العلّامة الراحل السيِّد محمّد حسين فضل الله
◄في واقعنا الأسري القائم في مجتمعاتنا وأعرافنا التقليدية تتحكم بعض الأساليب التي أصبحت واقعاً حياتياً معيشاً يحكم أسلوب التعامل بين الرجل والمرأة، أو بين الأبوين والأبناء، ويطبع العلاقة بينهما بطابعه... فنلاحظ مثلاً تحكّم أسلوب العنف الذي تطّبع به المجتمع العائلي فغدا يمثّل عُرفاً حتى غداً طبيعياً نحاول إعطاءه تبريراً منطقياً حين نمارسه بدعوى كونه نهجاً تربوياً يعمل على تطبيع المرأة وأسلوبها بما يتناسب مع تطلّعاتنا للبيت الزوجي، أو تطبيع الأبناء بطابع حياتي معين لتحقيق حالة الاستقرار داخل إطار الأسرة من خلال الالتزام بمنهج تعاملي مطلوب، والتناهي عن ممارسة أساليب حياتية اجتماعية أو فردية مخصوصة.
فنلجأ - مثلاً - من أجل فرض واقع انضباط المرأة - تجاه زوجها - لتنضبط عملياً بشكل حاسم في تحقيق رغباته ومختلف حاجاته ومطالبه، إلى التعامل معها بأسلوب العنف المتمثّل بالسب والشتم والإعراض والطرد والضرب وما إلى ذلك من وسائل الضغط التي يملكها الرجل. كما نلجأ لمثل هذا الأسلوب في التعامل مع الأبناء في مثل هذه الحالات؛ بل أصبحنا نلحظ تحكّم هذا الأسلوب في واقع هذه العلاقة لدى بعض من يدّعي الالتزام بالإسلام كمنهج وخطّ، وهذا يعطي الموضوع بُعداً سلبياً آخر.
وهنا نتساءل ما هو نصيب هذا الأسلوب من الواقعية والمنهجية؟ أو ما هو الأسلوب الذي يفرضه الواقع التربوي المطلوب اعتماده لتحقيق سلامة الحياة المنزلية، وضبط النهج الحياتي العائلي؟ بل ما هي طريقة الإسلام التربوية لتحقيق الهدف الحياتي الذي تفرضه المصلحة العائلية؟
لو حاولنا استكشاف المنهج الإسلامي في هذا الواقع لرأينا أنّ الإسلام حين قوَّم الواقع العائلي وشرّع له، نظر إليه من جانبين: 1- إنسانية كلّ واحد من أفراد الأسرة دون استثناء. 2- أخلاقية التعامل بين هؤلاء الأفراد، سواءً في إطار نظرة ربّ البيت لمن يعول، أو في إطار نظرة هؤلاء نحوه، وطريقة تعاملهم معه، فحاول أن يرسم خطوطاً للتعامل تراعي إنسانية الإنسان فيهم وأخلاقية العلاقة التي تقوم بينهم عاطفياً وسلوكياً، من جهة أخرى.
رعاية متبادلة:
فقد شجّع الإسلام كلّ واحد من الأفراد أن يشعر بالمسؤولية تجاه الأفراد الآخرين داخل الإطار المنزلي، من خلال إمكاناته وطاقاته، ليمارس دور الرعاية التي افترضها الإسلام في كلّ مسلم تجاه غيره من المسلمين، كما جاء عن رسول الله (ص): "ألا كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته، وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم" (صحيفة الرضا (ع)، ج3، ص1459). في الوقت ذاته رسم الإسلام حدوداً للتعامل وإطاراً للتعايش بالمعروف - ولا سيما في العلاقة الزوجية - (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء/ 19)، (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا) (البقرة/ 231). إنّ هذا يعطي صورة العلاقة التي يرسمها الله سبحانه ويريد لها أن تتحرّك داخل البيت، وتحدّد منهج الرجل الذي يمسك بحقّ القوامة على المرأة والولاية على الأبناء، في مجال التحرّك لحفظ الواقع ضمن إطار الرعاية (الأخلاقية) المتوازنة البعيدة عن كلّ افتئات على حقّ هؤلاء في العيش بحرّية وكرامة وسلامة، في ذات الوقت الذي يبادلونه فيه ذلك برعاية حقّه واحترام وجوده وقراراته التي يحدّد من خلال إطار التحرّك لهذا التجمع الإنساني الصغير.
