينها حياءٌ يحجزه عن المعاصي والفواحش.   -        العفة: أمّا لغةً: فقد ورد عن ابن منظور أنها "الكفّ عمّا لا يحلّ ويَجمُلُ، عفّ عن المحارم والأطماع الدنية يعِفُّ عِفّة وعفا وعفافاً فهو عفيف، وعفّ أي كفّ"[9]. أمّا اصطلاحاً: فقد عرّفها النراقي "انقياد القوّة الشهوية للعاقلة فيما تأمرها به وتنهاها عنه حتى تكتسب الحرية وتتخلّص عن أسر عبودية الهوى"[10]. وقد عرّفها أيضاً في مكان آخر بأنها: "عبارة عن ملكة انقياد القوّة الشهويّة للعقل حتى يكون تصرفها مقصوراً على أمره ونهيه، فيقدم على ما فيه المصلحة وينزجر عمّا يتضمّن المفسدة بتجويزه، ولا يخالفه في أوامره ونواهيه"[11]. وهي من الصفات الممدوحة لدى الناس، فقد عُرِّفت بأنها الكفّ عمّا لا يحلّ القيام به من الأفعال القبيحة والشنيعة[12]، وهي: "حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة، والمتعفّف هو المتعاطي لذلك، بضربٍ من الممارسة والقهر، وأصله الاقتصار على تناول الشيء القليل الجاري مجرى العفافة والعفّة أي: البقيّة من الشيء"[13]. وأغلب الأخبار والروايات تُشير إلى عفّة البطن والفرج، وكفّهما عن مشتهياتهما المحرّمة، ويدلّ على أنّهما من أفضل العبادات لكونهما أشقّهما على النفس، وملازمة النفس لهذه المشتهيات منذ الصغر حتى صارت جزءاً منه ولهذا يشقّ عليه مجاهدة نفسه، وقد ورد عن الإمام أبي جعفر (ع): "إنّ أفضل العبادة عفّة البطن والفرج"[14].   -        منشأ العفّة والحياء: إنّ للعفّة والحياء منشأين: الأوّل: منشأ فطريّ: وقد حفلت الروايات بذلك، وأشارت إلى أنّهما من الأمور الفطرية، ومن لوازم الفطرة لدى الإنسان، وهما من جنود العقل أيضاً... فالعفّة والحياء والخجل من لوازم الفطرة البشرية، كما أنّ التهتُّك والفحش وعدم الحياء على خلاف ذلك[15]. وهي تظهر على الإنسان وحركاته بشكل جليٍّ وواضح، إذ بمجرّد تعرُّضه لحادث أو أمر حرج فإنّه العفّة والحياء يظهران عليه تلقائياً من دون حاجة إلى التعلُّم والاكتساب. الثاني: منشأ بيولوجي: وقد أشارت الدراسات إلى أنّ للحياء منشأً بيولوجياً يحصل إثر "نشاط الغدد التناسلية على الصفات الجنسية للذكر والأنثى، وهذه الصفات تنقسم إلى قسمين أساسية وثانوية. وتتمثّل الصفات الأساسية في شكل ووظيفة الأعضاء التناسلية، وفي قدرة الشخص على التناسل، أمّا الصفات الثانوية فتتمثّل في تمييز الرجل بضخامة تكوينه وقوّة عضلاته والجرأة والغلظة، وفي تمييز المرأة بنمو صدرها وتركُّز الدهن في أماكن خاصّة من جسمها وبالاستحياء والرقّة"[16]. فالحديث عن وجود وبروز الاستحياء لدى الفتاة أثناء نشاط الغدد التناسلية وتغيير جسدها، إشارة إلى عامل الإثارة والإغراء الذي يصدر عن الفتاة أمام الرجال، ولذا كان الاستحياء حاجزاً ومانعاً وحصناً لها من الوقوع في الفساد وحفظ نفسها من ذلك.   -        العلاقة بين العفّة والحياء: رغم أنّ العفة تُشكِّل إحدى الفضائل الأخلاقية وتُعد واحدة من أمّهات الفضائل الأربع (العفّة، الشجاعة، الحكمة، والعدالة)[17]، ويُمثِّل الحياء فرعاً من فروع العفّة، فإنّ العلاقة بينهما وثيقة جدّاً تكاد تخفى على بعضهم لدرجة أنّه يظن أنّهما بمعنى واحد، لكن يظهر للمتمعِّن أنّ الحياء، وإن كان فرعاً من فروع العفّة، إلا أنّ له دوراً كبيراً في ثبات العفّة وشدّتها لدى الإنسان، إذ كلّما اشتدّ حياء المرء كلّما زادت عفّته، فعن الإمام علي (ع): "على قدر الحياء تكون العفّة"[18]، وذلك لأنّ الحياء هو ترك القبيح، كما جاء في الروايات، ويصدّ عن الفعل القبيح[19]، وكلّما اشتدّ وإزداد حياء المرء، كلّما ابتعد عن القبيح والمعاصي، فهو كفّ وإبتعاد عنها، وهذا هو معنى العفّة. ولا يعني ذلك غياباً لإستعمال إرادة الإنسان، بل للإرادة دور مهمٌّ من أجل الوصول إلى حالة تمتنع بها النفس وتتحصّن من غلبة غريزة الشهوة والوقوع في الملذّات والشهوات غير المشروعة، فقد جاء في الحديث عن الإمام علي (ع): "سبب العفّة الحياء"[20]. صحيح أنّ حياء الإنسان من فعل القبيح ينبغي أن يكون نابعاً من ذاته، لكن أحياناً قد يحصل الحياء ويكون حياءً من الناس، حتى إذا ما اختلى بنفسه قام بما يُريده، إلا أنّ للحياء هنا درجات ومراتب، وكلّ مرتبة تُمهِّد للأخرى. ولهذا فإنّ الحياء من الناس، وترك القبيح استحياءً منهم، وإن لم يكن مندرجاً تحت عنوان الفعل الأخلاقي إلا أنّ الاستمرار به ومداومة القيام به يؤدّي شيئاً فشيئاً إلى الانتقال للمراتب العليا للحياء، ليصل به إلى مرتبة أعلى وهي الحياء من النفس، ثمّ بعدها الحياء من الله تعالى، وهذا هو الإيمان. فقد ورد عن الإمام العسكري (ع): "من لم يتقّ وجوه الناس لم يتقّ الله"[21]. ولهذا اعتبرت العفّة إحدى ثمرات الحياء، ولهذا أشار الإمام علي (ع): "أصل المروءة الحياء وثمرته العفّة"[22].   -        الفرق بين الحياء المذموم والحياء الممدوح: ينقسم الحياء إلى قسمين: ممدوح ومذموم، وكونه صفة أخلاقيّة لا يعني كونه ممدوحاً بالمطلق، فهو كأي صفة أخلاقية لها حدّا إفراط وتفريط وحدّ وسط، والإنسان بنفسه بُمكنه أن يحوِّله إلى مذموم أو ممدوح، تبعاً لعمله وكيفيّة الاستفادة منه، لذا فما كان من العقل والدِّين فهو ممدوح، وما كان من الحمق والجهل فهو مذموم، واليه أشار الرسول (ص) بقوله: "الحياء حياءان: حياء عقل وحياء حمق، فحياء العقل العلم وحياء الحمق الجهل"[23]. أ‌-     الحياء المذموم: هو الحياء المنبثق من عدم الثقة بالنفس، والخوف من مواجهة الناس على صعيد محادثة أو مقابلة، وإظهار الحق وما ينبغي إظهاره، وهذا ما يُسبِّب الجمود والانطواء للشخص ويضعف من شخصيّته، ويقيّد طاقاتها ويعيق تقدُّمها وتطوّرها، فهذا من قسم الحياء المذموم وهو سلبي، وقد نهى الإسلام عنه لأنّه يمنع من التعلُّم والتفقُّه في الدِّين ويمنع الرزق، ويحدّ الشخصيّة، ويُعطِّل قدراتها، ويَحرم المرء من الكثير من الأمور التي