• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التقوى.. مدار حوارات

أ. د. سعيد إسماعيل علي

التقوى.. مدار حوارات

هو رسول رسالة التوحيد، وهو رسول جاء ليتمم مكارم الأخلاق، فاستحق مديح المولى - عزّوجلّ - بوصفه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/ 4)، ومن هنا نجده (ص) في حواراته يجعل من التقوى المحور المركزي، ولا عجب في ذلك، فالتقوى هي بالفعل تجمع بين الإيمان بالله وحُسن الخلق. وكلا الأمرين يؤديان إلى رشد التفكير وعمق التعقّل؛ لأنّ مَن يستخدم عقله بصفاء قلب وإخلاص نية لابّد أن يتجه على الفور إلى الله، وهو إذ يتجه إلى الله يجد أنّ شرط ذلك أن يكون على خلق عظيم أُسوة برسول الله (ص).

واستخدم رسول الله الحوار في التنمية العقلية للمسلمين عامّة، فمن ذلك ما رواه أحمد، واللفظ له، والطبراني، عن أبي أمامة الباهلي: "أنّ فتىً شاباً أتى النبيّ (ص) فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنى، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه"!.

هنا تجلت عبقرية الرسول التربوية فقال: "ادنه". فدنا منه قريباً فجلس، وهنا دار الحوار التالي:

سأل رسول الله الفتى الشاب: "أتحبّه لأُمّك؟" قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك.

قال: "ولا الناس يحبّونه لأُمّهاتهم". ثمّ سأل: "أفتحبّه لابنتك؟" قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك. فقال الرسول: "ولا الناس يحبّونه لبناتهم".

ثمّ سأل: "أفتحبّه لأختك؟" قال الفتى الشاب: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك. قال: "ولا الناس يحبّونه لأخواتهم".

قال: "أفتحبه لعمتك؟" قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك. قال "ولا الناس يحبّونه لعماتهم".

قال: "أفتحبّه لخالتك؟" قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك. قال: "ولا الناس يحبّونه لخالاتهم".

قال: فوضع رسول الله (ص) يده عليه، وقال: "اللّهمّ اغفر ذنبه، وطهّر قلبه، وحصن فرجه". قال: فلم يكن الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شيء.

فها هنا نرى كيف استأصل رسول الله (ص) من نفس الفتى تعلّقه بالزنى، عن طريق الحوار والمحاكمة النفسية والموازنة العقلية، دون أن يذكر له الآيات الواردة في تحريم الزنى والوعيد للزاني والزانية، نظراً منه أنّ هذا أقلع للباطل - في ذلك الوقت - من قلب الشاب بحسب تصوّره وإدراكه.

فالعقل إذن يمثل جانباً مهمّاً يقوم عليه الحوار والجدل، وعن طريقه يتمكّن الفرد من رؤية الصواب والخطأ، كما يتمكّن من التمييز بين الحسن والقبيح، والحقّ والباطل، بالحُجة والبرهان والإقناع، لا بالقسر والإكراه أو التقليد الأعمى. وإذا كانت شرائع الإسلام تقوم على الإيمان الصحيح، والذي يقوم هو الآخر على العلم؛ إذ كلّما علم الإنسان وآمن بما علم ازداد إيمانه - فهناك فرق بين الإيمان المجمل والإيمان المفصّل، فرق كبير بين مَن يؤمن على وجه الإجمال بأنّ كلّ ما أمر الله به فهو خير، وكلّ ما نهى عنه فهو شرّ، وبين مَن يعرف بالأدلة العقلية أو بالتجربة، الحسية الخير الكامن في أمور معينة نهى الله عنها.

والحوار هو المظلة الكبيرة التي انضوت تحتها صور وأشكال متعدّدة لتنمية الفكر وإثارة العقل، سواء عن طريق استخدام القياس، أو السؤال:

فمن حيث القياس، هذا الحوار الذي أوردناه عن الذي كان يريد الزنى، وكذلك: روى البخاري عن ابن عباس أنّ امرأة من جهينة جاءت إلى النبيّ (ص) فقالت: إنّ أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: "نعم، حجي عنها، أرأيتِ لو كان على أُمّك دين أكنتِ قضيتهِ؟" قال: نعم. فقال: "اقضوا الله الذي له، فإنّ الله أحق بالوفاء".