ولابدّ لتحقيق هذا التعايش بالمعروف من التزام منهج العمل باحترام إنسانية كلّ واحد من هؤلاء واعتماد أسلوب التراحم ورعاية المشاعر والأحاسيس، وبناء روح المحبّة والتعاطف، وحمل ما تفرضه المسؤولية الخلقية والشرعية من التزامات مادّية ومعنوية وروحية؛ مضافاً إلى الشعور بالمسؤولية التربوية تجاههم بتصحيح مسيرتهم في الحياة بمختلف جوانبها من خلال أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة. فمهمّة القوامة أو الولاية ترتب على القيم والولي مسؤولية التنظيم والتوجيه للحياة الأسرية للحفاظ على سلامة الأسرة، مما يلزمه في المقابل انضباط هؤلاء مع توجهاته، حين لا تتنافى مع واقع العدالة وسلامة الفكرة والقرار وحين لا يتم التجاوب مع الولي والقيم، فله فرض حالة الانتظام بالأسلوب المنتج الفاعل.
منطق الحكمة أوّلاً:
لعلّنا لو لاحظنا واقع الحياة العائلية لرأينا أنّها بحاجة ماسة لهذا النوع من التعامل كي تنطلق بحيوية وقوّة لتعطي نتاجها المتوخّى المتمثّل ببناء البيت السليم، والإنسان السوي مادّياً وروحياً وخلقياً. لذا من المفترض في القيم.. أن يركّز القواعد والأُسس من خلال دوره التوجيهي على النهج الفكري والسلوكي السليم الثابت ولتحقيق هذا الدور لابدّ من التحرّك بمنطق اللين والحكمة واللطف في البداية، دون منطق العنف والقوّة، الذي لا مجال لاعتماده، إلّا حين ينحصر به العلاج، ويكون آخر الدواء.
في الإطار الزوجي:
في حالة العلاقة الزوجية التي تربط الفرد بمن تعاقد معه بعقد الزوجية لابدّ من النظر إلى الواقع من وجهة نظر شرعية من جهة، وإنسانيةٍ من جهة أخرى؛ ففي الجانب الإنساني لابدّ من النظر للموضوع من نقطة أنّه يتعاقد مع إنسانٍ مثله، يشترك معه في كونه جسداً وروحاً وعاطفةً ومشاعر وحاجات. وكجسدٍ يحتاج لكلّ ما يتوقف عليه تكوينه ووجوده، ويتأثر بما يتأثر به من إيجابيات وسلبيات. كما أنّه كروح ومشاعر بحاجة لكلّ غذاء روحي وعاطفي يساعد في النمو والتركيز والامتداد.
وانطلاقاً من هذا لابدّ للإنسان أن يضع في اعتباره أنّ تركيز واقع الحياة العائلية يفترض التعامل مع الطرف الآخر من منطلق رعاية واقع إنسانيته التي تحدّد طريقة التعاطي معه في مختلف المجالات الحياتية، ولا سيما حين نرى طرح الإسلام: "الناس سواسية كأسنان المشط"، وهذا ينفي التفاضل بينهم في الإطار الإنساني ويحصره في الإطار السلوكي والخلقي القائم على أساس تقوى الله التي تفرض بعض الضوابط الخلقية والاجتماعية والروحية التي جرت سنّة الله في الحياة على الالتزام بحساباتها وتفاصيلها.
فلابدّ إذاً من استيعاب أنّ المرأة قبل أن تكون زوجة تمثّل وجوداً إنسانياً، يتساوى في الملامح العامّة مع أي وجود بشري آخر سواءً في إطار الفكر والذهنية، أم التطلّعات والعواطف والحاجات والمتطلّبات المادّية الجسدية، والمعنوية والروحية وما إلى ذلك، رغم وجود بعض الخصائص والميزات التي تطبع كلّ واحدٍ من هذه الوجودات بطابع خاص يختلف من خلاله عن الموجودات الأخرى.