تواجهه. وبتعبير الرواية هو حرمان، فقد ورد عن الإمام علي (ع): "قُرن الحياء بالحرمان"[24] لأنّه يحرم الإنسان من الكثير، فهذا الحياء هو المذموم، وكلّ ما من شأنه أن يحرم الإنسان ويُقتّر عليه في عيشه وعلمه ويحدّ من علاقاته الاجتماعية وتفكيره فهو مذموم، وجاء أيضاً: "الحياء يمنع الرزق"[25]. ب‌- الحياء الإيجابي أو الممدوح: هو ذلك الذي يجعل المرء يستحي من مخالفة الله وارتكاب نواهيه، والتجاوز لحدوده الشرعية، فهو حياء ينبثق من الخوف منه تعالى، ويعني الدقّة والحذر الشديدين في أيِّ أمر، فهو حياء إيماني إلهي. فكلُّ ما من شأنه أن يدفع بالإنسان إلى التعلُّم والتفقُّه في الدِّين وكسب العيش وإظهار الحقّ وغيرها، فلا داعي للحياء فيه، ولهذا جاء النهي عن الحياء في الدِّين. وإنّ من أهمِّ ما يُفرّق بين الحياءين، هو أنّ الحياء السلبي لا يُمثِّل حصانة قويّة للإنسان، لأنّه حياء معرّض للزوال والذوبان، بينما الحياء الإيجابيّ هو حياء راسخ وعميق، لأنّه ينبثق من أسس إيمانيّة وخوف من مخالفة الله تعالى وعصيانه. ثمّ إنّ هذا الاختلاف بين الحياءين هو ثمرة العفّة والاحتشام، الذي ينشأ من شجرة الحياء الإيماني وليس الحياء الطبيعي، إذ إنّ الحياء الناشئ من الطبع والعادة لا ينتج بالضرورة حبّ الاحتشام والعفّة[26]. والمراد من حياء الطبيعي هنا هو الذي لا يكون له منشأ إيماني.   -        الفرق بين الحياء والخجل: قد مرّ تعريف الحياء وأنّه قسمان ممدوح ومذموم، أمّا الخجل فإنّه يفترق عن الحياء من حيث موقعه، فقد ذُكِرَ أنّه من الذلّ والدهشة وهو استرخاء، يُقال "رجل خجل وبه خجلة أي حياء، والخجل: التحيُّر والدهشة من الاستحياء وخجل الرجل خجلاً: فعل فعلاً فاستحى منه ودهش وتحيّر"[27]. فقد يقع الخجل من الإنسان موقع الذلّ والحيرة والدهشة، ويمنعه من اتّخاذ الموقف المناسب إزاءه. وهذا من الصنف المذموم، ويتلاقى مع الحياء المذموم الذي هو من الحمق والجهل. ويذكر الغزالي[28] الفرق بينهما فيُشير إلى أنّ كلّاً من الحياء والخجل من متفرِّعات العفّة، إلا أنّ الحياء هو وسط بين الوقاحة والخنوثة ويُستعمل في الانقباض والامتناع عن القبيح، وعمّا يظنّه المستحيي قبيحاً، وقيل هو ألمٌ يعرض للنفس عند الفزع من النقيصة والذمّ والتصغير، وقيل إنّه تقصير يقع فيه الإنسان أمام من هو أفضل منه، وقيل إنّه رقّة الوجه عند إتيان القبائح وتحفّظ النفس عن مذمومة يتوجّه عليها الحقّ فيها. وهذا ما يحصل عادة لدى الصبيان والنساء دون الرجال. وأمّا الخجل فهو فترة من النفس لفرط الحياء، وإنّما يستحيي الإنسان ممّن يكبر ويعظم في نفسه، فأمّا من يستحيي من الناس، فنفسه أخسّ عنده من غيره، ومن لا يستحيي من الله فلعدم معرفته به تعالى. ولذلك قال الامام علي (ع): "استحيوا من الله حقّ الحياء"[29]. وقوله تعالى: (ألَمْ يَعْلَمْ بأنَّ اللهَ يَرَى) (العلق/ 14)، إشارة إلى أنّه كلّما أحسّ في نفسه أنّ الله يراه فيستحيي لا محالة منه إن كان متديّناً معظِّماً له تعالى، كما قال (ع): "لا إيمان لمن لا حياء له"[30]، لأنّ الحياء لدى الإنسان يُمثِّل أوّل إمارات العقل، والإيمان آخر مراتب العقل، وكيف ينال المرتبة الأخيرة من لم يُجاوز الأولى؟ إذن، ضعف النفس وعدم ثقتها اتّجاه موقف ما يُسبِّب خجلاً فيمنع الإنسان من القيام به أو الانتهاء عنه وهو مذموم، بينما إذا كان صادراً عن رقّة الوجه ومنعها عن إتيان القبائح فهو من الممدوح عقلاً وشرعاً وهو من الإيمان، وأوّل درجاته، وأمارة من أمارات العقل، كما جاء عن الأمير (ع): أعقل الناس أحياهم"[31].  الهوامش:
[1]- الأصفهاني، الراغب، تحقيق صفوان عدنان داوودي: مفردات ألفاظ القرآن، ط1، دار القلم، دمشق، ودار الشامية، بيروت، 1996، ص270. [2]- الصدوق، ثواب الأعمال، ط2، مطبعة أمير، قمّ، ص189. [3]- المجلسي، بحار الأنوار، ط3، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1983م، ج91، ص296. [4]- مفردات ألفاظ القرآن، ص270. [5]- ابن منظور، محمد بن مكرم: لسان العرب، ط2، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت 1992، ج3، ص429. [6]- الكليني، محمد بن يعقوب، أصول الكافي: ط1، دار الأضواء، بيروت، 1992، ج2، ص112. [7]- ابن الأثير، مجد الدين الجرزي، النهاية في غريب الحديث والأثر، مؤسسة إسماعيليان، قم، 1367هـ ش، ط4، ج1، ص470 (بتصرّف). [8]- الري شهري، محمّدي، ميزان الحكمة: الدار الإسلامية، بيروت، 1985، ج12، ص567. [9]- لسان العرب، ج9، ص253. [10]- النراقي، محمّد مهدي، جامع السعادات: ط7، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 2002م، ج1، ص70. [11]- م.ن، ج1، ص87. [12]- الفراهيدي، الخليل: العين، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ص654. [13]- مفردات ألفاظ القرآن، ص573. [14]- انظر: أصول الكافي، ج2، ص84. [15]- انظر: الخميني، روح الله، جنود العقل والجهل، ط1، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 2001، ص274. [16]- أبو النيل، محمود السيد، سوقي، انشراح: علم النفس الفارق دراسات عربية وعالمية، دار النهضة، بيروت، 1986م، ص72. [17]- انظر: تفسير الميزان، ج1، ص371. [18]- ميزان الحكمة، ج2، ص564. [19]- م.ن، ص564. [20]- م.ن، ج2، ص564. [21]- بحار الأنوار، ج71، ص336. [22]- ميزان الحكمة، ج2، ص564. [23]- ميزان الحكمة، ج2، ص566. [24]- م.ن، ص565. [25]- م.ن، ج2، ص565. [26]- انظر: النوري، سعيد الميرزا، ثقافة الحجاب، ط1، دار المحجة، بيروت، 2001، ص27 (بتصرف). [27]- لسان العرب، ج4، ص30. [28]- انظر: الغزالي، أبو حامد، ميزان العمل، ط1، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1995، ص113 (بتصرّف). [29]- ميزان الحكمة، ج2، ص568. [30]- ميزان الحكمة، ج2، ص563.

[31]- ميزان الحكمة، ج2، ص563.

   المصدر: كتاب العفّة والحياء/ سلسلة ريحانة

ارسال التعليق

Top