ومن ذلك - أيضاً - ما رواه مسلم عن أبي ذر الغفاري: "أنّ ناساً من أصحاب النبيّ (ص) قالوا للنبيّ: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور (ذهب أهل الغنى بالثواب)، يُصلُّون كما نصلِّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدّقون بفضول أموالهم! قال: "أوَليس قد جعل الله لكم ما تصدّقون؟ إنّ بكلّ تسبيحة صدقة، وكلّ تكبيرة صدقة، وكلّ تحميدة صدقة، وكلّ تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة (أي في معاشرة الرجل زوجته)". قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر".

فها هنا نجد أنّه (ص) قد استخدم القياس المنطقي بين أمرين، حتى اتضح لهم الحكم، وفهموا ما لم يكن يدور في خلدهم، وهو أنّ مثل هذا الاستمتاع المشروع يكون به للمرء أجر وثواب، لما يترتّب عليه من الآثار الحسنة.

وفي هذا دليل على أنّ المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات، فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حقّ الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به، أو طلب ولد صالح، أو إعفاف نفسه أو إعفاف الزوجة ومنعهما جميعاً من النظر إلى حرام أو الفكر فيه أو الهم به، وغير ذلك من المقاصد الصالحة، فالصحابة الكرام تعجبوا من هذا الأمر، وهو أنّ الإنسان يأتي أهله ويقضي شهوته ويتمتع ثم يثاب على ذلك، وكان يكفي أن يقول لهم (ص) إنّ الله قضى بذلك وحكم، وهذا أكبر دليل وأعظم حُجة؛ لأنّ قول الله تعالى وقول الرسول هو الحُجة والدليل، ولكنّه لم يكن ليكتفي بذلك بل ذكرهم نظير هذه المسألة مما هو معلوم لديهم ومسلّم عندهم، وبهذا يترك لهم الفرصة ليفكّروا وينظروا، ويقيسوا الأشباه بالنظائر وينتقلوا من الغائب إلى الحاضر، فقال لهم: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر".

ومن أشكال الحوار النبويّ في التربية الخلقية والاجتماعية، النموذج الذي حكاه أبو هريرة في قصة الرجل الذي وُلِد له غلام أسود، وكان يشك في بنوّته لمجرد أنّ لونه يغاير لون أبيه، فنجد الرسول المعلم (ص) لا يقبل قول الرجل على علاته، ولم ينكر عليه مقالته إنكاراً مباشراً، بل حاوره بطريق إقناعي ذاتي، فضرب له المثل الحسي الذي يعرفه في حياته اليومية، ليرشده إلى خطأ فكرته التي ظنّها يقيناً فيوجّه إليه السؤال قائلاً: "هل لك من إبل؟" فيجيب الرجل: نعم. ويقول الرسول: "ما ألوانها؟" فيجيب الرجل: إنّها حُمر، فيتابع الرسول سؤاله: "هل فيها من أورق؟"، فيجيب الرجل: نعم. وهنا يأتي السؤال الجوهري الحساس الذي يزلزل الشك في نفس هذا الرجل، يقول رسول الله: "فأنى ذلك؟"، وهنا يدرك الرجل خطأ اتهامه لزوجته، ويقول مجيباً: "لعله نزعه عرق"، يرد النبيّ المعلم على الفور: "لعلّ ابنك هذا نزعه"، فيبعد التهمة عن الزوجة، ويحفظ للولد النسب، ويزيل الشك من نفس الزوج، ويذهب قانعاً.

أمّا السؤال، فقد كان تعليمياً بدرجة واضحة، ففي كثير من المواقف، نجد أنّ الرسول يعلم أنّ مَن يسألهم لا يعرفون الإجابة، لكن بدء التعليم بطرح سؤال، مما يثير انتباه المتعلّم، ويشعره بأنّ هناك ثغرة في بِنْية المعرفة يهمه أن يسدها، فيزداد إصغاءً وانتباهاً، وبالتالي استيعاباً لما تأتي به الإجابة عن التساؤل الذي جهله.

ومن أمثلة ذلك ما وجهه رسول الله (ص) من أسئلة إلى المسلمين في حجة الوداع، قال أبو بكرة نُفيع بن الحارث: إنّ النبيّ (ص) قال في حجة الوداع: "أي شهر هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظنّنا أنّه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس ذا الحجة؟" قلنا: بلى، قال: "فأي بلد هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظنّنا أنّه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس البلدة؟" قلنا: بلى. قال: "فأي يوم هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظنّنا أنّه سيسميه بغير اسمه، فقال: "أليس يوم النحر؟" قلنا: بلى. قال: "فإنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا...".