نظرة شرعية إسلامية:
وفي الجانب الشرعي التكليفي، لا يفرض التشريع الإسلامي في الإطار العام على المرأة تجاه الرجل سوى ضرورة التجاوب معه في مجال الخصوصيات الزوجية المحدّدة، وحفظ أمانة الواقع المادّي الحياتي، والتزام الضوابط في مجال مغادرة المنزل الزوجي. أمّا في ما عدا ذلك.. من أمثال الخدمات التي جرت طريقة العُرف على أدائها لها، والالتزام بكلّ الأوامر الصادرة عن الزوج - مهما كانت - فهو مما لا يفرضه عليها التشريع، بل يترك أمره لمشيئتها بالذات، ولإرادتها الحرة دون أن يسمح بفرض ذلك قسراً عليها لتمثّل دور الخادمة المستأجرة؛ كما جاء في إجابة الإمام الخوئي (رحمه الله) في أنّ كون ذلك مرتكزاً عُرفياً لدى مجتمعاتنا، لا يجعله شرطاً ضمنياً عليها حين الزواج، كي يفترض فيها الالتزام به "لأنّ المتعارف إنما هو قيام الزوجة بهذه الأمور عن طوع ورغبة، من دون إلزام والتزام فلا يكون إذاً شرطاً ضمنياً مبنياً عليه العقد" (منية السائل، ص109). وما ذلك إلّا لأنّ الإسلام أراد للحياة الزوجية أن تتحوّل إلى حياة حبّ وتضحية وحين يشعر الزوج بأهمية تلك التضحيات فإنّه يبادلها بالشكر واللطف والمحبّة.
وانطلاقاً من هذا، فإنّ بعض الممارسات القائمة لدى بعض الناس في مجتمعاتنا يتنافى كثيراً مع الأسلوب الإنساني والشرعي الذي يفترض بنا التزامه.. فلا مجال عندها للتعامل مع الزوجة بأسلوب العنف الذي يمارس بطريقة الشتم والتحدي وصولاً إلى أسلوب الضرب، الذي يتحركون به كواقع طبيعي عادي لا مجال لتوجيه اللوم عليه وإنكاره. ومن الطبيعي أنّ هذا الأسلوب يمثّل ظلماً يرفضه الإسلام مهما كانت صورته، إلّا في حالات خاصّة نادرة؛ فقد ورد عن رسول الله (ص) كما في (البحار، 103، ص249): "إنِّي أتعجب ممن يضرب امرأته وهو بالضرب أولى منها" وقوله (ص) كما في (البحار، ج76، ص366): "ألا وإنّ الله ورسوله بريئان ممن أضرّ بامرأته حتى تختلع منه".
مع المنهج الأجدى:
لذلك، فحين يرمي الزوج إلى تطبيع واقع زوجته بالشكل المتناسب مع تطلّعاته وأحلامه.. حين يشعر بضرورة انسجامها وشعورها بالمسؤولية معه، لابدّ له أن يستخدم منهج الرفق واللطف من جهة والحوار والإقناع من جهة أخرى فبذلك يمكن انتزاع القرار الذاتي منها في تحقيق تلك التطلّعات وتجسيد تلك الأحلام. وهذا يساهم في بناء صروح الثقة فيما بين الجانبين، ويدفع الزوجة إلى تحقيق سعادة الرجل والبيت بشكل عام برغبة ومحبّة. فالعنف في أكثر الحالات لا يحقق النتائج المطلوبة، بل قد ينعكس سلباً على كلّ واقع الحياة التي تتحوّل حينها إلى سجن كبير لكلا الجانبين، فيعملان عندها للتحرّر منه ولو من خلال تدمير القفص الزوجي وإنهاء دوره.
من هنا فإنّ الإسلوب التربوي الذي لابدّ أن يماري، ينبغي أن يتحرّك في أجواء الحكمة والموعظة الحسنة باستخدام الكلمة الطيبة التي جعلها القرآن: (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا) (إبراهيم/ 24-25)، ليتم إلغاء السلبيات بهذه الطريقة، لا بطريقة القوّة والعنف الذي ربما يتاح للطرف الآخر استخدامه، فتتحوّل الحياة إلى صراع ومشاكل تنعكس سلباً على كلّ واقع الحياة العائلية؛ إذ من الطبيعي انعكاس الصراعات الزوجية الحادة المعلنة على واقع الأبناء فتحدّد من خلالها طريقة تفكيرهم وأسلوبهم الحياتي، بل قد تخلق العُقد الكبيرة داخل تكوينهم النفسي، وذلك يطبعهم بطابع مشوّه يقود إلى الضياع والانحراف، وهذه سلبية أخرى من سلبيات النزاعات التي تقوم بين الزوجين تدفع بنا للتروي قبل الوصول إلى هذه السلبيات.
وفي إطار الأبناء:
حمّلنا الإسلام مسؤولية هامة في هذا المجال هي رعاية واقع أطفالنا لإخراجهم للحياة عناصر سليمة صالحة، تخدم الحياة وتبنيها بناءً ثابتاً متيناً لا يتزلزل أمام أي عاصفة وطارئ. وهذا يدعونا للتفكير بجدية في طريقة التعامل معهم منذ بداية تحركهم في هذه الحياة فنتعهدهم بالرعاية الكافية لتحويلهم إلى عناصر تبني الحياة، وتتقدّم بها نحو الأفضل بالأسلوب الذي أراده الله سبحانه. فنحن إذاً نتحمّل مسؤولية صياغة شخصيتهم مستقبلياً، ليتحوّلوا إلى قوّة فاعلة في مجال الإعمار.
لابدّ من اعتماد منهج تربوي مركّز لتحقيق هذا الهدف. ولا مجال لالتزام منهج إعطاء الأوامر والتعليمات المَلَكية لتوجيههم. فذلك وحده لا يعطي أثره الطبيعي المطلوب، ولا سيما حين يصل الطفل إلى مرحلة من الوعي والتفتح الذهني، لأنّ الأب ليس هو العامل الوحيد الذي يؤثّر في الطفل، ويصوغ شخصيته ونفسيته ومسلكه، بل هناك عوامل أخرى متعدّدة، من غرائزه وشهواته ومتطلّباته التي تتحكّم بواقعه وإرادته وتكوين أهدافه، وكذلك الكلمات والأفكار التي يأخذها عن والديه وعن الناس، وكذلك الزملاء الذين يختلفون في تربيتهم وفكرهم ومزاجهم وما اكتسبوه من عادات وتقاليد وأعراف، ومن المدرسة والشارع والمجتمع، إلى غير ذلك مما يعمل في طبع عقلية الطفل وعاداته...
لذلك لابدّ للولي من اعتماد منهج متوازن يبدأ من إعطائه المثل الصالح، بتركيزه من خلال النهج الذي يعتمده الولي في الحياة. فلا يمارس بعض الأساليب التي ينهاه عنها حين ينهاه عن الكذب، ويكذب معه، ويمنعه عن الألفاظ الفاحشة البذيئة ويطلقها أمامه، وعن الخيانة ويخون، وعن الظلم ويظلم، وأمثال ذلك مما يرتد سلباً على أسلوب الطفل، فيتحوّل إلى منافق كبير. ولابدّ له أيضاً من التدخل لاختيار الرفقة ليكونوا ممن عاش تربية أخلاقية سليمة، واختيار المدرسة، بل والكلام الذي يلقيه عليه، وما إلى ذلك مما له تأثير كبير في تكوين منهجه وعقليته وتفكيره وأسلوبه. ومن هنا نهى النبيّ (ص) إحدى النساء عن وعد طفلها بشيء لا تعطيه إياه، لأنّها تكون كاذبة وتعلّمه الكذب في الوقت ذاته.