ويمكن تسمية هذا النوع من الأسئلة بأنّها "تنشيطية"، فالجواب عن هذا النوع من الأسئلة ليس صعباً، بل كثيراً ما يكون واضحاً، ومن شدة وضوحه تشرئب الأعناق إلى صاحبه ظانة أنّه سيأتي بأمر جديد لم يتعوّدوا عليه ولم يتقدّم لهم، وإذا بالجواب يتكوّن من جانبين: أحدهما معلوم لا يختلف عما جال بذهن المستمعين ولما هو متداول عندهم، والآخر حكم شرعي أو تويجه نبويّ هيئت له الظروف حتى يعلّق بالأذهان، فهو يشمل أُسساً بُني عليها الدين، وقامت عليها أركان بناء الفرد والمجتمع، والتعامل مع الكون بصفة عامّة.

ويؤكّد رسول الله (ص) في كثير من حواراته على إثارة التنافس بين طالبي المعرفة من أجل ترسيخ أمور العقيدة في نفوسهم وتعليمهم أمور دينهم من خلال التسابق إلى فعل الخيرات والصالحات من الأعمال، وجاءت السُّنة النبويّة حافلة بمثل هذه الحوارات التي أثارت المنافسة بين المتعلمين، وهذا الأمر فهمناه من خلال الحديث الذي يرويه عبدالله بن عمر عن النبيّ (ص)، أنّه قال: "إنّ من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنّها مثل المسلم، حدثوني ما هي؟" قال: فوقع الناس في شجر البوادي. قال عبدالله: فوقع في نفسي (تصوّرت) أنّها النخلة. ثمّ قالوا: حدِّثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: "هي النخلة".

ففي هذا الحوار عن طريق التساؤل، أثار النبيّ (ص) أذهان الصحابة إلى ضرورة التأمّل في هذه الشجرة التي تشبه المسلم، ثم تسابق الصحابة في محاولة معرفة هذه الشجرة، وهذا أسلوب يُعدّ من أنجع الوسائل التربوية التي تجعل المتعلمين يحرّكون أذهانهم وأفكارهم للوصول إلى الجواب قبل بعضهم، وفي هذا الحوار استخدم رسول الله التمثيل من أجل إثارة الدافعية عند المتعلمين للوصول إلى حقيقة هذا المثل، فبيّن النبيّ أنّ هذه الشجرة وما تمتاز به من الصفات الجميلة عن بقية الشجر تجعلها مماثلة للمسلم الملتزم بتعاليم الإسلام والأخلاق الحميدة والصفات النبيلة، التي تجعله جميلاً ومتميّزاً عن بقية الناس.

ورأى ابن حجر أنّ هذا الحديث قد اشتمل على فوائد متعدّدة، عدّ منها: أدب الحديث في المجالس إذا حضر من هو أعلم منّا سنّاً، وفيه أدب العالم والمتعلّم في مجلس العلم، وهذا نفهمه من موقف ابن عمر عندما أخبر والده بمعرفته الشجرة، لكن الحياء منعه من التصريح لشعوره بأنّه صغير السن في مجلس كبار، وفيه أنّ الأب دائماً يسعى لأن يكون فلذات كبده أفضل الناس خُلقاً وعلماً.

لكن هناك وجهة نظر أخرى إزاء موقف ابن عمر ذلك أنّ ترك الحياء في مثل هذه الحالة مستحب، فالعلم في حاجة إلى الشجاعة وإلى التغلّب على الحياء في العلم؛ ولذلك عنون البخاري لهذا الحديث في كتاب العلم بقوله: "باب الحياء في العلم" وقرن هذا العنوان بقول مجاهد: لا يتعلّم العلم مستحي ولا مستكبر. ثمّ عنون له في كتاب الأدب بقوله: "ما لا يستحيي من الحقّ للتفقه في الدين".

ومن ثمّ فالواجب يدعوهم إلى التفكير وإلى استخدام القوى التي وفرها الله للإنسان والتفطّن لكلّ ما يحتويه السؤال من قرائن، واستخدام كلّ الوسائل، ثمّ بعد ذلك يكون الإقدام على الجواب دون حياء أو تكبر، فهذا وذاك يحجبان العلم ويمنعان انتشاره ونماءه.

 

المصدر: كتاب الحوار منهجاً وثقافةً

ارسال التعليق

Top