سلبيات العنف:
بهذا يمكن الوصول بالطفل إلى تربية هادفة، ولا يصح اعتماد أسلوب الضرب والشتم والعنف كأسلوب من أساليب منع الطفل عن عادات معينة، أو أسلوب يتنافى مع المنهج الذي يراد اعتماده..
فإنّ للضرب والعنف سلبيات كثيرة في كثير من الحالات:
فهو من جهة يطبعه بطابع العنف كأسلوب من أساليب الحلول للمشاكل التي قد يواجهها في حياته، وهذا يقوده لمواجهة الكثير من التحديات حين يتّجه لعلاج أي موضوعٍ أو قضية يفرض واقعه وحاجته علاجها. وذلك ينعكس سلباً على مختلف حالاته، وربما تكون عاملاً من عوامل الفشل في مستقبله.
وهو من جهة أخرى يبني نفسيته على الضغينة والحقد الذي يحمله تجاه من يعايشه من أهله، ولا سيّما حين لا يستوعب دوافع القسوة تجاهه، أو حين يجد أنّ الآخرين لا يفهمون حالته ولا يستوعبون واقعه.
ومن جهة ثالثة يخلق في داخله عامل الخوف والرهبة من الآخرين، فينطلق في اتخاذ قراراته الحياتية بفعل هذا العامل الذي ربما يقوده إلى الانحراف في تبنّي القرارات في مستقبله.
كما ربما يقوده هذا الأسلوب لممارسة دور التحدي والتمرد برفض ما يطرحه الآخرون مهما كان موضوعياً وسليماً حين يفسح له المجال للاختيار، تنفيساً عن الضغط النفسي الذي خلّفه العنف في داخله حين واجهه وعاش حالته، فيتحرّك من باب الشعور بضرورة استرداد الكرامة التي امتهنت.. ولو كانت من خلال علاقته بأبويه، وأقرب الناس إليه.
من هنا لا مجال لاعتماد أسلوب العنف مع أبنائنا مهما كانت الدوافع؛ ففي الكثير من الحالات لا يعطي النتائج المتوخاة، بل ربما ينعكس سلباً على كلّ واقع حياته أو حياة الآخرين ممن يعايشه. فالعنف قد يخلق عُقدة حادة في حياته تجعل كلّ الواقع لديه معقّداً صعباً. ومن الطبيعي أنّ المطلوب في مجال التربية هو تحقيق النتائج من خلال الدخول إلى نفس الطفل وترويضها خلقياً، لا بطريقة العنف. وهذا ما اعتمدته الرسالة في منهجها، فقد ورد عن رسول الله (ص): "مَن كانت له ابنة فأدّبها وأحسن أدبها وعلّمها فأحسن تعليمها فأوسع عليها من نعم الله التي أسبغ عليه كانت له منعة وستراً من النار" (كنز العمال، خبر 45391).. وقوله (ص): "احبّوا الصبيان وارحموهم" (البحار، ج 104، ص93).. وقوله (ص): "مَن كان له صبي فليتصاب له" (كنز العمل، خبر 45413) وعن عمر بن الخطاب قال: "رأيت الحسن والحسين على عاتقي رسول الله (ص) فقلت: نعم الفرس لكما.. فقال (ص): ولنعم الفارسان هما" (البحار، ج 43، ص285).. وقوله (ص): "اكرموا أولادكم واحسنوا آدابهم" (كنز العمال، خبر 49409) إلى غير ذلك الكثير من كلمات الرسول (ص) الداعية إلى الدخول إلى نفسه من خلال أسلوب المحبّة والعاطفة والشعور بالمسؤولية تجاهه لا من خلال الشدة والعنف.
شواذ القاعدة:
وليس معنى ذلك شمول هذا الحكم لكلّ الحالات. إذ قد يكون بعض الشدّة علاجاً يتحقّق من خلاله نتائج إيجابية، فبعض النماذج لا تستكين إلّا لأسلوب الشدّة من خلال واقعها وتركيبتها النفسية. لكن لابدّ قبل اللجوء إلى العنف من دراسة الواقع النفسي لدى الطفل، وملاحظة واقعه العاطفي والروحي، ومدى انسجامه مع الفكرة إلّا بهذا الطريق، وهذا يفرض اللجوء إليه، شرط أن لا ينطلق الأب أو الأُم في حركتهما التربوية الحادة متأثرَيْن بعامل الانفعال والتوتر الذي يقود غالباً إلى تجاوز الحدود المرسومة. فلا مجال شرعاً لمثل الأب الولي أن يضرب ولده أو يقسو عليه أكثر مما تفرضه الحاجة التربوية، وإلّا فإنّه يكون ظالماً. وقد ورد في بعض استفتاءات الإمام الخوئي (رحمه الله) عن الحدود التي تجوّز ضرب التلاميذ في المدرسة؟ وهل يجب أخذ إذن ولي التلميذ؟ بأنّه: "لا يجوز ضربهم إلّا لدى إيذائهم الآخرين وإخلالهم بنظام المدرسة، أو ارتكابهم محرماً، فحينئذٍ يجوز ضربهم بإذن الولي بمقدار خمسة أسواط أو ستة برفق، بنحو لا يستوجب الدية" (أي لا يؤدي إلى جرح أو كسر أو إيذاء)... (منية السائل، ص216).
بناء عامل الثقة:
فمن أجل بناء روحية أبنائنا وتركيز واقعهم لابدّ من العمل على خلق حالة الشعور بالثقة بالنفس لدى الولد، بإشعاره بالكرامة والعزة والاحترام. فلا نحاول تعنيفه وتأنيبه أمام الآخرين حتى إخوته، حين يمارس أي دور خاطىء، مع أنّ المفروض فيه كطفل أن يقع في ممارسة بعض الأخطاء، لأنّ واقعه النفسي والفكري وضيق أفقه يفرض وقوعه في مثل ذلك. ولابدّ من إشعاره بأخطائه بهدوء، وحين لا يستجيب لمثل هذا التصحيح يمكن التشدّد في معاملته حسب ما تفرضه الضرورة، شرط إشعاره بدوافع العنف الذي مورس معه، والإيحاء له بالضرر الذي يترتب على سلوكه الذي عوقب عليه.
ولابدّ من الإشارة إلى ضرورة التعامل بصدق مع أبنائنا، فلا نمارس معهم أسلوب الغش والخداع والكذب، لأنّ ذلك مرفوض تشريعياً من جانبَين: أحدهما حرمته في نفسه، وثانيهما تأديته إلى تربية الطفل على هذه الوسائل المنحرفة التي سيتلقنها ويتطبع بها، ولا سيما حين تصدر من أبيه الذي يعتبر مثله الأعلى. كما لا يصح تهديده بما لا ننفذه من وسائل العقاب، فإنّ ذلك سيفقد تأثيره عليه مستقبلاً، ويجب أيضاً أن نمتنع عن ممارسة دور الهزء والسخرية به كي لا نخلق فيه الشخصية المهتزة الضعيفة المشوّهة.
باختصار:
المسؤولية التي تفرضها الولاية والقيمومة ترتب على الولي القيم أن يشعر بضرورة التعامل مع مَن يتولّى رعايته ويقوم على أموره بأسلوب الحكمة، والعدالة، فلا يتجاوز الحدود التي ترسمها الإنسانية، ويخطها التشريع الرسالي الذي يطبع أُطر الحياة الصغيرة والكبيرة بطابع الحقّ والعدل والأخلاقية المتميزة، لتتحوّل الحياة في كلّ هذه الأُطر إلى واقع يمثّل الحنو والحبّ والرفق واللطف، فنعيش أجواء الرحمة ضمن واقع العدالة. هذا هو النهج الذي أراد الله سبحانه لنا أن نرسمه لواقعنا الداخلي وعلاقتنا مع الأزواج والأبناء... فالله سبحانه رحيم يحبّ الرحماء.►
المصدر: مجلة نور الإسلام/ العدد 53 و54 لسنة 1994م.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق